“الإنسان الأول والبحر”.. آثار مجتمعات ساحلية أكلت الأسماك وتحلت بالأصداف

كهف كوسكير

كان يغلب على تصور علماء الحضارات القديمة أن إنسان ما قبل التاريخ كان قاريا، أي أنه عاش منعزلا على اليابسة، حتى حلت أواخر القرن الـ20، فكشفت حقائق مذهلة، تعيد رسم علاقة الإنسان ببيئته البرية والبحرية، وتثبت -بما لا يدع مجالا للشك- خطأ الفرضيات القديمة.

وفي هذا السياق، يأتي الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على منصاتها، تحت عنوان: “الإنسان الأول والبحر.. رحلة البقاء والاستكشاف”، وقد قدّم العلماء فيه نماذج عن علاقة الإنسان الأول بالبحر والساحل، والموارد التي استخدمها من كليهما.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

“كهف كوسكير”.. الاكتشاف المعجزة الذي رسم علاقة الإنسان الأول بالبحر

يكمن في قاع البحر جزء مهم من تاريخ البشرية عند ما يسمى “كهف كوسكير”، ففي أوائل التسعينيات أثبت اكتشاف الغواص “هنري كوسكير” المذهل هذه الحقيقة بكل وضوح، ولم يكن مجرد كهف، بل جزءا من تاريخنا، أحدث صدمة في الأوساط العلمية، وأثار تساؤلات عن علاقة إنسان العصور الأولى بالبحر.

كان اكتشاف “كهف كوسكير” صدفة محضة، فبعد سباحة 114 مترا في مياه البحر المتوسط جنوب فرنسا، والدخول عبر نفق مظلم، تجد نفسك في غرفة واسعة بها زخارف مذهلة، كأنك في معبد يوناني. رسومات ونقوش لخيول وثيران وأيدي بشر وفقمات وبطاريق.

“كهف كوسكير”، المعجزة التي دوّن فيها الإنسان القديم ذكرياته قبل أن يبتلعها البحر

لطالما أُنكر جانب الحضارات البشرية القديمة في البحر، فمعظم مؤرخي ما قبل التاريخ كانوا من أنصار النظرية القارّية، فقد ابتلع البحر شواهد وأدلة كثيرة، لكن العلماء الأوروبيين يعملون على إعادة رسم هذه الصورة المندثرة بين المتوسط والأطلسي.

وقد برزت تساؤلات كثيرة عن غذاء إنسان ما قبل التاريخ، والرابط الذي جمع بينه وبين البحر، والجماعات التي استوطنت سواحل البحر المتوسط قبل 30 ألف عام، وأبدعت هذه الرسومات والنقوش على جدران الكهوف، ومن منها ارتاد “كهف كوسكير” في تلك الحقب.

أين كانت سواحل البحار في العصور القديمة؟

يحاول عالِم ما قبل التاريخ “جان-بيير براكو” إجابة التساؤلات، وهو مهتم بسكان العصور القديمة، الذين عاشوا في حوض نهر الرون وسواحل المتوسط، فيقول: هم أناس مثلنا، لا يختلفون إلا في سلوكهم وأساليب حياتهم، فهم رحّالة يستخدمون موارد بيئتهم المحيطة.

ويرى “كهف كوسكير” ومنحدر “بالزي روسّي” الإيطالي موقعين رمزيين، يحكيان طبيعة علاقة البشر بالسواحل التي عاشوا فيها، ففي أحد كهوف بالزي روسّي عثر على قبر يدعى “سيدة كافيون”، يعود لامرأة عمرها 35 عاما، مستلقية على جانبها الأيسر، وغطاء رأسها مزيّن بالأصداف البحرية وأسنان الأيائل.

“سيدة كافيون”، بقايا امرأة مدفونة في منحدر بالزي روسّي

وحين فُحصت أحجار الصوّان المدفونة معها، تبين أنها من منطقة “دورانس”، مما يعني أن المرأة وقومها جاؤوا من سواحل مرسيليا، وربما مروا بـ”كهف كوسكير”.

