“شكرا لساعي البريد”.. حبر على ورق ينطق بحكايات أصحابه الآسرة

تُرفِق امرأة قصاصة من قماش الفستان الذي خاطته لحضور حفل زفاف صديقتها، في ظرف رسالة إلى صديقتها، تخبرها فيها بموعد الفرح، وتطبع أخرى قُبلا بأحمر الشفاه لزوجها البعيد في لندن، ويحرص مغترب في الكويت على إرفاق نقود في رسالة لأبيه، وترسل فتاة صورة من حفل تخرجها إلى أمها في الصعيد.

ليست الرسالة مجرد حبر على ورق، بل أحاسيس ومشاعر تطوف في أرجاء الكون، إنها جزء لا يتجزأ منا، نموت وتبقى كتاباتنا، تحكي عنا ما قد يجهله أقرب المقربين إلينا.

فيلم “شكرا لساعي البريد”

نستعرض فيما يلي هذا الفيلم الشائق المفعم بالذكريات، الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته حديثا على منصاتها بعنوان “شكرا لساعي البريد”.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

يطوف مُعدّا الفيلم أحمد رشوان وأحمد زين الدين بين متاجر التحف والمقتنيات القديمة في القاهرة والإسكندرية، ليضعا بين أيدينا رسائل قديمة، تحكي عن مصر وأهلها، وتصف مشهد أهل المحروسة اجتماعيا وثقافيا، على مدى قرن من الزمان.

سوق ديانا.. ملتقى هواة جمع الرسائل القديمة

في سوق ديانا وسط القاهرة، حيث تباع المقتنيات القديمة، يلتقي أحمد زين وأحمد رشوان أسبوعيا، لشراء الرسائل القديمة، يرسمان بها صورة لمصر وأهلها، ويستقرئان بين سطورها هموم المواطن البسيط، واهتمامات الطبقة المخملية في المجتمع. يساعدهما العمّ محمد عبد الرازق “أبو علاء”، وهو تاجر مقتنيات قديمة، يسعفهم برسائل نفيسة.

الباحثان أحمد زين الدين (يمين)، وأحمد رشوان، وهما معدّا الفيلم

يأخذنا رشوان إلى الإسكندرية، حيث يسكن خاله الكاتب والباحث عبد العزيز السباعي، الذي كانت له بصمته الواضحة في جمع الرسائل القديمة، وتربطه علاقات مع أصحاب محلات التحف القديمة، ومنهم محمود عبد الباسط -أمين أسرار هذه المهنة- الذي يقول:

أجمع هذه الرسائل من أكثر من مصدر، وهي عند كثير من الناس مثل أي شيء قديم يودّون التخلص منه، فنشتريها منهم، وبعضهم يبيعها لتجّار تدوير الورق. ونحن نبيعها للمهتمين، فبعضهم يبحث فيها عن تاريخ مصلحة البريد، وبعضهم يبحثون في مضمون الرسالة نفسها والخطوط وأشكالها وكيفية تطورها، وآخرون يبحثون في المرسِل والمستقبل، فقد تأتي أهمية الرسالة من هذين.

ويقول محمد عبد الرازق، تاجر المقتنيات القديمة في سوق ديانا: دخلت هذه الصنعة هواية، ومع الوقت احترفتها، أجد الرسائل القديمة مع المقتنيات التي أشتريها، إما من أصحابها مباشرة، أو من بوّابي العمارات، أو من أسواق المقتنيات القديمة. ولكل زبون اهتماماته، فبعضهم يشتري الطوابع، وبعضهم مهتم بالمغلفات، وآخرون يشترون الرسالة نفسها، وتتحدد قيمة الرسالة بالعامل الزمني والمحتوى ومرسلها ومستقبلها.

محمود عبد الباسط ومحمد عبد الرازق، تاجرا مقتنيات قديمة في الإسكندرية والقاهرة

ثم يقول: أنا في الغالب لا أقرأ الرسائل، ولكن أحيانا يلفت انتباهي بعضها، ففي أحد الأيام وقعت بين يدي رسائل بين زوج وزوجته، منذ الخطوبة حتى تزوجا وأنجبا وشاخا، كانت مجموعة كبيرة فيها تفاصيل عن حياتهما اليومية، وترحال الزوج، وسفره في طلب الرزق، ومرض ابنهما مجدي، ومتابعة أمه حالته الصحية.

هواة المراسلة.. قصص الحب والمغامرات

يقول الباحث أحمد زين الدين: وجدتُ في سوق ديانا مجموعة كاملة من رسائل أسرة بورسعيدية في السبعينيات، رصدت بها أحوال الأسرة الاجتماعية بالتفصيل، وبعضها مكتوب بالآلة الكاتبة القديمة.

