صخر الضاد.. رحلة تعريب الحاسوب ورقمنة التراث العربي

رجل الأعمال الكويتي محمد الشارخ.. الرجل الذي تحدّى المستحيل وأدخل اللغة العربية إلى قلب الثورة الرقمية. من "صخر" التي غيّر ملامح الحاسوب في الثمانينيات، إلى الترجمة الآلية والتشكيل الإلكتروني وتقنيات النطق، كان مشروعه أعظم من مجرد برمجيات؛ كان دفاعا عن بقاء العربية حية في زمن التغيير

عَلى قَدرِ أهلِ العَزمِ تأتي العَزائِمُ
وتأتي على قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

أبو الطيب المتنبي

لعل هذا البيت أبلغ ما يمكن أن توصف به شخصية الفيلم الذي نحن بصدد الحديث عنه، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الشارخ من أهل العزم الذين قلّما جاد الزمان بمثلهم، كيف لا وهو من ينسب إليه الفضل في تعريب الحاسوب ورقمنة القرآن الكريم، وأرشفة التراث العربي، واستحداث معجم لمفردات اللغة العربية الحديثة.

فيلم” الشارخ.. صخر الضاد” على منصة الجزيرة 360

أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما خاصا عن هذا الرجل الذي سبق عصره، فاستضافت معاصرين له، وألقت مزيدا من الضوء على جوانب من شخصيته المتميزة وأعماله الخالدة، وعرضت الفيلم على منصاتها تحت عنوان: “الشارخ.. صخر الضاد”.

شخصية جادّة متميزة منذ الطفولة

يقول محمد الشارخ عن نفسه: في أوائل الثمانينيات، شعرتُ أن تقنية الحاسوب قادمة ستغطي العالم، وراودني إصرار بأن هذه التقنيات لا بد أن تستوعب اللغة العربية، فبدأتُ من منطقة الجابرية بالكويت سنة 1982، برغبة داخلية، عززتها رؤية خاصة، وأجّجتها مغامرة جامحة، فكان مشروع “صخر”. من اليوم لا تقاعس ولا تهاون، فلغتنا العربية تحتاج منا الكثير.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

لم تكن قيمة أعمال الشارخ في ضخامتها فحسب، بل في التوقيت الذي حصلت فيه، ولم تكن “صخر” علامة تجارية فقط، بل مشروعا ثقافيا كبيرا، أوقد شعلته الشارخ، واستمر فيه بهمة ونشاط طوال 40 عاما.

مدينة الكويت، معقل حاسوب صخر الضاد

أما الشارخ نفسه فلم يكن مجرد رجل أعمال بالمفهوم المتداول، همّه الحصول على وكالات لشركات عالمية وتسويق منتجاتها في المنطقة، بل كان من “رجال عصر النهضة”، مثل الإيطاليين ذوي المواهب المتعددة، الذين برزوا في القرون الوسطى.

تقول عنه زوجته موضي الصقير: عاش طفولة سعيدة، مع أنه فقد والده وهو ابن عامين، وقد وُلد في الكويت 1942، وقام عمه وأخوه على تربيته، وكان أهله جميعا يقرِضون الشعر بشقّيه؛ الفصيح والنبطي، وكانوا يحبون العربية والمتنبي، الذي كنت تجده في كل زاوية من زوايا بيت العائلة. عندما تزوجنا كان نائب مدير صندوق التنمية، وكان عمره آنذاك 28 سنة، ثم انتدب للعمل في البنك الدولي.

الهوية العربية تستولي تغلب

في عام 1973، رشحت مجموعة الدول العربية محمد الشارخ، لتمثيلها في مجلس إدارة البنك الدولي في واشنطن، وكان رئيسها يومئذ “روبرت مكنمارا” وزير الدفاع الأمريكي سابقا، وهناك رأى الحاسوب أول مرة في واشنطن، حيث مطبخ السياسات الاقتصادية العالمية، فكانت أمنيته أن يتكلم هذا الحاسوب اللغة العربية.

