أزمة فيروس كورونا.. وباء يضرب مناعة الاقتصاد العالمي

مراد بابعا

“حجم الضرر اللاحق بالاقتصاد العالمي جراء كورونا يعادل إجمالي الناتج المحلي لليابان وألمانيا مجتمعتين”. هذه خلاصة خرج بها صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، وتظهر حجم الخسائر المتوقعة التي سيتسبب بها فيروس كورونا المستجد، وتقدر بحوالي 9000 مليار دولار أمريكي خلال عامي 2020 و2021.

وحذر صندوق النقد الدولي أيضا في تقريره لشهر أبريل/نيسان من أن أداء الاقتصاد العالمي خلال هذه السنة، هو الأسوأ منذ الكساد العظيم في 1929، إذ سينكمش بـ3% في عام 2020، قبل أن يعود على الأرجح للانتعاش في عام 2021 بنمو قُدر بـ 5.8%.

أدخلت أزمة فيروس كورونا العالم في نفق مظلم بعد توقف العديد من القطاعات عن العمل بسبب الحجر المنزلي الذي فرضته السلطات في غالبية الدول، وتسبب انتشار المرض في توقف حركة النقل الجوي بين الدول، وشُلت حركة الأشخاص، وتوقفت جميع الأنشطة الترفيهية وغالبية مراكز الإنتاج حول العالم.

وأصبح الآن من المؤكد أن الأضرار تجاوزت ما حصل خلال الأزمة المالية لسنة 2008، كما أن ارتفاع معدلات البطالة ستتسبب في أزمة اجتماعية ستنعكس بشكل مباشر على ملايين الأشخاص.

فما هي تداعيات أزمة فيروس كورونا المستجد إلى حدود الساعة على الاقتصاد العالمي؟ وما أكثر القطاعات تضررا؟ وهل الأزمة الحالية بالفعل هي الأعنف منذ أزمة 1929 الكبرى؟ وما هي سيناريوهات الخروج من الركود قبل السقوط في الكساد؟

 

أزمة كورونا الاقتصادية.. كرة الثلج تخرج عن السيطرة

بداية الأزمة الاقتصادية تكون عادة أشبه بكرة ثلج متدحرجة، ففي البداية تبدو صغيرة، لكنها تكبر مع مرور الوقت إلى أن تصبح ضخمة خارجة عن السيطرة وتدمر كل ما يأتي في طريقها، وهكذا بدأ فيروس كورونا من الصين، وبسرعة أدخل العالم في أسوأ أزمة صحية في التاريخ الحديث، فلم يكتفِ بحصد الأرواح، وإنما أوقف عجلة الاقتصاد لشهور بسبب إجراءات العزل التي اتخذتها الدول مجبرة كحل أساسي للحد من انتشار الفيروس، وقد أدى هذا التوقف المفاجئ في دورة الحياة العادية إلى شلل في حركة طيران المسافرين، وأصاب قطاعات السياحة والنقل بخسائر فادحة.

ورغم أن بعض تنبؤات الاقتصاديين أشارت منذ أشهر إلى أن العالم مقبل خلال 2020 على انكماش حاد، فإن الأسباب المتداولة آنذاك كانت مرتبطة بمآل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أو حتى الخلاف الإيراني الأمريكي الذي كاد يتطور إلى حرب مباشرة، لكن فيروس كورونا في الأخير، هو الذي قلب الموازين وأًصبح السبب المباشر للأزمة غير المسبوقة، بسبب إجراءات الإغلاق في مختلف الدول واضطرار الناس للبقاء في منازلهم وتوقف العمل في العديد من المصانع.

بدأ الضرر من الصين التي كانت مهد فيروس كورونا نتيجة الإجراءات التي اتخذتها للحد من انتشار العدوى، رغم أن ذلك لم يكبح الفيروس فوصل إلى كل بقاع الأرض تقريبا، وبدأت أولى إرهاصات الأزمة منذ شهر يناير/كانون الثاني بسبب التوقف الجزئي للنشاط الاقتصادي الصيني وتراجع طلبها على النفط، وتوقع البنك الدولي أن يشهد نمو الاقتصاد الصيني تراجعا إلى 0.1% هذا العام، مقابل 6.1% في 2019 كأسوأ السيناريوهات المحتملة.

وقد تلقت التجارة العالمية ضربة قوية أيضا منذ أول شهرين من العام الجاري حسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” الذي قدر الخسائر بنحو خمسين مليار دولار أمريكي، وتوقعت “ستاندرد آند بورز” ركودا في منطقة اليورو هذه السنة، إذ سينخفض الناتج المحلي الإجمالي بـ2% على الأقل، أي ما يعادل خسائر ب 420 مليار يورو، أما الولايات المتحدة التي تمثل أكبر اقتصاد في العالم، فإن خسائرها المتوقعة قدرت بـ1.5 تريليون دولار.

