“نقي إلى الأبد”.. فضيحة نادي بيتار القدس الذي أسس على العنصرية

ما تعرض له لاعبا كرة القدم الشيشانيان المنضمان إلى نادي “بيتار القدس” الإسرائيلي لم يسبق أن تعرض له أي لاعب في العالم، وما قام به مشجعو النادي من أفعال عدائية لمجرد دخول مسلمين إلى صفوف فريقهم لم يرَ العالم مثل بشاعتها وتطرفها من قبل.

تستحق القصة بأكملها السرد لعمق ما تُجليه مضامينها من تعابير عنصرية وكراهية عمياء للعرب والمسلمين، وهي تعكس كمرآة طبيعة المجتمع الإسرائيلي، للتحقق من صحة تشخيصها أو عدمه.

اقترح الوثائقي الإسرائيلي “نقي إلى الأبد” (Forever Pure) توثيق الحكاية التي بدأت مع انطلاق موسم 2012–2013، ولإحكام موضوعيته كان لا بد من ربط الحكاية بتاريخ وطبيعة النادي وجمهوره الفخور بقوة صلته باليمين المتطرف.

قصة الفيلم تستحق السرد لعمق ما تُجليه مضامينها من تعابير عنصرية وكراهية عمياء للعرب والمسلمين

نادي اليهود الشرقيين.. أكثر من مجرد نادي كرة قدم

نادي “بيتار القدس” هو أقدم الأندية الإسرائيلية، ويمثل وجوده إلى حد كبير اليهود الشرقيين، ولهذا فهو بالنسبة للإسرائيليين أكثر من مجرد نادي كرة قدم، وتحليلات الصحفي “أرييل سيغال” -راوي أحداث الوثائقي- تُحيل شعبيته واهتمام الساسة به إلى ظهوره المبكر، وتحوله مع الوقت إلى رمز قومي.

وبعد حصوله على الألقاب والفوز بالبطولات المحلية تحول إلى إمبراطورية استقطبت المنظمات اليمينية والأحزاب المتطرفة قبل غيرها، ومقاعد الجهة الشرقية من الملعب تلخص ما يجري من طبيعته العنصرية وصراحته في البوح بها عبر أناشيد وهتافات مشجعيه، وأغلبيتهم يناصرون منظمة “لا فاميليا” المتطرفة، ولقادتها اليد الطولى في قرارات النادي.

نادي “بيتار القدس” هو أقدم الأندية الإسرائيلية، ويمثل وجوده إلى حد كبير اليهود الشرقيين

“نحن الأكثر عنصرية، ونادينا خالٍ من المسلمين والعرب”

تسمي هتافات المشجعين وأغانيهم الأشياء بمسمياتها، فهي لا تراوغ ولا تخاف، لا من الشرطة ولا من الأحزاب، بل إن الأحزاب تجد على الدوام في رضاهم منطلقا للفوز في أي انتخابات يتسابقون فيها.

وعلى تلك الهتافات أيضا استندت المخرجة “مايا زينشتاين” لتقوية متن وثائقيها الحكائي، فليس أكثر دلالة على عنصرية جمهوره من كلمات أغانيهم الصارخة بيمينيتهم وكراهيتهم لغيرهم، ولا أشد دلالة من شعار ناديهم ذي الرموز التلمودية المعبرة بكثافة عن قناعاتهم بالخطاب الديني المتوارث لصحة احتلالهم فلسطين.

ولهذا فإنهم لا يخشون من المحاسبة، بل يصرخون بأعلى صوتهم “نحن الأكثر عنصرية، ونادينا خالٍ من المسلمين والعرب”، أو يصدحون “نحبك أيها الأصفر والأسود في كل لحظة، ولا نخشى من التعبير عن حبنا لك من الشرطة، ولا هي قادرة على إيقافنا”.

