أسامة السلوادي.. مصور الانتفاضة وموثق الأزهار والطيور والحرير

أسامة السلوادي هو مصور فلسطيني رأى نفسه بمثابة عين الوطن وجسده، فلبّى نداء الوطن وحمل الكاميرا التي كانت سلاحه، ووثق بها أجمل صور النضال الفلسطيني بكل مهنية، لتتناقلها وسائل الإعلام الأجنبية.

ويأتي هذا الفيلم ضمن سلسلة أفلام “مصورو فلسطين” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية، ليرسم صورة أسامة السلوادي بعدسات مختلفة، ويسرد حكاياته من أرشيفه، وأهم الأحداث السياسية التي عايشها.

سلواد النائمة بين أحضان الطبيعة.. شغف الطفولة

ولد أسامة السلوادي في رام الله في 14/شباط 1973، فعشق فلسطين بطبيعتها الجميلة وزهورها البرية وثياب نساءها التقليدية التي لا تقل روعة عن جمال مبانيها الأثرية وقدسيتها، فهي فلسطين الزاخرة بتراثها وثقافة أهلها، عصية بنضالها وكفاح شعبها.

ولّد هذا الجمال عند أسامة شغف التصوير، حيث أثرت الحياة التي عاشها في طفولته في سلواد بين أحضان الطبيعة على مسيرته فيما بعد، فوصف نفسه بأنه كان كالقط البري، فتى ضئيل الحجم سريع الحركة.

بدأ أسامة التصوير وهو ابن 16، وبدأ حياته المهنية أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكان يصور بكاميرته البدائية، حتى أصبح مصورا شبه محترف.

صورة الجندي والثائر والحجر.. بداية تحت ظل الانتفاضة

كانت بدايات أسامة السلوادي مع بدايات الانتفاضة، فهو من المصورين القلائل الذين غطوا هذا الحدث. يقول صديقه المصور والصحفي في وكالة الصحافة الفرنسية عباس المومني إن تجربتهما معا كانت طويلة، فقد عملا معا منذ العام 1996، وشهدا معا الانتفاضة الثانية والاجتياح وحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مدينة رام الله.

ويقول: من الصور التي تعجبني لأسامة صورة التقطها في عام 1995، في تلك الصور المعبرة كان الجندي الإسرائيلي يمسك شابا فلسطينيا يحمل بيده حجرا، بالفعل إنها لقطة مؤثرة.

سجلت عدسة أسامة السلوداي صور الانتفاضة الأولى وهمجية المحتل أمام الطفل الفلسطيني

يرى أسامة أن هذه الصورة كانت من أيقونات الصور، ويقول عنها: أرسلت الفيلم لوكالة الصحافة الفرنسية، وفي اليوم التالي اتصل مدير المكتب وقال لي إن الصورة منشورة في صحيفة “انترناشونال هيرالد تريبيون” وعدد من الصحف العالمية. وتابع: صوّر كل شيء من الآن، وابعثه إلينا.

في العام 1977 انتقل أسامة لوكالة رويترز، واستمر عمله معهم حتى العام 2006 بعد ذلك قرر أن ينشأ وكالة فلسطينية يكون فيها المصور والمحرر والناشر فلسطينيا، فأسس “أبولو إيمج” وهي أول وكالة فلسطينية.

يحكي أسامة عن نفسه أنه كان في إحدى المرات يجلس على السور ليلتقط صورة، لكن تدافع الناس أسقطه على الأرض، قال: فمرت الطائرة من فوقي، والتقطت الصورة، وكانت صورة تاريخية.

“علينا توقع الأسوأ”.. عطلة إجبارية في المستشفى

يقول عباس المومني صديق أسامة: تعرضنا للموت المحقق مرات عدة، لكن في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2006 جاءني اتصال أن أسامة أصيب وهو جالس في مكتبه إثر عراك لمسلحين في الخارج، ونقل إلى المستشفى، وحين ذهبت إليه وجدت عددا كبيرا من الناس والمصورين، وعندما خرج الطبيب أخبرنا أن حالة أسامة دقيقة وحرجة للغاية، وأن علينا توقع الأسوأ.

صورة الرئيس ياسر عرفات النادرة ويظهر فيها غاضبا

دخل أسامة في الغيبوبة لما يزيد عن شهر، وقد أصيب بشلل نصفي بقي بسببه في المستشفى ستة أشهر، ثم خرج إلى الحياة من جديد، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا، فقد ابتعد عن ضجيج الأخبار والأحداث الساخنة، وانتقل إلى التصوير الوثائقي.

حريق كنيسة المهد.. صورة ياسر عرفات الغاضب

كانت آخر صورة التقطها أسامة السلوادي هي لياسر عرفات، لكنه لم ينشرها إلى غاية اليوم، فقد كان المرض والإرهاق باديين على الرئيس الفلسطيني، ولم يحب السلوادي أن يظهره على ذلك الشكل.

