من المدنية إلى البرية.. عائلة أوروبية تبحث عن معنى الحياة وسط الطبيعة

اختارت العائلة النرويجية الشابة التي تظهر في فيلم “نوع جديد في البرية” (A New Kind of Wilderness) أن تبتعد عن الحياة المدنية، وتبدأ حياة جديدة في الطبيعة، فاشترت حقلا صغيرا على أطراف غابة نائية.

بدت هذه العائلة كأنها وجدت سعادتها هناك، قبل أن يعصف بها الموت، ويهز كل خططها للمستقبل، ويُجبرها على العودة إلى “أغلال” المجتمع.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

هذه هي الحكاية التي يقدمها هذا الفيلم الوثائقي، الذي أخرجته النرويجية “سيلجي إيفينسيمو ياكوبسن”، وعُرض في مهرجانات سينمائية كثيرة عام 2024، وحصد جائزة النجمة البرونزية في فئة الأفلام الوثائقية في الدورة الماضية من مهرجان الجونة السينمائي في مصر.

يمكن فهم دوافع العائلة الصغيرة في الفيلم، فالمنطقة التي اختارتها العائلة للعيش ساحرة الجمال، كما ظهرت في افتتاحية الفيلم. بيد أنه ليس من الواضح تماما خلفيات هذا القرار الكبير بترك التحضر.

تجزم المشاهد الافتتاحية أن العائلة قد وجدت مكانها، الذي كانت تبحث عنه في تلك الغابة الرائعة، فالسكينة تغطي المشهد العام، والغزلان البرية تسير بسلام بين أطفال العائلة.

العائلة تقضي أوقاتا سعيدة

يكشف الفيلم في بدايته أن الأم مصورة محترفة، وقد فسر ذلك احترافية المشاهد المصورة في الغابة، وهي من صورت بعضها بنفسها، ناهيك عن الصور التي صورتها من عائلتها، ثم عرضها الفيلم في سياقاته السردية، التي كشفت موهبة وحميمة كبيرة، وبحثا عن روح المكان.

كما وجدت الصور جمالا أخاذا في علاقة أطفالها مع المحيط الذي وجدوا أنفسهم به، وهي تعيش مع أطفالها الثلاثة وأبيهم الإنجليزي الأصل، وابنة كبرى من زوج سبقه.

الحدث المأساوي

لا يكتفي الفيلم في افتتاحه بالتعريف بالغابة التي تعيش فيها العائلة، ويومياتها في مكانها الجديد، بل يعرفنا أن الأُمّ مصابة بالسرطان، وهي تصارع الموت. ولا يفعل الفيلم ذلك بمشاهد أو حوارات طويلة، بل يجعل الخبر ضمن النسيج السردي الشاعري السريع. فالأم إذن مريضة، والموت يحلق فوق رؤوس العائلة.

اختارت العائلة العودة إلى حضن الطبيعة

لا يسير نصف الفيلم الأول ضمن مسار زمني واضح، بل نراه يقفز بين الماضي والحاضر بشاعرية كبيرة، ولا سيما في تلك المشاهد الساحرة من افتتاحيته، فمنها مشهد الأم حين أوقفت التصوير، لأنها لم تتحمل جمال أن ترى ابنها الصغير يسير في البرية وحده.

ومنها مشهد تجمع الأطفال لشرب مياه مطر تجمع في حفرة صغيرة بالغابة، ومشهد الغزالة التي كانت تسير بسلام وحدها في الغابة، وأيضا تلك المشاهد التي يحضن فيها أفراد من العائلة أشجار الغابة.

بدت الأُم كأنها تبحث عن معنى للصور التي تلتقطها، والبحث عن المعنى هو الذي جعلها مع أسرتها تخطو هذه الخطوة، وتترك حياة المدن بمتطلباتها وازدحامها وتختار سلام الطبيعة.

بدأ القلق سريعا يحبو إلى تلك الصور الشاعرية، لا سيما بعد ظهرت الأم حليقة الرأس، وبدا أن ذلك بسبب علاج كيميائي تتلقاه. وهكذا انسحبت السعادة بطيئا من تلك المشاهد، وحل محلها حزن بلغ حد القتامة.

“أفتقد رائحة أمي”

يفصح الفيلم عن وفاة الأم، في مشهد مؤثر كثيرا، ثم نرى الأبناء الصغار يعدون أزهارا بعدد سنوات عمرها. وتقول ابنتها الكبرى: أفتقد رائحة أمي.

أما الزوج فيتحدث عن قلقه من المستقبل، وما يمكن أن يصيب العائلة في غياب الأم الفادح، لا سيما أنها تركت أطفالا، بعضهم لم يبلغ 5 سنين. وتقول إحدى بناتها والأب ينظر إليها متأثرا: يجب أن أعتني بأبي.

العائلة عند قبر الأم

يفتح موت الأم باب الأسئلة الوجودية على الأب، الذي عليه أن يواجهها اليوم وحده، ويسأله أحد الأبناء: لمَ لا نذهب إلى المدرسة كما يفعل بقية الأطفال؟

يقول الأب للفيلم إنه يخشى أن يدمر حياة أبنائه، بإصراره على إبقائهم بعيدا عن الحياة المدنية والمدارس، التي بلغ أغلبهم سن الالتحاق بها.

