أبو القاسم الشابي.. ابن تونس الذي أصبح شعره جذوة أجيال من الثائرين

على أجنحة الألم والأشواق المسافرة لا يزال أبو القاسم الشابي محلقا في سماوات الإبداع، ولا تزال صوره الشعرية ترافق الأجيال ترانيم للعشاق ومنبرا للتاريخ والثورات وضفائر على جدائل الأيام.

ولد الشابي في قرية تونسية وادعة تدعى شابة بمحافظة توزر عاصمة الواحات التونسية، ونشأ ابنا لأسرة مكينة في معارف الشريعة الإسلامية واللسان العربي الذي كان ينساب في تلك الواحات انسياب النسيم بين عثاكيل النخل ذي السعوف الطوال.

منهل القرآن.. طريق إلى الإبداع والتفتق الذهني

لم يكن سيد الشجر المجتبى يمد هامته إلى السماء يناغي الغيوم ويمد جذوره في أعماق الأرض صمودا وانتماء، أكثر قربا إلى السماء أو رسوخا في الأرض من أي من أبناء شابة، وخصوصا من الطفل الوديع الذي التقط أولى صور الحياة في 24 فبراير/شباط 1909 لأب من خيرة علماء وقضاة تونس.

ولأن الأب قاض شرعي، فقد تنقل بين مدن وواحات وجيوب متعددة من تونس، وتنقل معه ابنه أبو القاسم، فامتلأ حبا للأرض وتنوعت في مخيلته وذاكرته باقات الأزهار الندية التي كانت تمثلها تونس خلال العشرين الأولى من القرن العشرين.

نهل الشابي من معين القرآن الكريم باكرا، فحفظه وهو ابن ٩ سنين بعد أن ظهرت عليه آيات النجابة والنباهة وهو يدرج بين كتاتيب مدينة قابس التي ينتمي إليها أحد كبار علماء المالكية، وهو أبو الحسن القابسي.

أكب النقاد والشعراء على دراسة شعر الشابي باعتباره “أبو الشعر الحديث” في تونس

وفي 1920 أرسله والده إلى العاصمة تونس ليوسع معارفه من خلال الدراسة الثانوية في جامعة الزيتونة، وهناك في العاصمة وجد الشابي المكتبات ومجالس العلماء والكتب العصرية، فأقبل عليها إقبال الطير الظامئ إلى المورد العذب، وإقبال النسيم على الزهور، فتضلع من الأدب عموما، وخصوصا الأدب الغربي الذي اطلع عليه عبر الترجمات، ووجد فيه ضالة نفسه التواقة إلى الأدب، وإليه استكن لما وجد فيه من مضامين جديدة متمردة على نسقية الإبداع التقليدية، فلم يعد البكاء على الأطلال الطريق الشعرية الوحيدة للتعبير عن علاقة الإنسان بالأرض أو الكون.

توظيف ثقافة الغرب.. نظرة دونية إلى الخيال العربي

كانت قراءات الشابي في الآداب الغربية والآراء النقدية المنسابة على هوامش الحراك الثقافي والإبداعي في أوروبا دافعا أساسيا له لبلورة أسئلة جديدة عن الأدب والشعر والإنسان والمواقف، وعن المخيال الأدبي للشاعر كيف وممَّ يتشكل، ودفعته أكثر إلى الإزراء على المخيال العربي القديم الذي وصفه بأنه “خيال ضحل” فقير في مقابل ثراء الخيال الغربي الذي تمده الأساطير والأديان والقيم والفنون القديمة والمعاصرة، بأنهار متعددة من التصوير الفني الذي يجمع بين زركشات المادة والكون المحيط بها، وبين أعماق النفس البشرية، ويغوص أكثر في تفاصيل الطبيعة، ليعيد نسج علاقة جديدة معها.

أحد مؤلفات أبي القاسم الشابي بعنوان “الخيال الشعري عند العرب”

ولم تكن تلك القيم والآراء الأدبية الجديدة التي اعتنقها الشابي أكثر من بطاقة دخول دائم إلى عمق الرومانسية العربية، والتيار التجديدي بشكل عام.

في العام 1927 أصبح الشابي اسما أدبيا مشهورا في تونس مع بداية نشره لقصائده الحادبة على الإنسان والطبيعة، في جريدة النهضة الأسبوعية، ثم تعرفت عليه النخبة الأدبية أكثر مع صدور جزء من أعماله الأدبية ضمن المجلد الأول من كتاب زين العابدين السنوسي “الأدب التونسي في القرن الرابع عشر” الصادر سنة 1927 عن مطبعة العرب.

الحقوقي الشاعر

إذا كان الشابي قد اجتاز عتبة الشهرة في ذلك العام، فقد اجتاز فيه أيضا عتبة الجامعة بعد حصوله على شهادة ختم الدروس الثانوية من جامعة الزيتونة، حائزا بذلك أعلى شهادة يمكن لمن هو في سنه يومها الحصول عليها.