وقد ألف كتابا صدر عن مؤسسة ياسر عرفات، وهو كتاب توثيقي لحصاره، وقد صور فيه صورة الاجتياح، وسهر حتى الصباح لكي يلتقط صورة لشروق الشمس بين الدمار، بينما كانت الدبابات تحاصر المكان، وكان يتوقع الموت في أي لحظة.

وقد التقط صورة لياسر عرفات وهو غاضب جدا، يقول: عندما رفعوا الحصار عنه دخلنا عليه، وتجمعنا فوق مكتبه فانكسرت الطاولة بنا، وفي نفس الوقت كان يتلقى اتصالا وأخبر أن كنيسة المهد تعرضت لحريق، فأخذ يصرخ وطردنا من مكتبه، فالتقطت له تلك الصورة التي انتشرت بشكل واسع.

“أرض الورد”.. عبق الأزهار في الذاكرة الفلسطينية

يتحدث أسامة السلوادي عن فكرة كتابه “أرض الورد” قائلا: بحثت عن كتاب يتحدث عن طبيعة فلسطين والزهور البرية فيها المرتبطة بالذاكرة الفلسطينية فلم أجده، فصممت أن أعمل كتابا يتناول الزهور، فأنا أعتبر الدحنون -أو شقائق النعمان- مرتبطا بالمخيلة والأساطير الفلسطينية، كقصة حب عشتار وأدونيس أو جروح عشتار، وحديثا هي وردة الشهداء.

في كتابه “أرض الورد”، وثق أسامة السلوادي زهور أرض فلسطين

يحاول أسامة في كل صوره التعويض عن الأشياء التي يفتقدها الفلسطينيون، حيث تركز على السياسة وتهميش الموروث البيئي والثقافي لفلسطين. يقول: أصبحت حرا رغم قيد الكرسي، لكني حر في اختيار مشاهد الجمال”.

ويرى المهندس الزراعي ناصر قادوس أن ما قدمه أسامة السلوادي إبداع في التصوير، فعلى الرغم من أن أزهار فلسطين قد وثقت في نهاية القرن الثامن عشر، فإن “ما فعله هو إثبات للعالم وللاحتلال الإسرائيلي أن هناك موروثا بيئيا من النباتات، وكل ما في فلسطين هو فلسطيني وتراث طبيعي”.

توثيق الحياة والطبيعة.. وعي يقلب الصورة الاستشراقية

يعتبر الأستاذ الجامعي معين حسونة أن السلوادي قدم مسألة مهمة، وهي توثيق الحياة الفلسطينية بشكل عام، ويتضمن هذا الأرض بتضاريسها وجبالها والنباتات والطيور.

وفي لقاء تلفزيوني معه، قال السلوادي إنه استطاع إدراج اسم فلسطين وليس الضفة الغربية في الاتحاد العالمي للمصورين (GPU)، وقد رُشح بالإجماع كي يترأس الاتحاد الفلسطيني للمصورين.

الثوب الفلسطيني.. نقوشات وزخرفات

وفي بداية عصر التصوير كانت تأتي لفلسطين بعثات غربية واستشراقية ممولة من الصندوق القومي اليهودي والحركة الصهيونية، على الرغم من وجود مدرسة للتصوير في فلسطين منذ العام 1858، أي بعد اختراع التصوير بأقل من عشرين عاما، وكانت فلسطين رائدة في هذا المجال، لكن الوعي لأهمية الصورة عند المصورين تطلب بعض الوقت.

“طريق الحرير”.. ثوب الفلسطينية العتيق يخرج إلى الحياة

في العام 2012 عمل السلوادي على كتابه “طريق الحرير” الذي يوثق للثوب الفلسطيني والتطريز، وقد اختار للثوب أن يخرج للحياة بدل أن يبقى معلقا في خزانة الملابس، ويقول: طلبت من النساء أن يرتدينه، وأخذت الصور في الطبيعة، لكل منطقة ثوبها وطبيعتها، فكان الكتاب شرارة لي وللناس.

في كتابه “طريق الحرير” صور أسامة الثوب الفلسطيني وجمال تطريزه لمختلف قرى فلسطين

تقول خبيرة التراث نهى المصلح -وهي صاحبة معرض زينب للفنون- إنها تعرفت على أسامة عندما كان يعمل على كتابه عن التطريز الفلسطيني القديم والحديث، وأعطته قطعا قديمة من منطقة الجليل، وقد جمع السلوادي بين مناطق فلسطين التاريخية، وأبرزها في عمقها وجمالها والتواصل بينها، يقول: فعندما أرى صورا لليَلَك الجليلي تصبح لدي الرغبة في الحديث عنه وارتدائه، فجمال التصوير يحمس العين.

