“أسئلة الثورة”.. تذكرة سفر الشيخ سلمان العودة إلى السجن

خاص-الوثائقية

حين يُنشر كتاب في السعودية ويصدَّر بإهداء إلى أرواح شهداء الثورات، فهذا حدث يحتاج إلى وقفة بحد ذاته، وعندما يتحدث الكتاب عن الثورات الشعبية وأنها سُنَّة المستضعفين في الأرض، فتلك جرأة سينال صاحبها ما يستحق، أما إذا أثار تساؤلات من مثل: متى تشتعل الثورة، وما هو موقف الدين الإسلامي منها، وكيف يحافظون على جذوتها دون أن تحرقهم، ودون أن تخمدها رياح الأنظمة العاتية، فقد باء صاحبها بالوبل والثبور وعظائم الأمور.

“أسئلة الثورة” هو عنوان كتاب مثير للجدل، كتبه الداعية السعودي الشيخ سلمان العودة في أعقاب انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2012، وأفردت له قناة الجزيرة الفضائية حلقة من برنامجها “خارج النص”، استضافت خلالها ثلة من المفكرين والإصلاحيين الإسلامين لمناقشة محتواه.

 

“إن الثورة قدَر لا يرد”.. ضجيج يفسد هدوء البلاط

يقول العودة في كتابه: إن الثورة قدر لا يُرد عندما يتعذر الإصلاح، وهي لا تأتي من ذاتها، بل تنفجر على حين غرة بدون تخطيط، وذلك حين تُسد طرق الإصلاح ويشيع القمع، وإن الشعوب لا تميل إلى الثورة، ولكن ثمة أمور تدفع بها إلى عنق الزجاجة، والثورة محاولة لتجاوز الفرق الشاسع بين الحاكم والمحكوم، والمساواة على مبدأ العقد الاجتماعي بين الطرفين.

وعن الكتاب يقول الدكتور سعد الفقيه، وهو معارض سعودي: صدر الكتاب في توقيت مناسب للإجابة على تساؤلات الثوار، وبغض النظر عن دقة الإجابات، فإنها جاءت في التوقيت المناسب، ولاقت قبولا لدي الطيف المثقف عموما؛ الإسلاميين والعلمانيين.

ويصف عباس بوصفوان -وهو صحفي بحريني- الشيخ العودة أنه نموذج جيد في إعطاء قراءات أفضل للواقع الإنساني من حيث الأحزاب والحريات والديمقراطية، ولكنه يقع في إشكالية المحيط الذي يعيش فيه، ونظرة هذا المحيط إلى الخطاب الإسلامي السياسي المعاصر.

أما عن المحتوى فيقول الدكتور إرحيل غرايبة، أستاذ الفقه والسياسة الشرعية بالجامعة الأردنية: إن الأسئلة المطروحة ليست أسئلة فرد أو حزب أو جماعة، ولكنها منظومة متكاملة تمثل عقدا اجتماعيا تتوافق عليه كل مكونات الأمة، كما أن المبالغة في الطاعة فيه مخالفة لنصوص صحيحة أيضا، وهناك أمثلة كثيرة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده.

ثلاثة من دعاة السعودية معتقلون بسبب معارضتهم أفكار بن سلمان

 

ثنائية الطاعة والثورة.. نقض متلازمة التناقض

منذ أن انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي في أواخر 2010 انبرى عدد من الكتاب لتحليل وتوصيف منطلقات الثورات في مختلف البلدان العربية، وكان من بين هذه القراءات كتاب “أسئلة الثورة” الذي ألفه الداعية والمفكر السعودي سلمان العودة في العام 2012.

وعن الأسباب التي دعته إلى نشر هذه الكتاب يقول: إن تيه بعض المثقفين، والمفردات التي يتداولها بعض الإسلاميين الذين يحرّمون الثورات، والقول بفتنة الخروج على ولي الأمر، كل هذا مما دعا إلى تأليف الكتاب، على أنه “لا بد من الهدوء لتحديد مفهوم متوازن للطاعة وللثورة معا، ونفرق بين التسليم لواقع معين أو نظام سياسي محدد، ونترك البحث والاجتهادات في صور أخرى للحياة، فالثورة محاولة لتجاوز الفرق الشاسع بين الحاكم والمحكوم، والمساواة على مبدأ العقد الاجتماعي بين الطرفين”.