 

قطاع السياحة… رفع الراية البيضاء

أول من رفع الراية البيضاء في وجه انتشار فيروس كورونا هو قطاع السياحة، وبدأت أولى الأضرار من الصين قبل أن تعم العدوى أرجاء المعمورة، وهكذا تلقت بكين ضربة كبرى بفعل إلغاء عطل رأس السنة الصينية التي تنفق فيها الأسر الصينية عادة نحو 140 مليار دولار، بالمقارنة مع حجم الإنفاق عام 2019.

ويعاني قطاع السياحة الأمرّين في ظل استمرار هذه الأزمة وغياب رؤية واضحة للمستقبل، وسط توقعات كارثية كشف عنها مجلس السياحة والسفر العالمي (WTTC)، إذ قدر الخسائر في أمريكا الشمالية هذا العام بحوالي 570 مليار دولار وفقدان 7 ملايين وظيفة، وفي أوروبا بنحو 552 مليار دولار و10 ملايين وظيفة، بينما ستكون الأوضاع أشد قسوة في منطقة آسيا والباسيفيك بخسائر قد تصل إلى 880 مليار دولار وفقدان 49 مليون وظيفة.

وفي الدول العربية توقعت المنظمة العربية للسياحة أن تصل خسائر البلدان العربية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 020، إلى حوالي 25 مليار دولار في إيرادات السياحة، وحوالي 13 مليار دولار في الاستثمارات السياحية، مما يهدد بخسارة حوالي مليون وظيفة دائمة ومئات الآلاف من الوظائف الموسمية في المنطقة.

خبراء يقدرون خسارة قطاع الطيران العالمي بـ113 مليار دولار

 

قطاع الطيران.. خسائر بمليارات الدولارات

انتشار فيروس كورونا المستجد وإعلانه جائحة من قبل منظمة الصحة العالمية، وما يرافق ذلك من إجراءات غلق الحدود ووقف الرحلات الجوية؛ شكل ضربة قاضية لقطاع الطيران، فقد بدأت الخسائر تنهمر تباعا على رؤوس الشركات الناقلة ووكالات الأسفار، وتوقعت منظمة الطيران العالمية، أن تبلغ خسائر شركات الطيران العالمية 314 مليار دولار بسبب فيروس كورونا، بعدما سجلت رحلات الطيران حول العالم تراجعا غير مسبوق وصل خلال شهر مارس/آذار 2020 إلى حوالي 80%.

ويحذر المتتبعون من أن هذا الوضع قد يتطور إلى إفلاس كبرى شركات الطيران العالمية في مايو/أيار 2020، ما لم تعد حركة الطيران للعمل مرة أخرى، كما ستتضرر كثيرا سوق الشغل بهذا القطاع المهدد بفقد حوالي 25 مليون وظيفة على مستوى العالم بحسب أرقام اتحاد النقل الجوي الدولي (IATA).

وتوقع الاتحاد أيضا أن تتكبد منطقة أفريقيا والشرق الأوسط خسائر تقدر بنحو 24 مليار دولار مقارنة بالعام الماضي، مع توقعات بتراجع حركة المسافرين جوا خلال العام الجاري بنسبة 51% بالمقارنة مع العام 2019، وهذا ما سيعرض نحو 1.2 مليون وظيفة بقطاع الطيران والقطاعات المرتبطة به لخطر محتدم، وتبقى جميع هذه الأرقام مرتبطة باستمرار فرض قيود السفر لمدة ثلاثة أشهر مع رفعها تدريجيا.

الاستهلاك الصيني من البترول يقدر بـ13,2 مليار دولار سنويا

 

تحت الصفر لأول مرة في التاريخ.. تدهور سوق النفط

تسبب تفشي وباء “كوفيد-19” في تسجيل تراجع الطلب على الطاقة عموما على الصعيد العالمي، نتيجة إغلاق المصانع وتوقف الطائرات والسيارات وملازمة الناس لمنازلهم، وتأثر قطاع النفط كثيرا بهذا الوضع بسبب تراجع الطلب وتخمة المخزونات، وهو ما أدى إلى انهيار أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة كما حصل يوم 20 من أبريل/نيسان، عندما انخفضت أسعار النفط الأمريكي شهر مايو/أيار إلى حوالي 40 دولارا تحت الصفر للبرميل، وهو رقم غير مسبوق في التاريخ.

وبسبب الانهيار التاريخي لأسعار الخام الأمريكي اضطر الوسطاء إلى أن يدفعوا للمشترين، لإقناعهم بالحصول على سلعة لا أحد يريدها للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، بعدما أصبحت منشآت التخزين متخمة بالنفط الخام.

ورغم توصل منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وشركائها لاتفاق في نيسان/أبريل لخفض الإنتاج بمقدار عشرة ملايين برميل يوميا، فإن الخبراء يعتبرون ذلك محاولة لتنشيط الأسواق فقط، ولن يعوض تراجع الطلب الذي فاقمه ظهور فيروس كورونا، خصوصا أمام استمرار حرب الأسعار من روسيا والسعودية.