وبرغبة من الشيخ جابر الأحمد -وكان يومئذ رئيس الوزراء- وعبد الرحمن العتيقي وزير المالية، اختير الشارخ لتأسيس بنك الكويت الصناعي، فرجع للكويت وأسس البنك، وكان رئيس مجلس إدارته والعضو المنتدب 4 سنوات.

محمد الشارخ مع أمير الكويت الراحل جابر الأحمد

بعد استقالته من البنك الصناعي، تفرغ لأعماله الخاصة، فأسس “العالمية للإلكترونيات”، لتغطية حاجة السوق المحلي من الأجهزة الإلكترونية المنزلية، ونال عدة وكالات لشركات منها “جي في سي”، وأهم منتجاتها الفيديو المنزلي، ثم “أتاري” للألعاب الإلكترونية، ومن تحت عباءتها دخل عالم الحاسوب، فأسس “صخر” في 1982.

في 1983 طلبت “أتاري” من “العالمية” تمثيلها في قطاع الحاسوب، وافتُتح معرض في شارع خالد بن الوليد بالكويت، وكان يبيع طرازين من أتاري؛ طراز 400 والثاني 800، وكانت أسعارها يومئذ بين 400 و500 دينار كويتي، وهي غالية جدا في ذلك الزمن، وباللغة الإنجليزية فقط، فكانت الفئة المستهدفة محدودة جدا.

شعار حاسوب صخر

في تلك اللحظة، تشكلت قناعة لدى محمد الشارخ أنه لتوسيع انتشار الحاسوب في الشارع العربي، لا بد من تحقيق ثلاثة أمور:

  • سعر في متناول الجميع.
  • تعزيزه باللغة العربية.
  • توفير طيف واسع من البرمجيات، يلبي احتياجات المستهلك.

ولادة “صخر”.. أول حاسوب ناطق بالعربية

بدأت علاقة محمد الشارخ مع مايكروسوفت منذ انطلاقة “صخر”. يقول متحدثا عن ذلك: اجتمعت مع “بيل غيتس” ورجل أعمال ياباني اسمه “نيشي”، كان يسوق منتجا من مايكروسوفت، وأخذنا ترخيصا بإنتاج “أم أس أكس” (MSX)، وفتحنا مكتبا في طوكيو، وفي الكويت كنا نطور البرامج، واخترنا اسم “صخر أم أس أكس” للمتج الجديد.

برنامج القرآن الكريم على حاسوب “صخر”

طُرح المنتج في السوق في يونيو/ حزيران 1985، وسبقته حملة ترويجية، شملت توزيع ملصقات “صخر” على حافلات النقل العام، وإعلانات تلفزيونية موجهة للطلبة.

وكان الجهاز برمجيات مدمجة، منها الكتابة بالعربية، وبرنامج رسم بسيط، وبرنامج لتحويل التقويم الهجري إلى ميلادي، مع 4 برامج منفصلة، وكان سعر الجهاز يومئذ 55 دينارا كويتيا فقط.

وقد طُورت برامج متنوعة في الكويت لكل الفئات العمرية، وتوّجت ببرنامج “القرآن الكريم” في 1987، وكانت “صخر” أول شركة في العالم تحفظ النص القرآني بالرسم العثماني، كأنك تقرأ من المصحف، وذلك بعد أخذ جميع الموافقات اللازمة من الهيئات الشرعية في الكويت والسعودية ومصر.

القرآن الكريم المحوسب.. بصمة الشارخ التي لا تمحى

يقول المهندس “مايك غالي”، وكان مسؤول البرمجيات الصوتية في “صخر”: كان برنامج القرآن الكريم يومئذ سبقا حقيقيا، مع إمكانيات الحاسوب المتواضعة حينئذ، من حيث السرعة ومساحة الذاكرة. لقد أدخل “صخر” ومنظومة برمجياته المتنوعة الحاسوب إلى كل بيت عربي تقريبا، فانطلقنا من الكويت والسعودية، وتوسعنا إلى باقي الدول العربية من الخليج وحتى المغرب العربي.