وبعد الثانوية توجه إلى دراسة الحقوق بمدرسة الحقوق التونسية، وبدأ الحس الأدبي والشهرة الشاعرية تطغى على الشاب ابن العشرين ربيعا، فبدأ يدخل في يوميات الفعل الأدبي إبداعا ونقدا في تونس، حيث ألقى في فبراير/شباط 1929 أول محاضرة له في المكتبة الخلدونية عن الخيال الشعري عند العرب، فلم يشد بقوة ولا اندفاع ذلك الخيال، بل رآه دون مستوى الخيال الشعري الغربي.

وفي تلك السنة أصبح الشابي كاتبا عاما لجمعية الشبان المسلمين الحديثة النشأة في تونس، لكن الخلفية الأدبية سرعان ما طغت على اهتمام الشاب الشابي وشهرته، بعد أن سن قلمه الحاد في نقد الذائقة والذهنية الأدبية السائدة، ومطالبته الحادة بتحرير الشعر من قيود الاجترار والإلقائية والتقليدية، والعمل على اكتشاف مضامين ومجالات جديدة للإبداع، مما جعله بالفعل خصما للتيارات التقليدية في الأدب، فظلت تنظر بكثير من التوجس والريبة إلى الشاب الذي يشق سماء الشهرة في تونس، بل الشاب الذي أصبح مع الزمن أشهر صوت شاعري في تونس، بل وبين الشباب العربي بشكل عام.

جماعة “أبولو” إله الشعر.. شهرة الشابي في الآفاق

مع العام 1933 بدأت شهرة الشابي تخرق آفاق تونس، بعد أن أصبح أحد الأصوات الشعرية التي تنقلها مجلة “أبولو” المصرية الناطقة بلسان حال وآمال وإبداعات جيل عربي جديد من أدباء الرومانسية الجديدة.

قصيدة الشابي التي جمع فيها مراحل الحياة كلها لا يمكن أن يتصور قارئها بأن الذي كتبها شاب صغير

لقد نشرت مجلة “إله الشعر” (أبولو) للشاعر الشابي نصه الخالد صلوات في هيكل الحب، وما لبث أن أتبع تلك الصلوات بتسابيح شعرية خالدة، بعد أن طلب منه الأديب المصري ومؤسس جماعة “أبولو” الشعرية -التي ضمت شعراء الرومانسية في العصر الحديث- أحمد زكي أبو شادي أن يكتب له مقدمة ديوانه الينبوع، وطلب الشابي من زكي وجماعة “أبولو” نشر ديوانه، الذي طبع لاحقا تحت عنوان “أغاني الحياة”.

انطفاء المشعل.. يموت الجسد ويبقى الأدب

اقتات الشعر والمرض من جسد أبي القاسم الشابي عدة سنوات، قبل أن يقعده المرض رهين فراش، وبعد أن تجسدت المأساة التي تغذي شعره وشعر الرومانسيين عموما في ذاتية طافحة، فلم يعد حديثه عن الليل والغربان ولا التشتت ولا الضياع ولا الأنياب الزرقاء للزمن، أكثر من تجسيد شعري لسطوة المرض الذي أكل بشراهة جسده النحيل الذي تناهشته الأسفار والهمة العالية والأدب المجنح.

ومع حلول العام 1934 انطفأ مشعل الشابي، فغادر الدنيا عن خمس وعشرين سنة لا أكثر، قبل أن ينسج له الشعر عباءة عُمْر لا ينقضي.

“خُلِقْتَ طَليقًا كَطَيفِ النَّسيمِ”.. شاعر الوطنية والتمرد

تعددت أقانيم القضية الأدبية عند الشابي، فرفع أيدي الثوار برايات الأمل والصبر والعزيمة، وملأ نفوس العشاق بتباريح الهوى وآلام الغربة والضياع، وعاش الذاتية والسوداوية في أحلك ما يمدها به مداد المأساة من تعابير وخيال وصور.

قصيدة كتبتها الشابي سنة 1925 وضعت على ضريحه بعد موته في عام 1934

وقد استصرخ الشابي الإنسان ليعيد اكتشاف ذاته، ويكسر كل القيود التي تحيط بها سواء كانت قيود الاستعمار والطغيان، أو قيود العادات، أو قيود الأدب التي تشوه في نظره قسمات الإبداع الوسيمة مثل تباشير الصباح:

خُلِقْتَ طَليقًا كَطَيفِ النَّسيمِ *** وحُرًّا كَنُورِ الضُّحى في سَمَاهْ

تُغَرِّدُ كالطَّيرِ أَيْنَ انْدَفَعْتَ *** وتشدو بما شاءَ وَحْيُ الإِلهْ

وتَمْرَحُ بَيْنَ وُرودِ الصَّباحِ *** وتنعَمُ بالنُّورِ أَنَّى تَرَاهْ

وتَمْشي كما شِئْتَ بَيْنَ المروجِ *** وتَقْطُفُ وَرْدَ الرُّبى في رُبَاهْ

كذا صاغكَ اللهُ يا ابنَ الوُجُودِ *** وأَلْقَتْكَ في الكونِ هذي الحيَاةْ

فما لكَ ترضَى بذُلِّ القيودِ *** وتَحْني لمنْ كبَّلوكَ الجِبَاهْ

“إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ”.. معركة خالدة ضد الطغيان

وقد عاش الشابي مقاتلا ضد الاستبداد بكل ألوانه وكل ألسنته وكل توجهاته، وكان يرى الثورة كامنة في الشعب ويمكن أن تظهر كل حين، وأن أي عسف يمارسه الطغيان ما هو إلا منبه لإيقاظ الثورة النائمة.

