“صوت الآخرين”.. مترجمة في مركز للاجئين تختزل ألم حكايات الهجرة

وراء تلك الأرقام التي تحصيها المنظمات، وتترصدها القنوات الإخبارية حول عدد اللاجئين والنازحين، تقف ملايين القصص الإنسانية لعائلات وأفراد شتتتهم الحروب والنزاعات المسلحة، هروب من العنف الذي في الوطن، ومحاولة لإدراك فرص للنجاة والظفر بحياة ثانية في بلد آخر، عن طريق الهجرة أو النزوح أو اللجوء.
مواضيع لم تستطع السينما العالمية والعربية تجاوزها، لكونها مرهونة بأوضاع سياسية أمنية وتحولات مجتمعية، مما وضع صناع الأفلام أمام حتمية التوثيق للأحداث وطرحها سينمائيا.
وكان هذا التزاما إنسانيا وأخلاقيا لدى عدد من الكتاب والمخرجين، وترجمة لسعيهم الحقيقي لتقديم سينما فعالة، تدعم حقوق اللاجئين والنازحين، وتعرض بعض ما عاشوه في رحلة الهروب من الموت إلى المجهول.
ضمن سياق مكمل لهذا المشهد والمبدأ، جاء فيلم “صوت الآخرين” (La Voix des autres) للمخرجة الفرنسية ذات الأصول الجزائرية فاطمة قاسي، فقد اختارت أن تُسمع العالم صوت اللاجئين، وتنصت لقصص المضطهدين التي لا يسمح لهم بإتمامها.
أحداث وأحاديث بقيت حبيسة مكاتب طالبي اللجوء وعديمي الجنسية، في انتظار الإفراج عن مصيرهم، إما بالتسوية والإدماج، أو الإقرار بالعودة للوطن جبرا وكرها.
أنتج هذا الفيلم القصير سنة 2023، وقد اشتركت فاطمة قاسي و”بابلو ليريدون” في تأليفه، وهو يجمع بين الروائي والوثائقي، ويطغى عليه استعراض كثير من القصص الحقيقة، وقد قامت ببطولته الممثلة التونسية أميرة شبلي، وسهام الداوو، ومحمد أمين بن رشيد.
ريم.. موظفة تخون قواعد الترجمة خدمةً للاجئين
تعمل ريم -وهي تونسية الأصل- مترجمة بمركز فرنسي للاجئين وعديمي الجنسية، وتُكلف بترجمة مضامين الشهادات حرفيا من غير شرح ولا توضيح أو تفسير، وأثناء ممارستها لمهامها تجد نفسها بين خيارين لا ثالث لهما؛ فإما الترجمة بأمانة ومهنية، أو التصرف في رواية طالبي اللجوء، بهدف المساعدة، ولدواعٍ إنسانية.
يعرضها ذلك لمساءلة من مسؤولي المركز، حين تكتشف الإدارة تعاطفها مع اللاجئين القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط، أو من دول أخرى تعيش عنفا وشتاتا.

ترى ريم في قصص اللاجئين جزءا مخفيا من حكايتها، وتبحث في تفاصيلهم عن مصير زوجها الذي اختفى منذ زمن طويل، وتعبّر ملامحها وصمتها عن حجم المعاناة والوحدة والفقد الذي تعيش.
كما أن تأثرها بالقصص التي تصغي إليها وتنقل بعضها وتتصرف في بعض جزئياتها وفق ما يخدم ملف طالبي اللجوء، يعكس رغبتها الكبيرة في المساعدة، مع إدراكها التام بأن الأمر سيأخذ منهم كثيرا من الوقت، ففي هذه المواقف يتساوى المهاجر واللاجئ، ما دام الغرب يراهم أقل قيمة من المواطن الفرنسي والأوروبي عموما.
نبش في الملفات والحكايات عن زوج مفقود
تحيي شهادات طالبي اللجوء قصة ريم الخاصة، ففي كل مرة تجدها تنبش سجل المعتقلين والمفقودين بين عامي 2011- 2016، بحثا عن أي مستجد يتعلق بوضع زوجها السوري الذي أخذه النظام، وقد يكون ضمن المعتقلين الذين يتجاوز عددهم 200 ألف.
لم تطرح ريم واقعة الاعتقال في الفيلم مباشرة، بل أوردتها من خلال تداخل لمسته في قصة امرأة سودانية، فقد قالت إنهم جاءوا للبحث عنه ليلا، وأخذوا منه حاسوبه، ومنذ ذلك الوقت اختفى وكأنه لم يكن في الوجود من قبل.
مع هذا تُبقي ريم في نفسها جذوة من الأمل، مع أن مساعيها في إيجاده لم تثمر أي نتيجة.