وجدت “مايكروسوفت” أن مجموعة “صخر” أحسن شريك يعتمد عليه في تطوير نظام التشغيل “ويندوز” أو النوافذ لاستخدامات اللغة العربية، فبدأت المشاورات على مستوى المدراء والخبراء الفنيين، ولكنها تعطلت بغزو الكويت سنة 1990. وفي هذه الظروف الحرجة وجد الشارخ أن منجزاته وبراءات الاختراع أصبحت في خطر محقق، ويجب المسارعة بنقل البرامج والأجهزة إلى مكان أكثر أمنا.

الشارخ يستعرض برنامج القرآن الكريم أمام الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع

يقول المهندس أشرف شلبي، وكان مدير أبحاث اللغة في صخر: كان كل شغلنا وبرامجنا مخزنة على خوادم الشركة، فتحركنا مساء لمحاولة تأمينها، ولكننا فوجئنا بأفراد من الجيش العراقي، يقتحمون مكاتب الشركة ويطلقون النار، واقتادونا لمخفر الشرطة المقابل للشركة، وبدؤوا التحقيق معنا.

فور سماعهم أننا نعمل على أجهزة “صخر” وبرمجياتها، تغيرت نبرتهم تجاهنا، وأصبح تعاملهم معنا أكثر لطفا وهدوءا، وسمحوا لنا بالمغادرة ونقل الأجهزة والبرامج.

احتلال الكويت وغدر مايكروسوفت

انتقل محمد الشارخ إلى السعودية مع مجموعة من الخبراء والمطورين، وكان قد أمّن البرامج لدى أحد السفراء العرب، فاستغلت “مايكروسوفت” حالة الفوضى، واستقطبت الخبراء المهمين في “صخر” للعمل لديها، وخرقت اتفاقية “إفشاء الأسرار” الموقعة بين الشركتين، فطرحت منتج “تعريب” الحاسوب باسمها.

رفعت “صخر” قضية على “مايكروسوفت” في أمريكا، واستمرت سنة كاملة، لكن الشارخ لم يربح القضية، ومُنح تسوية على شكل تعويض مالي.

الشارخ يتهم مايكروسفت بسرقة برامج تعريب “ويندوز”

كان محمد الشارخ يحب مصر، وقد عاش في القاهرة وتخرج بجامعتها، وهو أول كويتي يدرس الاقتصاد البحت، وله منزل في القاهرة، وكان قريبا من الفكر والثقافة، وله علاقات وثيقة مع المثقفين والأدباء والفنانين المصريين، يحضر جلساتهم ويدعوهم إلى الكويت، وكان طبيعيا أن تكون مصر وجهته الأولى أثناء الغزو، فنقل 30 من خبراء البرمجة إلى القاهرة، بدعم وتسهيل من الحكومة المصرية.

براءات اختراع متعددة

هذا الجهد في التعريب وتطوير البرمجيات اللازمة، كان أول أحلام محمد الشارخ وأصغرها، ثم جاءت بعده معالجة اللغات الطبيعية، ولا سيما اللغة العربية، بحيث تنتج ملفات ضخمة جدا، مثل القرآن الكريم والموسوعات الحديثية والفقهية على وسائط وذاكرة صغيرة نسبيا، وتسهيل عمل محركات البحث في هذه الموسوعات، ثم جاء مشروع “التعرف الضوئي على الكلمات” (OCR).

ثم بدأ العمل في نظام استرجاع البيانات، وتطوَّر حتى أصبح محرك بحث، ثم بيئة عمل متكاملة تتوافق مع متطلبات العملاء، وكان هذا قبل أن تصبح الإنترنت تجارية في منتصف التسعينيات، مما جعل أعمال الشركة تتوسع في منطقة الخليج توسعا كبيرا جدا.

برامج الصوتيات على حاسوب “صخر”

وكان التطوير الثالث التعرف على الملفات الصوتية وتحويلها نصا مكتوبا، أو العكس، وكما نعلم فالنص العربي من أصعب النصوص كتابة، فالحروف متصلة في موضع ومنفصلة في آخر، ناهيك عن التشكيل، وهذا يحتاج جهودا مضاعفة في تعريف الحاسوب بكل هذه التعقيدات.