وفي بيتنا مجموعة موقعة باسم “أحمد عيد”، زوج عمتي وصديق والدي منذ الطفولة. عمل ضابطا في النقل البحري وطاف بلاد العالم، وكان يرسل لأبي من كل مدينة وبلد يحلّ فيه، كان يعلمني كثيرا في هوايتي لجمع الطوابع والرسائل، فقد كان أحد أكبر جامعي الطوابع البريدية في مصر.

تأتي قيمة الرسائل من تاريخ كتابتها أو أهمية المرسل والمستقبل

يقول أحمد عيد: بدأتُ هواية المراسلة في أيام المدرسة، كتبت باسمي الصريح واستقبلت رسائل محدودة جدا، ثم خطرت لي فكرة جريئة، فكتبت باسم فتاتين تحبان المراسلة وجمع الطوابع، هما ناريمان وسميرة، وعمرهما 16-17 سنة، فجاءني كم هائل من الرسائل، عشرات الرسائل يوميا، على مدار سنوات كثيرة.

واستمرت مراسلة شخصية “سميرة” على مدى 17 عاما، من 1960 حتى 1977، أدومها كان من شاب فلسطيني اسمه توفيق، بل إنه طلب يدها للزواج، برغم تحذير كثيرين له من أن الذي يراسله مجرد شاب يهوى المراسلة.

الإذاعات والمجلات.. وسائل التواصل في الزمن الماضي

يقول أحمد رشوان: حملت معي صندوق الأسرار -أو الخبيئة- كما يحب خالي عبد العزيز أن يسمّيها، وهي مجموعة من مراسلاتي القديمة، حرصت على جمعها منذ كنت ابن 14 عاما حتى الآن، رسائل من هواة مراسلة، وأقسام عربية في إذاعات عالمية، ومن أصدقاء الطفولة الذين سافروا للخارج، جلبتها اليوم معي للإسكندرية، حتى يطلع عليها خالي زيزو.

أحمد عيد (يمينا) وعبد العزيز السباعي (شمالا)، أضفيا قيمة تاريخية على الفيلم

ثم يقول: في 1983، تعرفنا على “منظمة خدمة الشباب الدولية” في فنلندا، وعبأنا قسائمها، ثم أرسلت لنا عناوين للمراسلة بناء على رغباتنا، من اليابان وفرنسا ودول أوروبا الشرقية.

يقول الباحث عبد العزيز السباعي: بدأت الذهاب إلى سوق الجمعة أواخر السبعينيات، أشتري الكتب والصحف القديمة فأجد رسائل بداخلها، كانت تثير فضولي بعض الرسائل النادرة، التي تحوي كتابات على غير المألوف والمتعارف عليه.

وقعت بيدي رسالة مكتوبة في الثلاثينيات، أرسلها حارس عِزبة إلى سيده في القاهرة، جاء فيها “سيدي البيه، لقد مات الكلب، ولكل أجل كتاب”. وقد نشرت بعضها في المجلات وفي كتابي “مصر بين الخنادق والمخابئ”.

سوق ديانا للمقتنيات القديمة بوسط القاهرة

وقدّم الباحث أحمد زين خطابات قديمة من الستينيات، مرسَلة لشاعر من الصعيد اسمه شوقي، معظمها رومانسية مرسلة من فتيات تجمعهنّ معه قصص حب، وكان شوقي هذا سابقا عصرَه، استولى على قلوب كثير من الفتيات بوسائل التواصل القديمة.

ساعي البريد.. جالب البهجة

كان ساعي البريد هو من يجلب البهجة والسعادة، ويتعين عليه إجادة القراءة والكتابة، وكان أهل الأرياف يطلقون الزغاريد احتفاء بقدوم ساعي البريد، الذي غالبا ما يجلب الفرحة والأخبار السارة من الأحباب الغائبين.

ساعي البريد، جالب الفرح والبهجة

وكان أغلب الناس لا يجيدون القراءة والكتابة، فيطلبون منه قراءة الرسائل، وكان يرد على الرسائل بحسب ما يملون عليه، ثم يعطونه إكرامية مقابل ذلك.

وفي كثير من الأحيان كان بعض السعاة يفتحون الرسائل ببخار الماء، ويقرؤونها علّهم يجدون خبرا سارا يُبشّرون به أصحاب الرسالة، ليحظوا بإكرامية سخية، ثم يعيدون إقفال الرسالة كأنها لم تُفتح من قبل.

وقد شاركت الممثلة إيزابيل كمال رسائل ما زالت محتفظة بها، بعضها مع هواة المراسلة، وكذلك خطاباتها مع أمها في بلدة طهطا بمحافظة سوهاج، عندما كانت تدرس في القاهرة.

ساعي البريد كان يقرأ الرسائل للأميين ويكتب لهم

تقول إيزابيل: نحن جيل المراسلات الورقية، بدأتُ مع هواة المراسلة الذين ينشرون عناوينهم وصورهم في المجلات، كنت أشرك أمي في كل تفاصيل حياتي، حتى من أقابلهم، والكتب والمجلات التي أشتريها، والمصاريف اليومية والشهرية “بالمليم”.