وستعاني الدول المنتجة للنفط بشكل كبير من تراجع مداخيلها هذه السنة، ومن بينها دول الخليج التي تعاني ضغطا مزدوجا مرتبطا بأزمة كورونا وانهيار أسعار النفط، وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية فإن السعودية قد تضطر إلى إغلاق بعض خطوط الإنتاج، لعدم وجود مشترين، كما ستنخفض مداخيل الدول الأخرى المنتجة بسبب ضعف الطلب وتقلص الإنتاج.

 

ترنح الاقتصاد العالمي.. نفسي نفسي

أذكت هذه الأضرار غير المسبوقة في ركائز الاقتصاد المخاوف من دخول العالم في كساد يصعب الخروج منه، مما دفع الدول والتجمعات الإقليمية إلى التدخل في محاولة لتفادي الانهيار ودعم القطاع الخاص وتشجيع الاستهلاك، وتفادي أي موجات محتملة من الاضطرابات الاجتماعية التي قد تندلع في بعض البلدان.

وبينما استطاعت الصين فتح اقتصادها الداخلي تدريجيا رغم الأضرار التي تسبب فيها إغلاق مدينة “ووهان” لحوالي ثلاثة أشهر، فإن الدول الأخرى المتضررة ما زالت تئن تحت وطأة إجراءات الإغلاق المشددة خصوصا في الاتحاد الأوروبي، وما زالت هذه الدول تحاول التفاهم على خطط وبرامج الدعم والتحفيز النقدي والمالي والحد من ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وفي هذا الإطار أقر قادة الاتحاد الأوروبي –رغم الخلافات- إقامة صندوق طوارئ حجمه تريليون يورو، من أجل المساعدة في جهود التعافي من جائحة فيروس كورونا.

وفي الولايات المتحدة وافق النواب الأمريكيون منذ نهاية مارس/آذار الماضي على حزمة إنقاذ قيمتها 2.2 تريليون دولار، وهي الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة، قبل أن تعزز في 23 أبريل/نيسان بخطة جديدة بقيمة 483 مليار دولار.

ولم تقف الدول النامية مكتوفة الأيدي، إذ سارعت إلى إقامة صناديق دعم استثنائية وفتح باب التبرع أمام الأفراد والمؤسسات وسن إجراءات ضريبية خاصة، من أجل المساعدة في احتواء الأزمة ومساعدة القطاعات المتضررة بفعل هذه الجائحة العالمية.

 

سيناريوهات التعافي.. بصيص أمل في نهاية النفق

تبقى كل التوقعات التي كشفت عنها المؤسسات المالية والاقتصادية ومنظمات الطيران والسياحة والطاقة، مجرد احتمالات تتوقف على مدى الانتشار الزمني والمكاني للفيروس، وعمق الأزمة التي سيتسبب فيها، ومتى تضع الحرب أوزارها.

ولا تتوانى التقارير الدولية عن التحذير من التداعيات الكارثية لهذه الأزمة على الأفراد والمجتمعات، ودقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر مما أسمته “جائحة الجوع” الوشيكة التي يمكن أن تجتاح أكثر من ربع مليار شخص، عوضا عن 135 مليون شخص حاليا، في حال عدم اتخاذ إجراءات استعجالية.

لكن ذلك لا يمنع من التفاؤل ووضع سيناريوهات للتعافي والخروج من الأزمة، من خلال استغلال المعطيات المتاحة، ومن بينها أن حدة انتشار الفيروس بدأت تتراجع في مجموعة من الدول الأكثر تضررا، والشروع في رفع الحجر الصحي تدريجيا، بالإضافة إلى عودة الحياة إلى إقليم “هوبي” الصيني ومدينة “ووهان” مهد الوباء، واستئناف النشاط الاقتصادي في الصين.

كما أن إمكانية توفر لقاح لهذا الفيروس المستجد، سيعجل بعودة الحياة إلى طبيعتها، رغم أن أكثر المتفائلين لا يتوقعون أن يكون جاهزا قبل سنة على الأقل، بالنظر إلى التقدم الحاصل في التجارب السريرية والوقت الذي سيتطلبه إنتاج الملايين من جرعات اللقاح المنتظر.

وهذا يعني أن التعايش مع المرض قد يستمر لأشهر، مع إمكانية عودته مجددا في موجة ثانية الخريف المقبل مع بداية الفترة الموسمية لانتشار الأنفلونزا، ولهذا فإن العديد من الدول بدأت تستعد لمرحلة الفتح التدريجي لاقتصاداتها رغم عدم القضاء نهائيا على الوباء، لصعوبة الاستمرار في إجراءات العزل المكلفة اقتصاديا واجتماعيا.

تبقى إذن كل الاحتمالات قائمة ومرتبطة بسيناريوهات تطور هذه الجائحة التي أدخلت العالم في ركود حقيقي، ويخشى كثيرون أن يزيد من معاناة الفقراء والدول النامية المنهكة أصلا ولا تستطيع تحمل تكاليفه الباهظة، خصوصا أن اللجوء إلى الاقتراض لن يكون متاحا للجميع، فأغلب الدول المانحة ستكون أقل سخاء ومنشغلة بإصلاح اقتصاداتها المنهكة.