“أركادي غايداماك”.. مالك النادي ومملوك الجماهير

تعيدنا المراجعة السريعة لوضع النادي ونتائجه إلى اللحظة التي سبقت أزمة عام 2012، فوقتها كان مالكه المليونير الروسي “أركادي غايداماك” -المطلوب للقضاء الفرنسي بتهم الاتجار بالأسلحة- قد أعلن تراجعه عن قراره السابق بعدم دعم النادي ماليا، وقرر لأسباب سياسية واقتصادية البدء بتمويله، إلى جانب خوفه من حملات شرسة ضده عبرت عنها شعارات الجمهور في الجهة الشرقية من الملعب، ووصفته بالخائن ومجرم الحرب.

لا تستهوي المالك رياضة كرة القدم أصلا، لكنه على قناعة بأنها تعكس صراعا وحربا خارجها، وهذا الوصف يحبه مشجعو النادي، لأنهم يعتبرونها حربا حقيقية وليست مجرد رياضة، وتصرفاتهم خارج الملعب وداخله تشي بذلك.

المناصب الشرفية.. قبلة الراغبين في أصوات المشجعين

لم يمر الوثائقي سريعا على انسحاب المالك الروسي من النادي بعد الانتخابات المحلية عام 2008، فتوقف عنده قبل دخوله في تفاصيل قصة اللاعبين الشيشان لقوة الصلة بين الحدثين، فدعمه كان مقرونا بحصوله على شعبية تؤهله للفوز بمقعد محافظ بلدية القدس، ورغم صعوده إلى مراحل متقدمة من السباق فإنه خسر المقعد، فقرر الانسحاب التدريجي منه.

ثمة إجماع يوثقه الفيلم الإسرائيلي على تأييد معظم قادة البلاد وسياسييها للفريق، وأن رؤساء حكومات عدة شغلوا مناصب شرفية فيه، فالاقتراب من النادي ظل على طول الخط يعني بالنسبة إليهم ضمان أصوات مشجعيه، وكسب رضى الأحزاب والمنظمات اليهودية المتطرفة التي هي حاضنة النادي الكبرى.

لا تستهوي مالك النادي الإسرائيلي رياضة كرة القدم أصلا، لكنه على قناعة بأنها تعكس صراعا وحربا خارجها

تداخل السياسة بالرياضة.. مستويات الفيلم المتعددة

أشبع الجزء الأول من الفيلم بحثا، وبعد مراجعات للوثائق والتسجيلات ومقاطع من المباريات وطريقة تعبير المشجعين عن حبهم تأكد قوة ارتباط النادي بالسياسة، بل هو بالمعنى الأدق نادٍ سياسي قبل أن يكون رياضيا.

أما الجزء الثاني فأخذ طابعا سرديا مختلفا ركز على تجربة اللاعبين الشيشانيين ويومياتهم مع النادي، وبالتالي يمكن وصف “نقي إلى الأبد” بأنه فيلم متعدد المستويات والأساليب التعبيرية، فهو تحليلي تاريخي إلى جانب كونه استقصائيا ينتقل بين الجانبين بالمتوفر من التسجيلات (الفيديو) وبين الأخرى الجديدة المأخوذة بكاميرته، وقسم منها عبارة عن صور سرية بين صفوف الجمهور الغاضب، وتظهر حين يريد الفيلم تأكيد موقف ما، أو أخذ لقطة ذات دلالة.

“كادييف” و”سادييف”.. جريمة احتراف المسلم في إسرائيل

اللاعبان الشيشانيان “جبرائيل كادييف” و”زور سادييف” هما في الحقيقة بعيدان عن السياسة، فهما مسلمان عاديان لم يأتيا ليحاربا في إسرائيل، وهذا ما أضفى طابعا حزينا على تجربتهم التي لم يتصورا أنهما سوف يجابهان فيها كما من الأحقاد لا يعرفان مصدره.

ليس مصدر الأحقاد ضد اللاعبين مفهوما، لأنهما ببساطة لاعبا كرة قدم، فهمهما الأول مثل غيرهما هو فوز النادي، وكل طموحهما الشخصي مُنصب على الاحتراف واللعب مستقبلا في نوادٍ كروية كبيرة، لكن حظهما العاثر قادهما إلى إسرائيل، فخلال زيارة مالك النادي المليونير الروسي إلى الشيشان برفقة الفريق واستقباله هناك بالترحاب أبرم معهما عقدا لمدة عام كامل، للعب مع ناديه في إسرائيل.