يجسّد غطاء رأس هذه المرأة -المدفونة منذ 25 ألف عام- الرابط الوثيق بين الإنسان وبيئته البحرية، ويتكون من 300 صدفة، وهي جواهر ثمينة في ذلك الوقت، يُتاجر بها بعيدا عن السواحل، وعنصر أساس في صناعة الحلي والمجوهرات، وتتميز بألوانها وأشكالها، وتحمل إشارات رمزية لانتماء صاحبها لقبيلة معينة.

يقول “براكو”: فاقم هذا الكشف إحباطنا، فارتفاع البحر طمر مناطق كانت ذات كثافة سكانية، لقد فقدنا -إلى الأبد- جزءا كبير من المناطق والمجتمعات، التي دمرها ارتفاع مستوى البحر، وكان بقاء “كهف كوسكير” أشبه بالمعجزة.

العصور الجليدية المتعددة وأثرها على ارتفاع منسوب البحر

عاش الناس في “كوسكير” عالما غير عالمنا، في مناخ مختلف كليّا وساحل غير الذي نعرفه اليوم، ويتصور أن الجماعات البشرية زارت “كهف كوسكير” منذ ما بين 33 ألف عام و19 ألف عام، وذلك في منتصف عصر جليدي، بلغ ذروته قبل 20 ألف سنة، وانتهى قبل 11500 عام، وأدى لنشوء العالم الذي نعيشه اليوم.

لم تكن الحيوانات البرّية هي مورد الطعام الأوحد لإنسان ما قبل التاريخ

وقبل 20 ألف عام، كان مستوى سطح البحر أخفض بكثير مما هو عليه الآن، ويركز عالم المناخ القديم “إدوار بارد” في دراساته على تغير مستوى سطح البحر على مدى أحقاب طويلة جدا، فيقول:

هذا جهاز قياس المد والجزر في مرسيليا، يستخدم منذ القرن الـ19 لتحديد النقطة الصفرية والارتفاع الجغرافي بجميع الخرائط الفرنسية. في القرن الـ19، كان مستوى سطح البحر أخفض بنحو 20 سم مما هو عليه اليوم، وفي عصر “كهف كوسكير” كان أخفض كثيرا.

فقبل 20 ألف عام كان المناخ أبرد، وغطاءان جليديان ضخمان يغطيان كندا والجزيرة الإسكندنافية، كأنهما القارة القطبية الجنوبية، وكانت درجات الحرارة أقل بـ6 درجات مئوية عن يومنا هذا، وعاش أهل القارة الأوروبية في سهول قليلة النبات، لكنها غنية بالطرائد.

وقد تكررت ظاهرة التجلد مرات عدة في ملايين السنين من عمر الأرض، في دورات تبلغ مدة الواحدة منها 40-100 ألف عام، وهي مرتبطة بعلم الفلك وشكل مدار الأرض.

جهاز “ميكاداس”، نظام تأريخ بالكربون المشع

يسعى “بارد” إلى فهم كيفية ارتفاع منسوب سطح البحر منذ العصر الجليدي الأخير قبل 20 ألف عام، ويحاول تحديد الحقبة الزمنية، التي غُمر فيها “كهف كوسكير” بالمياه، وكيف عاش الإنسان هذه التحولات الساحلية، وهي تحولات يمكن قراءتها بوضوح من خلال هياكل الشعب المرجانية.

يخضع “بارد” في مختبره -بمركز البحوث الأوروبية لعلوم الأرض والبيئة- هذه الحفريات المرجانية من تاهيتي لتحليل جهاز “ميكاداس”، وهو نظام تأريخ بالكربون المشع، يكشف تسارعا مذهلا في وتيرة ارتفاع منسوب سطح البحر، عند مقارنته بطول حياة الإنسان.

طغيان البحر على اليابسة يُغرق تاريخ الإنسان القديم

شهد إنسان ما قبل التاريخ ارتفاع منسوب المياه وعايشه، وقد حدثت أزمنة تسارع، آخرها قبل 14500 عام، وهو ما يتوافق مع انهيار الغطاء الجليدي، فقد ارتفع منسوب المياه بمعدلات تتراوح بين 38-51 سنتيمترا سنويا، وهو أسرع بـ30 ضعفا مما هو عليه اليوم.

