أستراليا.. مستقبل إعصار التحالفات القادم من أقاصي الكوكب

يونس مسكين

يعتبر البيان الثلاثي الأمريكي البريطاني الأسترالي الصادر يوم 15 سبتمبر/أيلول 2021، علامة فارقة في التاريخ المعاصر للبشرية، وقد يصبح لحظة لتأريخ بداية عهد جديد ينهي ثلاثة عقود من “النظام العالمي الجديد” الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، ويعلن بداية نظام دولي مختلف.

ما لا يقل عن ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية وتستخدم آخر ما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية والبريطانية، ستحيط بسواحل أصغر قارة من قارات العالم، أو أكبر جزره، خلال 18 شهرا من توقيع هذا الاتفاق، ولن يكون ذلك بمعزل عن ميلاد منظومة أمنية-دفاعية جديدة، تخرج إلى الوجود تحالفا أطلسيا-أنغلوساكسونيا جديدا، تستبدل به واشنطن حلفها مع أوروبا الذي أبرم بعد الحرب العالمية الثانية.

 

المخاض العسير الذي يعيشه العالم منذ بضع سنوات، بدأ في وضع مواليده، ومع أول صرخة للمولود الاستراتيجي الجديد، عادت أستراليا إلى الواجهة، هذه الدولة-القارة والرقعة المعزولة من العالم التي تعتبر آخر قارة اكتشفها الإنسان، حيث لم يصل إليها البريطانيون ويستوطنوها إلا في القرن الـ18.

اكتشفت الجزيرة رسميا بعد إتمام الولايات المتحدة الأمريكية دورتها التاريخية من الاكتشاف إلى الاستقلال، وستخرج من عزلتها الجغرافية هذه، على غرار الخروج الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية نهاية القرن الـ19، لتصبح نقطة التماس الأولى بين القوى الغربية الأطلسية التي تقاوم الأفول، ونظيرتها الآسيوية الشرقية الممعنة في الصعود.

اتحاد الولايات الأسترالية.. جزيرة بحجم قارة في أقاصي العالم

هي ليست قوة نووية ولا تنتمي إلى أي من تجمعات دول جنوب شرق آسيا، لكنها غير قابلة للتجاهل أو النسيان، فهي سادس أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، ومن بين الأمم الـ15 الأكثر رخاء، وتستأثر بثالث أحسن مؤشر للتنمية البشرية. وبسكانها الذين لا يتجاوزون 25 مليونا[1]، تنتمي أستراليا إلى نادي الدول العظمى.

بمساحة إجمالية تقدر بسبعة ملايين ونصف مليون كيلومتر مربع، وساكنة شابة تقدر ببضع وعشرين مليون نسمة، تحقق هذه الدولة-القارة نموا اقتصاديا واجتماعيا خاصا، حيث يقدر الناتج الداخلي الخام للفرد الواحد بنحو 60 ألف دولار في السنة، وتستفيد أستراليا من مجاورة منطقة جنوب شرق آسيا التي تضم دولا سريعة النمو، وتشكل بالتالي أسواقا مربحة، وهو ما تؤكده فكرة “القرن الآسيوي” التي أبدعها منظرون أستراليون.[2]

أستراليا.. أكبر جزيرة وأصغر قارة في العالم

 

وتتمتع أستراليا بحكم موقعها الجغرافي بسواحل مطلة على المحيطين الهندي والهادي، وهي في المجال الذي تتقاطع فيه الحدود الجيوسياسية لقوى دولية كبرى، مثل الهند والصين والولايات المتحدة، ويجعلها طابعها الجغرافي كجزيرة في مأمن من التهديدات الخارجية والنزاعات الحدودية.