يواصل الفيلم أسلوبه السردي الشاعري، فينتقل من مشاهد حياة الأم، واستعادة بداية علاقتها بزوجها الثاني، ثم مشاهد الحياة بدونها، وقد حملت تحديات كبيرة للأب، فأصبح يحمل المسؤولية كاملة في البيت ورعاية الأطفال، بما يتخلل ذلك من تفاصيل كثيرة ومواجهات غير متوقعة.

قرار الفراق الكبير

بدأ الأب يعي أنه غير قادر على البقاء في البيت الريفي، وأن عليه بيعه والعودة مع أطفاله إلى قرية صغيرة، ويركز الفيلم قليلا على عالمه النفسي وألمه بخسارة زوجته، والاستحقاقات اليومية التي يلقاها في رعاية بنيه الصغار، فهذا الضغط جعله يحن إلى موطنه إنجلترا، البلد التي فارقها ولا يزال يحن إليها.

يواجه العائلة تحدٍّ جديد، وهو توديع الابنة الكبرى التي تبلغ 10 سنين، فقد عادت للعيش مع أبيها، الذي يعيش في قرية صغيرة بعيدة، وقد أحزن هذا القرار الجميع، لا سيما الفتاة نفسها، فقد كانت ترعى إخوتها الصغار، ولم ترغب أن تعيش بعيدا عنهم.

الأم الراحلة مع أحد أبنائها

والحال أن انتقال الابنة الكبرى سيسرع قرار العائلة، فسوف تنتقل إلى قرية صغيرة، بعدما باعت بيت الغابة الذي كانت تعيش فيه.

يسجل الفيلم آخر يوميات العائلة في بيت الغابة، ويرافقهم في انتقالهم إلى البيت الجديد، كما يزور الابنة الكبرى وقد أصبحت مراهقة وقادرة على نقل هواجسها وألمها على فقدان أمها، وابتعادها عن إخوتها الذين تحبهم كثيرا.

إشكالات العودة إلى المجتمع

في يوم أحد الأبناء الأول بالمدرسة، كان الأب يقف خلفه وهو على أعتاب الدخول إلى العالم الجديد، وقد بدا الترقب واضحا على الطفل، وهو يمسك بيد أبيه، وكانت المدرّسة اللطيفة تبذل جهدا مضاعفا للترحيب بهذا الطفل.

لن يكون هذا الطفل الوحيد بهذه العائلة، الذي يواجه بتخوفٍ العالمَ الجديد المزدحم الذي عاد إليه، فالعائلة كلها كانت تعاني، وتحاول أن تتعايش مع الظروف الجديدة.

ملصق الفيلم الدعائي

يفرد الفيلم في ربعه الأخير مساحة كبيرة للابنة الكبرى “رونيا”، وقد بدا أنها تعاني كثيرا، بين الولاء لأسرتها الأولى ورغبتها بأن تحقق ذاتها، ويرافقها الفيلم وهي تسافر من بيتها إلى بيت إخوتها، مركزا على علاقتها بأختها الصغيرة، التي أضحت مهمة كثيرا لدى الأختين، لأسباب كثيرة أبعد من العلاقة الأسرية، تتعداها إلى المسؤولية التي تحملها الأخت الكبرى تجاه أختها، وظل الأم الذي يخيم على الجميع.

وقد مرّ الأب بمرحلة عصيبة، دفعته إلى أخذ العائلة إلى بريطانيا، والبقاء فيها أسابيع، قبل أن يعود إلى النرويج، بعدما أدرك أن البلد الذي تربى فيه أولاده هو الأنسب لهم.

بدا التغيير واضحا عليه بعد عودته من بريطانيا، فقد انسجم أكثر مع المحيط من حوله، مع ما يلقى من صعوبات في حياته اليومية، بسبب حاجز اللغة النرويجية التي لا يتقنها جيدا، وتحديات إيجاد وظيفة مناسبة، وذلك لابتعاده عن سوق العمل سنين عددا.

نضوج على جسر الألم

اجتهدت المخرجة كثيرا لتحافظ على روح شاعرية خاصة في الفيلم، وهي تستلهم شاعريتها من المكان، وطبيعة الشخصيات، والخيارات التي واجهتها في حياتها. وتبرز المخرجة أن كل فرد من العائلة تعامل مع الألم بطريقته، وأنهم قد نضجوا واكتشفوا ذواتهم الجديدة، في طريقهم للتعامل مع هذا الفقد.

الطبيعة مكان لعب للعائلة

تميز الفيلم بقلة الحوارات المباشرة مع الشخصيات، واقتصار البوح على حوارات قصيرة أحيانا، يجرونها مع بعضهم أو أنفسهم، وبهذه الحوارات أمكن اقتحام عالمهم النفسي، وأثر الأحداث الكبيرة عليهم، وطرقهم للتعامل معها.

يفيض الفيلم بالحزن والحنان والحميمية، التي تطبع المشاهد، وتشبه التأملات السينمائية الخالصة، وأحيانا بالحوار البريء من الأطفال، الذين شكلوا أهم شخصيات الفيلم، ووضعوا بصمتهم البريئة عليه، وحولوه من حكاية عن الفقد والموت إلى قصة عن التغيير والانتقال من الطفولة إلى النضوج، وإن كان هذا التغيير مرّ بنفق الموت القاسي.


إعلان