ويصف الباحث رشوان تلك الرسائل، قائلا: الرسائل ليست عندي مجرد كلمات وورق، بل هي بشر لهم أحاسيسهم، يتحركون ويتكلمون، يبتسمون ويبكون، ولهذا يراودني فضول أن أنزل إلى شوارع القاهرة، وأبحث عن أصحاب هذه الرسائل، لكن الجولة الأولى باءت بالفشل.

رسائل أيام الحرب العالمية الثانية في الإسكندرية

يقدم الفنان التشكيلي عمرو الكفراوي رسائل متبادلة بين أبيه الأديب الكاتب سعيد الكفراوي وأمه، أثناء عمل الأب في السعودية، وبين الأب والجدّ في المحلّة بمحافظة الغربية.

الأبطال الذين أسهموا في إغناء الفيلم بمقتنياتهم من الرسائل القديمة

يقول عمرو: كان أبي يكتب رسائله بلغة الأديب في كثير من أجزاء الرسالة عندما يتغزل بأمي، ولا يمنعه ذلك أن يتكلم بالدارجة في شؤون المنزل والأولاد والأهل والجيران. وفي رسائله لجدي كان يسأله عن الأرض والمحصول، ويرسل له هدايا، ويحدثه عن مشاريع يمكن أن يقوما بها معا.

وفي صالون ثقافي بالإسكندرية، قدّم الكاتب عبد العزيز السباعي كتابه “مصر بين الخنادق والمخابئ”، الذي يتحدث فيه عن حياة الناس أثناء الحرب العالمية الثانية، من خلال الرسائل المتبادلة بينهم.

يقول: كانت حقبة الاحتلال الإنجليزي لمصر حرجة وصعبة للغاية، وقد ركّزتُ على الرسائل المتبادلة بين أفراد عائلة، يعيش بعضهم في الإسكندرية، وآخرون في القاهرة.

رحلة البحث عن أصحاب الرسائل القديمة

كانت لغة الخطاب أشبه بسيناريو فيلم، وصفٌ لأحداث الحرب بتفاصيلها، صورة الإسكندرية الزاهية في النهار، وصورتها القاتمة في الليل تضيئها القنابل، ويُفزِع سكونها أزيز الرصاص.

كأن أرواح كاتبي الرسائل تستدعينا لسرد حكاياتهم

يتابع أحمد رشوان رحلته في البحث عن أصحاب الرسائل، وقد تعرف على مصممة الأزياء سحر قدري، التي قضت كثيرا من حياتها خارج مصر، وكانت مصدر إلهامه الجديد، فمنحته خطابات متبادلة بين أبيها الدكتور أحمد قدري وأمها، وكذلك بينها وبين أمها عندما كانت في الخارج.

تقول سحر: الرسائل مليئة بالمشاعر والأحاسيس، تزوج أبواي في الخمسينيات، وشكرا لأمي التي احتفظت بهذه الرسائل. كتب لي أبي من اليابان، وكانت تلك آخر رسائله، كتب فيها كثيرا عن حياته، بطريقة توحي بأنها وصايا وتوجيهات لي لمواجهة حياتي.

هواة المراسلة كانوا يحصلون على العناوين من خلال منظمات الشباب والإذاعات والمجلات والصحف

وفي سوق ديانا يقدّم الكاتب والصحفي محمد دياب تجربته مع الرسائل القديمة، فيقول: بدأت هوايتي في المراسلة منذ 40 سنة، عن طريق المجلات، وكذلك من خلال برنامج “بنك الصداقة”، الذي كانت تقدمه هيام حموي في راديو “مونتي كارلو”، كان بمنزلة وسائل التواصل في أيامنا، نتبادل فيه إهداء الأغاني والكتب وأشرطة الكاسيت، وكان الرد يستغرق شهرا أو أكثر.

وعلى كورنيش الإسكندرية جلس رشوان وخاله السباعي، يقرآن الرسائل كأنهما يعيشان مع أصحابها أدق تفاصيلهم اليومية، تراودهما كل يوم فكرة البحث عن أصحابها، ولكن المحاولات كلها تبوء بالفشل، فقد تغيرت العناوين والأرقام، ولم يعد الناس اليوم يعرفونها، وغالبيتهم رحلوا عن الدنيا.

ذكريات على شواطئ الإسكندرية

فنحن -بهذه الرسائل- نعيد سرد هذه الأحداث، وكأننا نستعيد حياة أصحابها، فالعبرة في الرحلة نفسها لا في نهايتها، وكأن أرواح هؤلاء قد استدعتنا لقراءة سيرتهم، والتعرف عليهم وعلى الأحداث التي عاشوها.


إعلان