وقد تحدث الشيخ عبد الفتاح مورو، القيادي في حركة النهضة التونسية، عن مفهوم الطاعة والثورة فقال: على مر التاريخ الإسلامي هناك علماء أعلام شقوا عصا الطاعة في وجه الحاكم المستبد، وآخرون كانوا يهادنون تغليبا للمصلحة والسلم المجتمعي (حسب اجتهادهم)، ولم يكن موضوع الحريات الشخصية والجمعية مطروقا في ذلك الزمان، ولكنها الآن أصبحت واقعا لا يمكن الهروب منه.

تماهيا مع رغبات الحاكم، ألف علماء السلطان ردودا على كتاب أسئلة الثورة

 

تحت ظلال القمع المقدس.. لواء الأنظمة المستبدة

يقول العودة في كتابه: أحاول الحديث بشكل عام، خارج إطار مجتمع بعينه أو دولة بذاتها، فذلك أدعى أن يكون الحديث مريحا وحرا، ويكون الكلام معرفيا أكاديميا، ولا يتنزل على واقع محدد.

ومع ذلك فقد منع الكتاب من التداول، وجرى سحب نسخه من معرض الكتاب الدولي في الرياض، مما اضطر الكاتب إلى نشره مجانا عبر حساباته على مواقع التواصل.

ويقول سعد الفقيه عن منع الكتاب: يمنع النظام السعودي أي كتاب من شأنه أن ينشر الوعي بين الناس حول مفاهيم مثل الشورى وتداول السلطة والتعددية السياسية والحريات العامة.

والدكتور العودة هو رمز من رموز الإصلاحيين السعوديين، وكانت له محطات في مواجهة النظام من أبرزها بيان مايو/أيار1991 الذي وقعه العودة مع رموز من التيار الإصلاحي السعودي المعارض، ويعارضون فيه مشاركة السعودية في التحالف ضد العراق، ويستنكرون وجود القوات الأمريكية على الأراضي السعودية. وقد حبسته السلطات السعودية إثر ذلك خلال الفترة من 1993 إلى 1999، خرج بعدها كأحد أبرز قيادات التأثير على مستوى السعودية والوطن العربي عموما.

سلمان العودة.. أحكام صارمة بين الحاكم والمحكوم

 

“أنتم أعلم بأمور دنياكم”.. الاختلاف لا يفسد للود قضية

يستنكر الشيخ عبد الفتاح مورو ما آلت إليه الأوضاع في المحيط العربي والإسلامي، ويتساءل: إلى متى يجثم الحكام على صدورنا؟ ليعتبر الناس مما حدث حولهم في بقاع كثيرة من العالم، لقد هدم جدار برلين، وثارت نمور شرق آسيا، وبلغت دول أفريقية مستويات عالية في الحكم الرشيد، فلماذا تستثنينا عجلة التاريخ من الانطلاق مع هؤلاء؟

مشى العودة من خلال تساؤلاته في حقل ألغام لم يجرؤ كثير من علماء السعودية ومفكروها على السير فيه، وتناول مواضيع في الطاعة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم نشأ الناس عليها كمسلمات لا تتغير، وكان صوته عاليا حين أوضح نصوص القرآن القاطعة في العقائد والعبادات، ولكنها كانت عامة ومقاصدية في موضوع الأحكام السياسية.

ويعارض الدكتور سعد الفقيه ما ذهب إليه العودة في تصنيف الحكم السياسي بأنه يندرج تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بأمر دنياكم”، ويعلّق بأن هذا القول ليس بجديد، ولكن تحفُّه إشكالات متعددة، فالصبغة العامة التي تصطبغ بها الدولة المسلمة هي من صميم أمور الدين والعقيدة، وعلاقاتها مع الآخر أيضا منصوص عليها في الكتاب والسنة، وما يعيشه أفرادها من تقلب بين الحلال والحرام ينضوي تحت جوهر الدين.