تراث الشارخ والمعجم الحديث.. منارات لا تخبو

كان محمد الشارخ في التسعينيات يتحدث عن مزايا في الذكاء الاصطناعي، لم نعرفها إلا في العقد الثالث من هذا القرن، فمنها تلخيص النصوص الكبيرة في فقرات قليلة، وإيجاز الكتب في صفحات معدودة.

استمر الشارخ حتى آخر سنوات حياته يفكر في تطوير المنتجات المحوسبة، منها تأريخ متكامل للإصدارات العربية كافة، من كتب ومجلات وصحف، ولا سيما القديم منها، في جميع الدول العربية، وكانت له فِرق تقنية تنتشر في هذه الدول، لتمكين القارئ العربي في كل مكان أن يطّلع بالحاسوب على التراث العربي، المطبوع في شتى البلدان.

أرشيف الشارخ للمجلات والدوريات العربية

وعمل كذلك على المعجم العربي الحديث، وتعامل مع 100 ألف كلمة عربية مستحدثة، وقبل وفاته بقليل استحوذت وزارة الثقافة السعودية على حق إصدار هذا المعجم، تحت اسم “معجم الرياض للغة العربية المعاصرة”، واستمر العمل على التدقيق الإملائي والتصحيح النحوي والتشكيل الآلي، حتى أُنجز موقع “صَحِّحلي” الذي يصحح ويشكل أي نص عربي.

في عام 2021، كُرم محمد الشارخ بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، عن أعماله في مجال البرمجيات.

جاد بالنهار مرِح بالليل

في الجانب الثقافي والفني، كان للمرحوم محمد الشارخ حس فني متميز، ففي بيته كثير من اللوحات الفريدة، لمختلف مشاهير الفنانين العرب والعالميين، وله مجموعتان قصصيتان، وكتب عددا من المقالات وما يشبه حديث الذكريات، وكان له حس نقدي متميز.

محمد الشارخ يتسلّم جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام

وكان رجلا متعدد المواهب والوجوه إلى حد التناقض، ففي الصباح يكون في أجواء العمل والنقاش الساخن والتوجيه القاسي، ثم في المساء تجده في دار الأوبرا يسمع معزوفة هادئة، أو يلعب الورق مع أقرانه.

وكان عصاميا يصرف على مشاريعه من حرّ ماله، ولم يكن ينتظر من الدول والهيئات دعما ماديا ولا توجيها معنويا، لقد كان بحقّ صانع اللحظة الرقمية الفارقة في اللغة العربية، التي نعيش تداعياتها اليوم وغدا.

قالوا عنه

يقول عنه محمد المر، رئيس مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم: كانت له الريادة في مجال الأعمال، كان عصاميا جادّا في التركيز على تطوير الأعمال الإلكترونية، بشكل إبداعي مميز، وكان يقول لي إن الأمة العربية لن تلحق بركب الحضارة ما لم يكن الحاسوب مهما لها، كالحاجة للسكين في المطبخ.

ويقول السفير عبد العزيز الشارخ، مدير معهد سعود الناصر الدبلوماسي: كان يتسم بالهدوء والجدّية منذ صغره، وفي الوقت الذي كان أقرانه يلهون ويلعبون، كنت لا تراه إلا ممسكا كتابا يطالع فيه.

مجموعة من أعمال الشارخ الأدبية

ويقول عبد الله الغنيم، رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية: هذه الثروة المحوسبة الهائلة من التراث، قدّمها الشارخ خدمةً مجانية للباحث العربي خصوصا، وللإنسان العربي عموما.

وتقول عنه ابنته مناير: كان أبي لا يحب أن يتكلم كثيرا عن أعماله، وكان يحب نشر العلم والمعرفة الحاسوبية في كل مكان، فقد بنى مركز تدريب في قرية نائية بمنطقة تنومة جنوب السعودية، وكثيرا من المدارس والمعاهد التقنية في الكويت.


إعلان