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ *** فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي ***    ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ *** تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ

فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ *** من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ

إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ *** رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ

ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ *** ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ

ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ *** يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ

أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ *** ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ

وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ *** ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ

“أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي”

وكثيرا ما تحولت الثورة التي تسكن بين جوانح الشابي إلى سياط يجلد بها الظلمة، ويحذرهم من مصارع الاستبداد وغضب الشعوب:

ألا أيُّــهـا الظـــالـمُ المُســـــتَبـِد

حبـيـبَ الـظـلامِ عــدُوَّ الحَـيـاهْ

سخـرتَ بأنَّـاتِ شَعـبٍ ضعـيـفٍ

وكـفُّـكَ مَخضـوبـةٌ مــن دِمـــاهْ

وسـِرتَ تُشـوِّهُ سِـحـرَ الـوُجـود

وتَبذُر شَـوكَ الأسـى فـي رُبـاهْ

رُويـــدَك! لا يَخـدَعَـنـكَ الـرَّبـيــع

وصحوُ الفَضـاء، وضـوءُ الصَّبـاح

ففي الأفُقِ الرَّحبِ هَولُ الظلام

وقصفُ الرُّعُود، وعصفُ الرِّيـاح

حـذارِ! فتـحـتَ الـرَّمـادِ اللهيــب

ومن يبذُرِ الشـوكَ يجـنِ الجـِراح

“والشاعر يجب أن يكون حرا كالطائر في الغاب والزهرة في الحقل والموجة في البحار”

“رُبَّ عيشٍ أَخَفُّ منه الحِمَامُ”.. نفض غبار الكسل عن الشعب

يهاجم الشابي في عدة مقاطع شعرية بسطوة الإبداع الغاضب حياة الخمول والضعة التي تسود الشعب التونسي، وهو يعاقر آلامه وهمومه ومآسيه، ويقبل قيوده التي تدمي قدميه:

أَيْنَ يا شعبُ قلبُكَ الخافقُ الحسَّـ *** ـاسُ أَيْنَ الطُّموحُ والأَحْلامُ؟

أَيْنَ يا شعبُ رُوحُك الشَّاعرُ الفنَّـ *** ـانُ أَيْنَ الخيالُ والإِلهامُ؟

أَيْنَ يمُّ الحَيَاةِ يَدْوي حوالَيْـ *** ـكَ فأَينَ المُغامِرُ المِقْدامُ؟

أَيْنَ عَزْمُ الحَيَاةِ لا شيءَ إلاَّ الـ *** ـموتُ والصَّمْتُ والأَسى والظَّلامُ؟

عُمُرٌ مَيِّتٌ وقلبٌ خَواءٌ *** ودمٌ لا تُثيرُهُ الآلامُ

وحياةٌ تَنامُ في ظُلْمة الوا *** دي وتنمو في فوقها الأَوهامُ

أَيُّ عيشٍ هذا وأَيُّ حياةٍ *** رُبَّ عيشٍ أَخَفُّ منه الحِمَامُ

وضمن هذا الفضاء الشعري الثائر، تجد الطبيعة أيضا منحنى واسعا في تموجات القضية الشعرية عند الشابي، فنراه يغني للصباح ويعاقر خمرة الزهر الفواح في الطبيعة المتأرجحة بالبراءة والطهر:

أَقْبَلَ الصُّبْحُ يُغنِّي *** للحياةِ النَّاعِسَهْ

والرُّبى تَحلمُ في ظِلِّ *** الغُصونِ المائِسَهْ

والصَّبا تُرْقِصُ أَورا *** قَ الزُّهورِ اليابسَهْ

وتَهادى النُّورَ في تِلْـ *** ـكَ الفِجاجِ الدَّامسَهْ

أَقبلَ الصُّبْحُ جميلاً *** يملأُ الأُفْقَ بَهَاهْ

ملأ الصبح الجميل أو التوق للجمال نفس الشاعر الشابي، وملأ المرض والغربة الفكرية والثقافية والنفسية والضياع الذي عاشه مع جيله نفسه سوداوية وألما، ولم تكن سنواته الخمس والعشرون، إلا أيقونات ضوء لامعة جعلته رغم رحيل الجسد لسان الشعب العربي الفصيح، ونفح طيبه الخصيب.