مواقف الصحافة الرياضية الإسرائيلية تفضح النفَس العنصري المعادي للعرب قبل الجمهور

“آرييل هاروش”.. حارس المرمى وقائد الفريق الخائن

تفضح مواقف الصحافة الرياضية الإسرائيلية النفَس العنصري المعادي للعرب قبل الجمهور، فالكثير منها نقل خبر الصفقة بعناوين تلصق صفة العرب بالشيشانيين، ولأن الجهل والحقد أعميان فقد ردد المشجعون نفس الكلام.

لم يعبأ المالك بردود الفعل الأولى الغاضبة، لأن هناك حسابات أخرى غير كروية وراء العقد، بحسب تلميح مدير النادي الذي وجد نفسه وسط عاصفة من الانتقادات والتهديدات طالت عائلته وأطفاله، لكن الأكثر مدعاة لكراهيتهم كان حارس مرمى النادي “أرييل هاروش” الذي كُلف باستقبالهم في المطار والاهتمام بهم، فقد وُصف “هاروش” بالخائن، وطالب الجمهور بطرده ونزع وسام القائد من ذراعه، وتسليمه إلى لاعب آخر، لكون عائلته قريبة من منظمة “لا فاميليا”، ولكون أخيه عضوًا فيها.

ستأخذ صانعة الوثائقي النموذجين للمقارنة بينهما، فتتابع مسار حياتهما الرياضية منذ وصول الغريبين إلى القدس، لتخلق مقاربة جديدة من خلالهما تعرض الجانب الداخلي للعنصرية الإسرائيلية، بوصف الاثنين من نفس الديانة اليهودية، لكن الاختلاف الوحيد بينهما أن حارس المرمى “هاروش” تعاطف قليلا مع لاعبين أجانب انضموا إلى ناديه، فأصبح بذلك التعاطف خائنا رغم أنهم كانوا يعدونه بطلا في نظرهم.

فرحة البطاقة الحمراء.. تصرفات تكسر المنطق الرياضي

في كل مكان يذهب إليه “العربيان” كانت تلاحقهما موجات من الجماهير الشرسة تهتف بعودتهم إلى وطنهم، بوصفهم عربا متعاطفين مع الفلسطينيين، ووصل بهم الأمر إلى حد الجنون يوم سجل أحدهم هدفًا في مرمى الخصم، فبدلا من أن يفرحوا -كما هو المألوف- شتموه وطالبوا بطرده مثل زميله الذي لم يلعب سوى دقائق قليلة، حتى رفع الحكم بعدها في وجهه البطاقة الحمراء، ليحرم بعدها حرمانا تاما، ليس من اللعب في المباراة التي تليها فقط كما تنص لوائح الاتحاد الدولي لكرة القدم، بل امتدت العقوبة حتى نهاية الموسم.

كان طرد اللاعب مجرد ذريعة، لكن الغريب أن جمهور النادي رحب بها وشجع الحكم عليها، فتلك تصرفات لا يحكمها منطق التحيّز الرياضي المعروف في كل مكان، بل إنهم على العكس كانوا يقفون ضد النادي وإدارته، ويطالبونهم بالتنحي ويصفونهم بالخونة والمتعاطفين مع العدو “العربي”.

شهادات اللاعب الأرجنتيني تحيل الفيلم إلى وثيقة إدانة لسلوك عنصري منفلت غير مردوع

شهادات اللاعب الأرجنتيني المسيحي.. تمييز ديني

كلام الجمهور ومواقفه يعكسان بوضوح المزاج العنصري المعادي للفلسطينيين، وهذا ما لم يفهمه الضيفان طيلة الوقت، لكونهما ليسا عربيين في الأصل، وإنما كان هذا الخلط المتعمد ناتجا عن إسلامهم.