فيلم “صوت الآخرين” تجربة سينمائية، تكشف للعالم مرة أخرى كيفية تعاطي الغرب مع ملفات طالبي اللجوء، ففرنسا التي تتخفى خلف الشعارات، وتتغنى بالإنسانية، وتنادي باحترام الحقوق والحريات، لا تهتم بصدمة القادمين أو الفارين من مناطق الحروب والصراعات، ولا لحجم الفقد وما تركوه في أوطانهم، ولا تتفاعل أيضا مع انفعالات وشعور الناجين من الموت.
بل تعاملهم وكأنهم متورطون في جرم، لا لاجئون طالبون لحماية الدولة، مما يجعل ريم تتصرف أحيانا ببعض التفاصيل، محاوِلةً إقناع الإدارة بالنظر في الطلب، والأخذ بعين الاعتبار أنها حالات إنسانية يمزقها الخوف، ويصعب عليها تجميع أفكارها للتعبير عن حجم الألم، وكل ما حدث معها من لحظة المغادرة إلى دخول الأراضي الفرنسية.
“صوت الآخرين”.. ثلاث شخصيات تعكس الأوضاع السياسية
يطرح الفيلم الأوضاع السياسية والأمنية التي كانت وما تزال تعيشها بعض الدول الأفريقية والعربية، ومنها سوريا وليبيا والسودان وتشاد، مثل تهديدات جماعة بوكو حرام، والاعتقالات التي طالت السوريين في درعا وبعض المحافظات الأخرى، والحرب في السودان، وانقسام الشمال عن الجنوب.
مسائل شتى تؤكد أن الهم المشترك إنساني، فالنماذج الثلاثة تتعامل معها فرنسا على أنها سرديات تحتمل الكذب أكثر من الصدق، والخطر الذي يهدد اللاجئين يتطلب أدلة قاطعة، للنظر في إمكانية تسوية وضعية أولئك الذين اضطرتهم الحرب لترك أراضيهم بمن فيها، بحثا عن فرص للحياة والنجاة.

لا تعبأ إدارة المركز بالمشاعر والحقائق التي تحاول المترجمة ريم نقلها خلال المقابلات، بل تتعامل بنفس الطريقة مع الشخصيات الثلاث التي يقدمها الفيلم، سواء المحامية والحلاق والراقصة خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية.
يضع الفيلم المُشاهد أمام جزء من المراحل التي يقطعها طالبو اللجوء لتسوية أوضاعهم، ويشركه في التوتر الذي تعيشه الشخصيات، سواء اللاجئون والمترجمة، التي تكون وسيطا بينهم وبين إدارة تأخذ وقتا كثيرا في التدقيق بمدى مطابقة المضامين المكتوبة والسردية الشفوية، وإن كان عسيرا أن يدافع المرء شفويا عن قصص مدونة مسبقا.
ملفات اللاجئين.. أرقام وإحصائيات لتسجيل مواقف الدولة
تتعامل الإدارة الفرنسية مع طالبي اللجوء بنوع من البرودة والتشكيك، من دون أدنى اعتبار لما عاشوه من تهديد لحياتهم ومساس بحريتهم.
فتلك الحالات في نظرهم ليست قصصا حقيقية صادقة، بقدر ما هي أرقام وإحصائيات، ستُرفع لاحقا للجهات المعنية بذلك، وملفات قد لا ينظر فيها ولا تسوى أوضاع أصحابها، وجهود يراد بها تسجيل مواقف عن المساعي التي تبذلها الدولة بكل مؤسساتها، لحماية طالبي اللجوء وتسوية أوراقهم.