وبناء على هذه الدراسات، قدّر عالم المناخ القديم “بارد” أن “كهف كوسكير” قد غمرته المياه قبل 11 أو 10 آلاف عام، وغمرت معه السهوب المجاورة كلها، أي أن الكهف كان على بعد 4 أميال بحرية عن الساحل، عندما سكنه البشر الأوائل.

يعد ساحل فرنسا الجنوبي وساحل إسبانيا الشمالي من أقل السواحل تأثرا بارتفاع مستوى البحر

ولفهم الأمور أفضل، نقارنه مع سواحل المحيط الأطلسي الفرنسية، فعندما كان سطح البحر أخفض بنحو 120 مترا، كان الساحل يبعد 124 ميلا بحريا عما هو عليه اليوم، وكانت الجغرافية الأوروبية مختلفة تماما، يغطي الجليد معظمها، وسواحلها أبعد بكثير مما هي عليه اليوم.

يدرس عالِم عصور ما قبل التاريخ “بابلو آرياس” العلاقة بين الناس والبحر على هذا الساحل، فيقول: بين المجتمعات البشرية وساحل إسبانيا الشمالي علاقة ما، يدل على ذلك محار اللؤلؤ الملصق “البطليموس”، وكثافة عالية للمواقع الأثرية، وكذلك ضيق الرصيف القاري، مما يجعل هذه السواحل قريبة نسبيا من سواحل ما قبل التاريخ.

ساحل “كانتابيرا” شمال إسبانيا

يحاول “أرياس” كشف سر وجود كثير من المجتمعات البشرية القديمة، وشكل الساحل حينها، فأطلق في 2020 بعثة أوروبية تحت اسم “بيليو سبمشن” لإجابة هذه التساؤلات، وتحديد مواقع الاستيطان البشري في ساحل إسبانيا الشمالي، ففي تلك الحقبة كان السهل أوسع بكثير، ومصبات الأنهار الغنية بالطرائد والنباتات والموارد البحرية تجذب التجمعات البشرية.

الإنسان الأول وتنويع مصادر الغذاء

يعكف عالم الآثار “إستيبان فرنانديز” على دراسة كميات كبيرة من الأصداف، عثر عليها في “كهف “تيتو بوستيو”، أحد أكبر الكهوف في شمال إسبانيا، وهو يقول: هنالك 40 ألف صدفة، تشمل أصداف اللؤلؤ والقواقع والليتورينيا، وهي بقايا طعام مُتخلص منها في أحد جوانب الكهف.

ويتصور أن الكهف كان على بعد 64 ميلا من البحر، وكان سكانه يتوجهون إلى الساحل لجمع الأصداف، ويحفظونها في أكياس مملوءة بالماء، ويستخدمونها 10 أيام، مستفيدين من انخفاض درجات الحرارة في تلك الحقبة، وهي غنية بفيتامينات ومعادن وأملاح لا يجدونها في مواردهم الأخرى، وأكلوا أيضا سمك السلمون، الذي يهاجر بين النهر والبحر.

مأوى السمكة في “دوردوني”، نقش لسمكة سالمون بطول 90 سم، يعود تاريخه إلى 25 ألف عام

يقول “أرتورو موراليس”، وهو عالم حيوانات قديمة: ربما كان الإنسان القديم يعتمد في الغالب على الصيد السلبي، فلا أدوات خاصة تلزمه حينها، وإنما يجمع الأسماك المندفعة إلى الشاطئ، بفعل التيارات المائية والمد والجزر.

يعد “كهف “سانتا كاتالينا” أعجوبة أخرى مثل “كوسكير”، ويقع مختفيا تحت منارة تحمل هذا الاسم في إقليم الباسك الإسباني، وكان يقع على بعد 6 كم من الساحل في حقبة الإنسان القديم، أما اليوم فهو متاخم للماء تماما، وفي مساحة صغيرة داخله، استطاع العلماء اكتشاف بقايا الحيوانات، التي كان الإنسان يتغذى عليها في تلك الحقبة.