“زينة الكنعانيات”.. تراث فلسطين بعدسات أبنائها

يضم كتاب “زينة الكنعانيات” -الذي ألفه أسامة أيضا- مجموعة من العقود والحلي والتمائم الفلسطينية التي كانت ترتديها المرأة. تقول جامعة التراث مها أبو شوشة: صور أسامة بعين الفلسطيني ابن سلواد، الذي يرى والدته وجدته، وهو الذي يقطف المشمش ويجدّ الزيتون، هذه العين ليست لغربي أو مستشرق أو فنان في جولة سياحية، وقد أسهمت كتبه في تثقيف الناس والتعريف بالتراث وجماله.

القروش الفلسطينية تزين الثوب الفلسطيني في غزة

يذهب أسامة للمروج حاملا كاميرته، يلتقط صورا لحصاد القمح، وهو يرى أن أول من زرع القمح هم الفلسطينيون، وما زال الحديث عن الزراعة البعلية لليوم، وهي مرتبطة بالإله بعل إله الرعود والأمطار، وفق معتقدات الكنعانيين، وهم سكان فلسطين القدامى.

وقد بدأ أسامة مرحلة جديدة في حياته المهنية، وهي مرحلة الباحث والموثق، لأنه يعتبر أن مشروعه الجديد يحتاج لأكثر من الصورة، فهو يريد تصوير النقوش القديمة مثل نقش نفق بلعمة، وفي اجتماعه مع الباحث الدكتور شريف كناعنه ينصحه شريف أن يأخذ جزئية واحدة، لأن العمل يحتاج لجهد كبير وسنوات طويلة.

“بوح الحجارة”.. جسر إلى العمارة التقليدية الفلسطينية

قام أسامة السلوادي بعمل كتابه “بوح الحجارة” المخصص لفن العمارة الفلسطينية وصور البيوت القديمة والتراث المعماري، فهو يرى أن الذوق في العمارة الفلسطينية القديمة يتفوق على العمارة الحديثة بروعته وجماله. يقول: النمط القديم للطراز المعماري أجمل من النمط الحالي، أو عدم النمطية في البناء، لأن الفكر قد نزع من البناء حاليا.

ويتذكر سنوات الاجتياح وكيف كان لصور الدبابات وهي تهدم البيوت وقعه الأليم والمحزن على النفس، ويقول: إن كل هذا الحزن والغضب يتحول في طاقته السلبية لحياة وحب داخلي، فأصور الجمال واللباس والعمارة والأزهار البرية.

يعتبر الفنان التشكيلي سليمان منصور أن كتاب السلوادي مرجعية للمهندسين والمصممين الجدد

ويرى الفنان التشكيلي سليمان منصور أن هناك حتمية لوجود العناصر الزخرفية في التصاميم الهندسية، لمد جسور الترابط بالتراث، ووصل ما هو حديث بما هو قديم وعريق.

ويعتبر سليمان منصور أن كتاب السلوادي يعد مرجعية للمهندسين والمصممين الجدد، ليستوحوا منه ويسترجعوا عبق الماضي، كما أن كتابه في التطريز يجعل الفتيات يشعرن بجمالية الثوب الفلسطيني، فيرتدينه في المناسبات.

“منذ 30 عاما وأنا أحمل الكاميرا”.. تضحية في سبيل الأجيال القادمة

أحب السلوادي شجرة الزيتون وصور في قرية المغير هجوم المستوطنين على حقول الزيتون بالمناشير لقطع الأشجار، وهي ممارسة ما زالوا يمارسونها، وكأن بينهم وبين الزيتون انتقاما.

في بيت أسامة جلست كندة ابنته بجانبه تحدث عن أبيها ومهنته قائلة: “أخبروني أنه كان دائما يصور، وأحيانا لا يعود إلى البيت”، لكنها لم تعايش تلك الفترة، إذ كانت لا تزال طفلة، وعندما تعرفت على والدها التقت به في المستشفى وهو على سرير المرض فتعلقت به، وكان عمرها لا يتجاوز العامين، لكنها مبهورة بما قدمه والدها وتفتخر به.

يترك المصور أسامة السلوداي أثره في المجتمع الفلسطيني بتدريب جيل من المصورين الصاعد

يرى أسامة أنه الخاسر الأكبر لأنه لم يعش تلك اللحظات الغالية مع عائلته، لكنه لا يعتبر أن تضحيته ذهبت أدراج الرياح لأنه رسّخ وثبّت لحظات من التاريخ، لتراها الأجيال القادمة.

يقول أسامة: منذ ثلاثين عاما وأنا أحمل الكاميرا، أو هي من حملتني، ولو ضاعت الأرض ثم تغيرت موازين القوى فإننا نستطيع إعادتها، لكن إذا ضاعت صفاتنا وذابت هويتنا وحضارتنا وثقافتنا، فسيخرج جيل لا يعرف فلسطين، وهكذا سنخسر كل شيء.