وتعزز المخرجة قسوة التعامل مع طلبات اللجوء في أكثر من مشهد، ولعل أبرزها مشهد تأخذ فيه موظفة مكتب اللاجئين جواز سفر امرأة سودانية، وهو الوثيقة الوحيدة التي تربطها بالوطن بعد مغادرتها له نهائيا، ولم يُترك لها المجال لقول كل ما لديها من حقائق وأدلة، تثبت حقيقة ما أصابها في رحلتها المليئة بالخطر، من الخرطوم إلى باريس.
أميرة شبلي.. ممثلة مثقلة بالوعي السياسي والإنساني
مرت بطلة الفيلم أميرة شبلي بتجربة تتقاطع إلى حد ما مع ما كانت تقوم به ريم في الفيلم، وهي ممثلة تونسية متشبعة بوعي سياسي وإنساني كبير، وقد عملت على مساعدة غير الناطقين بالفرنسية، منذ دخولها التراب الفرنسي مهاجرةً.
ولكنها لم تستمر طويلا في هذه المهمة لعدة اعتبارات، ولعل هذا ما جعل أداءها أصدق، إضافة إلى وعيها بالقضايا الراهنة، والأحداث التي يعيشها العالم.
وبذلك استحقت التتويج بجائزة أحسن ممثلة في الدورة الـ46 من مهرجان “كليرمون فيران” الدولي للأفلام القصيرة، وهو ثاني أكبر مهرجان سينمائي بفرنسا.

كما أن خبرتها في التمثيل المسرحي والرقص الكوريغرافي جعلتها تتماهى وتنسجم مع الشخصية انسجاما لافتا، فأداؤها يشعرك بأنها معبأة ومثقلة بقصص أولئك الذين شتتتهم الحروب.
كما أن المخرجة فاطمة قاسي تعمدت إظهار ملامحها والتركيز عليها، لمعرفتها الجيدة بأنها تجيد التعبير بالنظرة والنبرة والكلمة والحركة، كيف ومتى شاءت.
فرصيدها مليء بالتجارب الفنية المهمة في السينما والدراما التلفزيونية، نذكر مثلا مشاركتها في مسلسل “لأجل عيون كاترين” (2012)، ومسلسل “ألفوندو” (2021)، وفيلم “إدراك” (2021)، وفيلم “تونس الليل” (2017) الذي نالت به جائزة أحسن ممثلة في مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي سنة 2018.
كما أن تكوينها في المسرح البرليني 3 سنوات جعلها أكثر توظيفا لجسدها، وأوسع وعيا بالفضاء، سواء كان كاميرا أو ركحا (خشبة المسرح).
صناعة الصورة.. تأثير بالمضمون والمؤثرات البصرية
على مستوى الصورة، حاولت المخرجة فاطمة قاسي من خلال المشهد الافتتاحي أن تُدخل المُشاهد في بيوت الناس، وتجعله في قلب الأحداث والقصص التي سيصبح شاهدا عليها بعد ذلك.
كما أن توزيع الإضاءة في الفيلم يوحي بالحالة النفسية والصراع الداخلي، الذي تعيشه الشخصية الرئيسة (ريم المترجمة)، ووضعها في إطار ضيق يعكس ما كانت تمر به، بعد مساءلة المؤسسة التي تشتغل بها.
كانت نوعية الإضاءة وشدتها تتغير حسب حالة المشهد، أما الزوايا المختارة فكانت تسعى لتجسيد وضع كل الشخصيات، فكان الطرف الفرنسي مثلا يظهر دوما ذا قوة وسلطة ونفوذ.
أما اقتراب الكاميرا من بعض الشخصيات وتركيزها عليها، فقد أريد به خلق نوع من التعاطف، وإيصال إحساس ما للمُشاهد، وملامسة إنسانيته.