ولا يخفي الدكتور الفقيه تحفظاته على طروحات الشيخ العودة فيقول: قبل الملك سلمان وابنه محمد، بنى العودة علاقة مجاملة حذرة مع الملك السابق (عبد الله) على مبدأ “لا تؤذوني ولا أوذيكم” أو “دعوني أدعكم”، وصمدت هذه العلاقة حتى جاء ابن سلمان الذي لا يؤمن بمثل هذه التفاهمات والمقاربات، فجاء بأجندة واضحة “إن لم تكن معي فأنت ضدي”، وبناء عليها قام باعتقال أكثر المصلحين والدعاة المحايدين فضلا عن المهاجمين.

أسئلة الثورة.. أسئلة مشروعة ربما لا يقصد بها إثارة الشعوب، لكنها أثارت الحكام الخائفين

 

فقه المقاصد.. شمعة نور في مواجهة التقليد الجامد

أما شكل الحكم في الدولة الإسلامية، فيجمع كثير من الدعاة الإصلاحيين، ومنهم الشيخ مورو أنه “بين حجة الوداع ووفاة الرسول عليه السلام لم يتحدث بنص صريح عن أي نمط من أنماط أو أشكال حكم الأمة من بعده، وإنما ترك ذلك لأصحابه ليروا كيف سيتدبرون أمرهم، ولعلمه صلى الله عليه وسلم أن أشكال الحكم تتبدل بتبدل الظروف والأحوال”.

طرح العودة بجرأة بعض المفاهيم المسلّم بها عند كثير من علماء الأمة للنقاش والأخذ والرد، فقال لهم إن مصطلحا مثل “أهل الحل والعقد” لم يرد في نص من نصوص الشريعة الثابتة. ولماذا عندما ترد كلمة “ثورة” تردفها وتتبعها كلمة “فتنة” مباشرة؟ من أين جاء الحاكم المسلم بهذه القدسية والمعصومية؟ أم أن فقهاء السلطان هم الذين زينوا له الأحكام حتى يأمنوا مكره وبطشه بهم؟

ولماذا عندما ترفع دولة شعار “تطبيق الشريعة” يجد له صدى عند الناس، وهو إنما هو مجرد شعار لاستجلاب تعاطفهم؟ بينما لو رفعت شعار “الدولة المدنية” وقصدت به ذلك العقد الذي يتساوى فيه الحاكم والمحكوم تحت نصوص القانون الذي يرتضونه، فإنه يتبادر إلى أذهان الناس دولة علمانية لا تطبق النصوص، إنه التسويق الخاطئ للمفردات، سواء كان ذلك بحسن قصد أو بسوء نية.

حتى الدعاء بإصلاح ذات البين ليس مشروعا في بلاد يستعبد الحاكم فيها بشعبه وينكل بهم

 

“تأليف القلوب”.. حين يضيق فقهاء العرش بالحرية ذرعا

يرى الشيخ العودة أنه يجب فهم أن لا تناقض بين مفهوم الدولة المدنية وشعار الدولة الإسلامية، إلا إذا وجد بين النصوص ما يقتضي ذلك التناقض، والأصل في الأشياء الحل، ما لم يرد ما ينفي عنها مشروعيتها.

وعن الشعارات المرفوعة، يقول الصحفي بوصفوان: الاسم أو الشعار وحده لا يعطي الدولة إسلاميتها أو شرعيتها، فهذه السعودية تقول إنها تطبق الأحكام الإسلامية، ولكنه تطبيق جزئي يكاد ينحصر في الحدود والعقوبات، ولكنها تفتقر إلى العدالة والمساواة والحريات وحقوق الناس، بينما نرى دولة مدنية مثل الصيغة التركية فيها تداول سلطات وأحزاب وحريات وحاكم تحت المساءلة والقانون.

وقد قام العديد من رجال الدين السعوديين بمهاجمة الكتاب ونقده في تماه تام مع السلطة الزمنية، وذلك بتأليف كتب تنقد طرح العودة وتفنده، أو من خلال الدروس والخطب على المنابر، وانتهى الأمر بسجن الدكتور العودة منذ ثلاث سنوات دون توجيه تهمة واضحة له، بعد تغريدة دعا الله فيها لـ”تأليف القلوب لما فيه خير الشعوب”، الدعوة التي كانت كافية لتغييبه عن المشهد تماما.