ففيه بقايا عظام الرنّة والفقمة والحيتان، وأكثر من 4500 قطعة من 32 نوعا من الأسماك، ويأتي سمك القُدّ شتاء قبل الفقمات التي تأتي في الربيع، ثم تأتي الحوتيات بعد ذلك.

ومع أن كميات سمك القدّ قليلة، فإنها كانت تأتي في وقت ندرة الأنواع الأخرى، ولذلك كان حيويا ومهما في وقته، وبهذا يتبين أن الإنسان القديم كان ينوِّع بين الصيد البري والبحري.

جنوب فرنسا وشمال إسبانيا.. أقرب السواحل لما كانت عليه قديما

يدل الشمال الإسباني على الثراء الحيوي والإنتاجية العالية، التي كانت في “سانتا كاتالينا” في العصور المتجمدة المتأخرة، من الغزلان والأيائل إلى البطاريق والفقمات، والأسماك المتنوعة والحيتان، وهذا يغير الفكرة السائدة عن محدودية موارد الإنسان القديم، واعتماده على صيد البر فقط.

كانت الفقمة موردا رئيسا لغذاء إنسان ما قبل التاريخ

وقد وفر “كهف “إيستوريتز” -في إقليم الباسك الفرنسي- لعالِم الآثار “جان مارك بيتيون”، المتخصص في أدوات الصيد القديمة، طيفا واسعا من المقذوفات العظمية، التي تصنع غالبا من قرون الأيائل، وبعضها من عظام الحوتيات، ويبدو أن هذا الكهف أدى دورا مهما في تبادل هذه المقذوفات بالمناطق الداخلية، بعيدا عن الساحل آنذاك.

وقد أطلق “بيتيون” برنامج “باليوست”، للبحث عن مصنوعات من عظام الحيتان في منطقة الباسك وجبال البرانس، كشف فيه عن 100 ألف رأس أداة، وأكّد ما ذهب إليه العلماء من علاقة وثيقة بين الإنسان والبحر، وكيف استفاد الإنسان من كل شيء في الحوت بما في ذلك الشحم واللحم والعظام، وحتى القشريات التي كانت تتطفل على جلده.

الاقتصاد المنظم.. نظيريات تثبت نشوء علاقات تجارية بين المجموعات البشرية القديمة في البر والبحر

في بحوث مشتركة على الساحل من شمال إسبانيا وجنوب غرب فرنسا، تبين أن رؤوس المقذوفات المصنوعة من عظام الحيتان، كانت تُتبادل على مسافة 600 كم على طول الساحل، ويقود ذلك إلى فرضية وجود أول اقتصاد منظم للمجموعات البشرية في أواخر العصر الحجري الأخير بهذه المنطقة، أي قبل أكثر من 15 ألف عام.

وبينما كان الجليد يذوب ليرفع مستوى البحر، كانت تتشكل على اليابسة غابات كثيفة في المناطق التي كانت تغمرها الثلوج، مما أعطى مساحات جديدة للبشر لتنويع غذائهم.

وبانتقال الإنسان من العصر الحجري القديم إلى الأوسط، تغير نمط غذائه، من اقتصاره على الحيوانات البرية الكبيرة، إلى التوسع في استخدام الأسماك والنباتات والحيوانات الأصغر.

صورة التقطت مطلع القرن الماضي من مقبرة جماعية بجزيرة هويديك

وتعد جزيرة “هويديك” على ساحل المحيط الأطلسي الفرنسي أشهر موقع لآثار العصر الحجري المتوسط، وقد عثر فيها على كثير من الهياكل البشرية مطلع القرن الماضي، منها مقبرة جماعية ضمت 13 فردا ذكورا وإناثا وأطفالا، وهم يضعون حليا من الأصداف، وقد دُفنوا وسط أكوام من الأصداف.

لقد قاوم إنسان العصر الحجري المتوسط وسائل الرفاهية الزراعية والاستقرار التي عاشتها أوروبا، وهي تتحول إلى العصر الحجري الحديث، وكان للموارد البحرية أكبر الأثر في إطالة أمد هذه المقاومة، فضلا عن حركة الملاحة النشطة بين الجزر، التي مارسها الإنسان القديم ليفرّ من ربقة الاستقرار الزراعي آنذاك.


إعلان