كرة القدم الجزائرية.. ظاهرها الساحرة المستديرة وباطنها طلائع الثورة على فرنسا

إذا ذُكِرت الجزائر، قفز إلى الأذهان مليون ونصف من الشهداء، وملايين آخرون من الجرحى والمنفيين والمهجرين، و132 عاما من الظلم والقهر والتضحيات، وتراءى أمام أعيننا متحف الجماجم في عاصمة النور والعطور والحرية باريس، ما أبشع وجه الاحتلال البغيض، وما أوقحَ قوما يتباهون بجرائمهم.

ومثل غيرهم من شعوب الأرض، فالجزائريون ما يزالون يحبون الحياة، ويتشبثون بأهداب الأمل، عشقوا كرة القدم مثلما أحبها غيرهم، وسطّروا على المستطيل الأخضر أمجادهم كأعلى ما يكون المجد، فأفردت لهم الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “حكايات عن الكرة والحرية”، وقصّت فيها علينا حكاية كرة القدم الجزائرية.

لعبة المحتل.. شغف الساحرة المستديرة يسلب الألباب

دام الاحتلال الفرنسي للجزائر مدة 132 سنة، وتمثلت أبرز سياساته في الإفقار والتهجير واحتكار الأسواق، وفي المقابل كان يوفر سبل العيش الرغيد والرفاهية للمستوطنين الفرنسيين والأوروبيين الذين وصل عددهم أواخر القرن الـ19 إلى نحو مليون مستوطن، والغرض الرئيس هو القضاء على الهوية الوطنية الجزائرية.

جاء المحتلون بثقافاتهم وجمعياتهم، ومن بينها الرياضة وكرة القدم، ولم تمنع تلك الظروف الصعبة الجزائريين من الوقوع في حب كرة القدم، فبدأوا منذ مرحلة مبكرة بممارسة تلك اللعبة، حتى وإن لم تأخذ تلك الممارسة شكل الكرة النظامية، لكن الشغف الذي أبداه الجزائريون جاء في مرحلة مبكرة جدا.

كانت مجرد كرة صغيرة في حارات الجزائر، فأصبحت منتخبا قويا يقاوم الاحتلال

بدأت حكاية في نهاية القرن الـ19 في الأحياء الجزائرية، وكان السكان الأصليون يحذون حذو المحتلين، ويصنعون كراتهم من أشياء بسيطة، ولم تكن هنالك منافسة بل كان الأمر مجرد لهو وتسلية، فالتنافس الحقيقي إنما كان لدى المحتلين والأجانب، وكانت ملاعب السكان الأصليين هي الطرقات والساحات غير الممهدة، بينما الأجانب على ملاعب رسمية ممهدة وكرات جلدية نظامية.

توسعت اللعبة في البلاد وبدأ تأسيس الأندية الجزائرية وإنشاء الملاعب في بدايات القرن العشرين، فقد ذاع صيت اللعبة في الجزائر والشمال الأفريقي، لكن إنشاء النوادي الجزائرية المسلمة كان يواجَه بعراقيل يضعها المحتل، لأنه كان يخشى أن يلتف حولها الجزائريون وتنتج رموزا تدعو إلى التحرير والاستقلال.

نادي الشلف.. نضال رياضي يباركه العلماء والثوّار

كان المحتل بحاول فَرْنسة كل مناحي الحياة في الجزائر، بما فيها الرياضة، وكانوا يستأثرون بمقدرات البلاد، ويحرمون أهلها الأصليين من كل شيء، حتى من المتعة البريئة، ويضيقون عليهم بأماكن اللعب، ويمنعونهم من استصدار الوثائق المطلوبة لإنشاء أي تجمع يوحد الشعب الجزائري.

لكن الجزائريين لم يستسلموا، وأرادوا أن يثبتوا أن الجزائر لأهلها، فقام مجموعة من شباب “الشلف” بنأسيس جمعية الشلف في 1947، وتميزت بمناهضة الاحتلال في منطقتها، وكان أهلها مشبعين بالوطنية، حتى أن شيوخ جمعية علماء المسلمين -ومنهم ابن باديس والعربي التبسّي- كانوا يزورون الشلف ويجتمعون بشبّانها.

من أجل شحذ همم الشباب، كان شيوخ جمعية علماء المسلمين، كابن باديس والعربي التبسّي يزورون نادي الشلف

كما أن مؤسس جبهة التحرير الوطني محمد بومزراق كان من الشلف، فهنالك إذن تاريخ عريق للنضال في هذه المنطقة، فاعتبرها المحتلون بؤرة لتجميع الشباب من أجل التصدي للاحتلال.