وبعيدا عن الجمهور كانت معاملة بقية اللاعبين لهما داخل النادي مؤلمة، فقد عزلوهما عزلانا تاما، فلم يكونوا يشاركونهما الطعام ولا الكلام، لدرجة أن لاعبا أرجنتينيا أحال أسباب التمييز إلى الدين، لأنه كمسيحي لا يُعامل مثلهم.

شهادات اللاعب الأرجنتيني تحيل الفيلم إلى وثيقة إدانة لسلوك عنصري منفلت غير مردوع، بل إنه مدعوم بصمت حكومي ورسمي، وأما الصحافة فإنها تلعب دور المهيج لا المهدئ الموضوعي له.

مقاطعة المباريات.. تصعيد وسائل الضغط الجماهيري

يتصاعد العداء للنادي بسبب وجود “العرب” فيه إلى درجة لم يشهدها عالم كرة القدم خلال تاريخه، فقد اتفق الجماهير فيما بينهم على مقاطعة مبارياته، وتركه يلعب دونهم على أرضه وخارجها، وقد أثر اللعب دون حضور الجمهور على مستواه وهدده بالنزول إلى الدرجة الثانية، ولولا مجابهته لنادي “سخنين” الفلسطيني في مباراة حاسمة لما تغيّر موقفهم منه.

في تلك اللقطة ما يشي بقوة طغيان الأحقاد على المواقف والروح الرياضية، لأنهم وقتها فقط قرروا الذهاب مع ناديهم لتشجعيه ضد العرب، وبعد انتهاء المباراة عادوا إلى مقاطعتهم السابقة له.

كانت جماهير النادي يدا واحدة ضد اللاعبين الأجانب

مواجهة الأحقاد بالرقي.. عفوية اللاعبين

كانت جماهير النادي يدا واحدة ضد اللاعبين الأجانب، فقد وحدهم حقدهم القومي والديني ضد أعدائهم، في مفارقة لم يشهدها نادٍ كروي من قبل، لكنها في داخل مجتمع عنصري يصبح وجودها عاديا، وبالفعل تعامل بقية اللاعبين معها على أنها سلوك سوي يعبر عن مواقف عادلة، فما كان من إدارة النادي إلا تعكير نقاء النادي. حتى حرقهم لبناية النادي تعامل معه الجميع بوصفه حدثا عابرا يعبر عن غضب المشجعين على مسؤولي ناديهم.

على الخط الآخر تصرف اللاعبان الشيشانيان برقي وعفوية، فظلا يؤديان الصلاة في أوقاتها دون تردد، ويزوران مناطق فلسطينية عربية بعضها ذات أغلبية شيشانية الأصل، بينما الطرف الثاني يُصعد ولم يهدأ غضبه إلا ساعة مغادرتهما بشوق إلى وطنهما، فتجربتهم المريرة أشعرتهم بحجم الأحقاد الموجودة في ذلك المكان الكريه والثقيل على النفس، فقد وصلا إليه دون فكرة مسبقة أو موقف معين، لكنهما اليوم يريدان مغادرته بأسرع وقت.

انتصار العنصرية.. عودة الجماهير إلى كراسي الملعب

تعيد خاتمة الوثائقي ترتيب الأوضاع على ما صارت عليه بعد سنوات، فقد رجع جمهور النادي إلى مقاعده، وبخاصة إلى الجهة الشرقية العنصرية المزاج، كما طُرد مدراء النادي وتخلى مالكه عنه، بينما استمر اللاعبان في هوايتهما ووصل أحدهما إلى نادٍ أجنبي.

أما منظمة “لا فاميليا” فقد انتقلت إلى مستوى سياسي أعلى أعلنت فيه عن تشكيلها حزبا يمينيا متطرفا، معتبرة نجاحها في عدم إشراك أي عربي أو مسلم في صفوف النادي فخرا، فالإبقاء على نقاء يهوديته -حسب قناعاتهم العنصرية- هي هويته الخاصة، ولا يحق لأحد المساس بها.