جدير بالذكر أن النجمة “كيت وينسلت” الحائزة على جائزتي الأوسكار و”غولدن غلوب”، وسفيرة العلامة التجارية لـ”لوريال” باريس، هي من توجت المخرجة فاطمة قاسي بجائزة “أضواء على النساء”، عن فيلمها الذي بين أيدينا “صوت الآخرين”، وذلك على هامش الدورة الـ76 من مهرجان كان السينمائي.
قصص اللجوء.. جزء من تاريخ السينما العالمية وذاكرتها
يمنح مشروع الاغتراب لصاحبه فرصة العودة عن الفكرة، والرجوع عن القرار إذا لم يوفق في مسعاه وفشلت التجربة، أما اللجوء فلا يمنح أصحابه متسعا من الخيارات، فحياتهم المهددة في بلدانهم تفرض عليهم تحمل تبعات الخطوة، وتقبل إهانة الآخر لهم، ما دامت العودة في هذه الحالة ليست الخيار الأنسب أو الأصح.
وقد دافع عن ذلك الطرح عدد من السينمائيين في أفلامهم الروائية أو الوثائقية، التي تحاكي الغربة واللجوء والنزوح، وهي محطات توقفت عندها السينما العالمية طويلا، تغذت من قصصها ولم تنتهِ من جرد كل موضوعاتها، التي تعود للواجهة بتأجج الأوضاع أكثر.
عرضت الجزيرة الوثائقية مؤخرا فيلم “سارة مارديني، سباحة عابرة للقارات”، وهو يسرد قصة سبّاحة اضطرتها الحرب في سوريا للهروب نحو أوروبا، في رحلة لم تكن فيها فرص النجاة والموت متكافئة، ولكنها حملت مغامرة لاجئة سعت لمساعدة الآخرين في عرض البحر، فوجدت نفسها متهمة بتهريب البشر عبر السواحل اليونانية.
وقد أسقطت عنها التهمة فيما بعد، وأصبحت من أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم عام 2023، واهتم بها الإعلام على نطاق واسع، والتفّت حولها السينما في أكثر من مناسبة، بل حركت كثيرا من السينمائيين، لإنتاج قصص عن الناجين من الموت المؤكد.
يقابَل هذا الطرح بأفلام أراد أصحابها التصدي لمشروعي اللجوء والنزوح، فقد رأوه عبئا وتهديدا لأمنهم واقتصاد بلدانهم، في حين حاولت أفلام أخرى التركيز على صراع الهوية وصعوبة الاندماج، وانحازت أصوات بعض المخرجين للضمير والإنسانية، ودافعت عن حق اللاجئ والنازح في التسوية القانونية.
فمثلا في فيلم “كفر ناحوم” للمخرجة اللبنانية نادية لبكي، التقت جنسيات شتى، والتفت حول فكرة اللجوء.
وفي فيلم “الرجل الذي باع ظهره”، طرحت المخرجة التونسية كوثر بن هنية فكرة اللجوء والهجرة بمنظور جديد، بعيدا عن الصورة النمطية التي ارتبطت بهذه المواضيع، وترسخت في ذاكرة المشاهدين.
ومن قصة حقيقية استوحى المخرج البريطاني “إدوارد واتس” أحداث فيلم “أوكسجين” (Oksijan)، من قصة فتى أفغاني كاد يفقد حياته خلال محاولته التسلل لدخول الأراضي البريطانية.
وما يزال هذا الموضوع يتصدر المشهد السينمائي من ناحية الإنتاج أو في خريطة المهرجانات، ولكل طريقته في التعاطي مع هذه المسائل، التي ستظل مطروحة ما دام العالم يشهد تصعيدا ومزيدا من الحروب.
إلغاء القيود الحدودية.. سعي أممي لحماية اللاجئين
على لسان المفوض السامي لشؤون اللاجئين “فيليبو غراندي”، طالبت الأمم المتحدة حديثا دول العالم بإلغاء القيود المفروضة على حدودها، التي تمنع دخول اللاجئين، بوصفها قيودا غير قانونية، فقد بلغ عدد اللاجئين في العالم 43.7 مليون نسمة، حسب آخر إحصاء نُشر منتصف سنة 2024.
هذا وتؤكد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التزامها الدائم منذ تأسيسها في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1950 بضمان حق الناس في الهروب من العنف والحروب والاضطهاد، ثم طلب اللجوء إلى أماكن أكثر أمنا وسلامة، مع توفير الحماية والدعم للاجئين في العالم.
وقد اختارت المفوضية تاريخ 20 يونيو/ حزيران ليكون يوم اللاجئين العالمي.