كان هنالك ملعب يستخدمه المحتلون والأجانب، وكانوا يمنعون أعضاء جمعية الشلف من استخدامه واللعب فيه، فقام أحد أهالي المنطقة بالتبرع بحقل زراعي ليمارس عليه شباب الشلف الرياضة، وما يزال هذا الملعب قائما حتى الآن، ويسمونه “الفيرم”.

لم يكن التحايل على قوانين الاحتلال ومضايقاته حكرا على جمعية الشلف، بل كان هذا حال كل الشباب الجزائري في مختلف أنحاء البلاد، بينما لا تعدم سلطات الاحتلال اجتراح وسائل وأساليب جديدة للتعنت والقهر كلما لاحت بادرة أمل ينجح فيها الجزائريون بتنظيم أنفسهم وإنشاء أنديتهم وجمعياتهم، ناهيك عن اللعب في مسابقات الاحتلال بأسمائهم وشعاراتهم العربية والوطنية الجزائرية.

“نجم قسنطينة”.. نار الاستقلال المتقدة تحت غطاء الرياضة

رغم وجود محاولات عدة من قبل الشباب الجزائري لتأسيس جمعياتهم الخاصة بهم قبل ذلك التاريخ، أي قبل 1947، فإن الاحتلال كان دائما ما يضع التدابير والمعوقات التي تحول بين الجزائريين وأهدافهم التحررية، فتارة كان يُلزِمهم بإشراك عدد من اللاعبين الأجانب، أو كان يسعى لدمج جمعيات محلية في واحدة كبيرة ويخلطها بالعناصر الأجنبية.

في 1898 أنشئ النادي القسنطيني الرياضي “نجم قسنطينة” في مدينة قسنطينة، على أنقاض الجمعية الإسلامية القسنطينية التي تأسست خصيصا لمقاومة الاحتلال الفرنسي، فكان ذلك كافيا لتعلن سلطات الاحتلال الحرب على النادي وشبابه منذ اللحظة الأولى، وقد تعرض النادي للإغلاق وتغيير اسمه عدة مرات.

النادي الرياضي القسنطيني أول ناد يؤسس في المدينة الجبلية سنة 1898 لمواجهة أندية الاحتلال الفرنسي

بقي النادي صامدا ليمثل الجزائريين في مواجهة ناديين يمثلان الاحتلال الفرنسي، أولهما “نادي الإتحاد الرياضي القسنطيني” الذي أسسه إقطاعيون فرنسيون، وتدعمه سلطات الاحتلال، والثاني “نادي جمعية قسنطينة الرياضية” الذي لا يقبل في عضويته سوى الأوروبيين فقط.

تعتبر قسنطينة مدينة الثقافة والعلوم، ولديها فكر سياسي متقدم على المناطق الأخرى، ولها دور كبير في إعطاء شارة الانطلاق لتجمع شبابي كبير، عن طريق عدة جمعيات وأندية صغيرة تمكن من إرساء القواعد الأساسية لحركة رياضية سياسية، من خلال إنشاء نادٍ رياضي يخص المسلمين.

كانت ألوان النادي تتكون من الأخضر، وهو شعار الإسلام، والأسود شعار الحداد على احتلال الجزائر، بل إن الاسم “نجم قسنطينة” كان له دلالة سياسية، فهو مأخوذ من “نجم الشمال الأفريقي” وهي حركة ساسية تحررية موجودة في شتى بلاد المغرب العربي، وساهم في توعية الشباب القسنطيني من أجل استقلال الجزائر تحت غطاء الرياضة.

“هذه حديقة أمراء العرب”.. إلهام النادي المتيمن بمولد الرسول

في الجزائر العاصمة لم يكن الأمر بعيدا عما يحدث في قسنطينة، بل ربما كان أصعب. فالعاصمة تزخر بالأندية الفرنسية، كما أن يد السلطة الغاشمة طائلة، ومستعدة للبطش بأي تحرك شبابي جزائري يتجاوز الحدود الضيقة التي رسمتها سلطات الاحتلال للحياة الجزائرية بعامة.

بحسب شهادات عبد الرحمن عوف “مؤسس مولودية الجزائر” قبل وفاته، فقد جاءته الفكرة عندما كان يشاهد مباراة للصغار بين الأحياء، حينما سمع جنديا جزائريا يقول: “هذه حديقة أمراء العرب”، ساخرا من الملعب الذي يلعب عليه الفتيان ويشبهه مستهزئا بملعب “حديقة الأمراء” في باريس.

في ذكرى ميلاد الرسول الأكرم، نشأ نادي مولودية بالعاصمة الجزائرية سنة 1921 على أعين الاحتلال الفرنسي

في هذه اللحظة تحديدا أخذت عبد الرحمن عزة العربي واعتداده بنفسه، وفكر بإنشاء نادٍ رياضي خاص لشباب الجزائر العاصمة، فاجتمع بأصحابه في 1921 وعرض عليهم الفكرة، ولم تكن شيئا هينا آنذاك، فمجرد إدماجه في رابطة كرة القدم كان من شبه المستحيل، فعمره الذي لم يتجاوز 18 عاما لا يؤهله لطلب تأسيس نادي.

اضطر عبد الرحمن إلى تزوير وثائق، منتحلا صفة زوج عمته، وقُبل بواساطات من جزائريين كانوا يعملون في الرابطة الفرنسية، واستخدم حيلة ثانية بإدراج فرنسيين ضمن قائمة المؤسسين، لأنه لا يروق للمحتل إعطاء ترخيص لهيئة تأسيسية جميع من فيها من المسلمين، ثم إن هؤلاء الفرنسيين كانوا من المتعاطفين مع القضية الجزائرية.

حتى اسم “مولودية” جاء من مصادفة يوم الموافقة على تأسيس النادي مع ذكرى مولد الرسول الكريم محمد ﷺ، أما الألوان فاختار الأخضر الذي يرمز للأمل القادم، والأحمر الذي يرمز للمقاومة والتضحية، ثم ساهم هذا النادي في تأسيس مجموعة أخرى من الفرق، منها مولودية السعيدة ومولودية بيجاية، وفرق أخرى تبعت هذا الاسم الذي يرمز للمولد النبوي.

وقد كانت مباريات المولودية مع الفرق الفرنسية سياسية أكثر من كونها رياضية، فالهتافات والشعارات الوطنية وروح التحدي تتقدم المشهد، والجدير بالذكر أن النادي قدم عددا من الشهداء أثناء حرب التحرير، بعضهم من اللاعبين.

الاتحاد الجزائري لكرة القدم.. تتويج الاستقلال

أما الاتحاد الجزائري لكرة القدم فلم ير النور إلا بعد التحرير ونيل الاستقلال، لكن المحاولات لم تتوقف خلال النصف الأول من القرن العشرين لتشكيل رابطة جهوية جزائرية لإدارة شؤون الكرة الجزائرية، على الرغم من تضييق المحتل الفرنسي، ومحاولة إجبار الجزائريين على اللعب تحت لواء الرابطة الفرنسية لكرة القدم.

وكانت الرابطة الفرنسية تضم فرقا في الدرجة الأولى حكرا على الفرق الفرنسية والأوروبية الخالصة، أما الأندية الجزائرية فكانت توضع في الدرجات الدنيا الأخرى، وإذا ما حدث أن فريقا جزائريا وصل إلى الدرجة الأولى، فإن المحتلين يلفقون له التهم المختلفة من أجل استحقاق عقوبة الهبوط إلى الدرجات الدنيا ثانية.

بعد انسحابهم من أندية فرنسا سنة 1958، أنشأ أبطال كرة القدم فريق جبهة التحرير الذي أصبح فيما بعد منتخب الجزائر

استمر النضال الجزائري بين كرّ وفرّ حتى حرب التحرير، واستمرت الرياضة الجزائرية تمثّل رافعة للمقاومة، يستثمرها الشباب الجزائري لرفع روح التحدي وإثبات الذات، ولسان حالهم يقول للمحتل: إننا سننفذ لكم من كل باب متاح، وإذا أغلقتم علينا بابا فسنفتح أبوابا غيره.

أما بالنسبة لبطولة الكأس فلم تكن بمثل أهمية الدوري، فكان تنظيمها يجري بيسر، على طريقة الإقصاء المباشر للمغلوب، وكان أول فريق جزائري يفوز بالكأس هو “وفاق سطيف” على حساب “اتحاد الجزائر”.

وتوّج نضال تلك الأندية بظهور فريق جبهة التحرير الوطني بعد اندلاع حرب التحرير، ليكون ممثلا للشعب الجزائري الذي لم يستطع حتى ذلك الوقت تكوين منتخب يمثل الجزائر من بين كل تلك الأندية التي ترزح تحت بطش المحتل، واستمر هذا الفريق في تمثيل الجزائر حتى نيل الاستقلال، ثم تبعه استقلال الرياضة على جميع المستويات.

بعد الاستقلال تشكلت الاتحادية الجزائرية لكرة القدم، ليتبع ذلك ولادة أول منتخبٍ وطني لكرة القدم يمثل الجزائر المستقلة. ولكي نفهم دور كرة القدم في النضال من أجل إيصال صوت الشعب الجزائري إلى العالم، يكفي أن نتذكر اللاعبيْن رشيد مخلوفي وزيتوني، اللذين رفضا تمثيل المنتخب الفرنسي في كأس العالم 1958 بالسويد، والتحقا بدلا من ذلك بفريق جبهة التحرير الوطني.


إعلان