الاسم الرسمي للدولة هو”اتحاد الولايات الأسترالية”، ورغم أنها تهيمن عليها اللغة الإنجليزية، فإنها تستعمل لغات أخرى عديدة منها الصينية والعربية واليونانية والفيتنامية. ويعتبر النظام السياسي الأسترالي نظاما فيدراليا برلمانيا، وذلك منذ استقلال البلاد عن بريطانيا ووضع أول دستور سنة 1901.[3]

تقع أستراليا بمنطقة أوقيانوسيا بين المحيطين الهادي والهندي، وفي مقابل مناخها القاحل والجاف، في الجنوب والشرق، والمناخ الاستوائي في الشمال، تتمتع الأراضي الأسترالية بثروات طبيعية عدة مثل الفحم والحديد والنحاس والذهب والفضة واليورانيوم والرصاص.

ويمثل البيض قرابة 92% من السكان مقابل حوالي 7% من ذوي الأصول الآسيوية و1% فقط من القبائل الأصلية. أما الديانة السائدة فهي المسيحية، موزعة بين كاثوليكية وبروتستانتية وباقي الطوائف المسيحية، فيما يمثل المسلمون أكثر من 2% من مجموع السكان.[4]

تهجير المجرمين.. بديل جغرافي بعد استقلال أمريكا

رغم أن احتمالات وصول المستكشفين الإسبان والبرتغاليين إلى السواحل الأسترالية يبقى واردا، يعتبر البحّار الهولندي -رسميا- “وليم جانزون” أول أوروبي بلغ أستراليا، حيث حلّ بسواحلها خلال رحلته التي قام بها بين عامي 1605-1606 للميلاد، وفيها أعلن بداية الرحلات الاستكشافية والتوسعية الهولندية في هذه القارة الجديدة.

وتعاقب بعد ذلك وصول المستكشفين الهولنديين إلى سواحل أستراليا خلال القرن السابع عشر، وتحديدا إلى السواحل الغربية والجنوبية لأستراليا، التي باتت تعرف حينها بهولندا الجديدة.[5]

وفي النصف الثاني من القرن 17، تسلم المستكشفون البريطانيون المشعل تدريجيا، حيث قاد “جيمس كوك” رحلة علمية واستكشافية انتهت بإعلان ملكية بريطانيا للسواحل الشرقية لأستراليا يوم 22 آب/أغسطس سنة 1770، ليظهر ما يعرف بمنطقة نيوساوث ويلز. وبينما اكتفى الهولنديون بالأنشطة التجارية، فإن الانجليز بادروا إلى إقامة المستعمرات واستيطان أستراليا بعد وصولهم إليها.

البريطاني “جيمس كوك” الذي قاد الرحلة العلمية والاستكشافية والتي انتهت بإعلان ملكية بريطانيا للسواحل الشرقية لأستراليا سنة 1770

 

وفي مقابل رفض السكان البريطانيين الانتقال إلى قارة بعيدة وخالية من مظاهر الحضارة، عمدت السلطات إلى تنفيذ عملية “نفي” ممنهج للمجرمين والأشخاص المدانين، باستثناء المحكومين بالإعدام، من أجل توطينهم في أستراليا، وقد انطلقت هذه العملية أساسا بعد انطلاق حرب الاستقلال الأمريكية متم القرن الـ18، بعد توقف عملية نقل المجرمين إلى أمريكا الشمالية، وكان قرار النفي والتوطين في أستراليا يشمل كل من تعرض لإدانة ولو بسب بمخالفة بسيطة.

واستمر العمل بهذا النهج حوالي قرن كامل، إذ لم يتوقف إلا سنة 1868، بعد نفي قرابة 160 ألف شخص نحو أستراليا. بينما تسارعت وتيرة الهجرة الطوعية منتصف القرن الـ19، حيث هاجر ما يناهز نصف مليون بريطاني.[6]

نيوساوث ويلز.. مستعمرة جديدة تحت علم الملك جورج الثالث

تنسب فكرة إقامة مستعمرة بريطانية في أستراليا إلى “السير جوزيف بانكس”، العالم الذي كان يرافق المستكشف “جيمس كوك” في رحلته البحرية سنة 1770، حيث اقترح تحويل خليج “بوتاني” الواقع في أقصى الجنوب الشرقي للقارة الجديدة، إلى مستعمرة دائمة، وبعد تصوّر أوّلي كان يعتمد على توطين بعض التجار البريطانيين والصينيين والأمريكيين، جرى الاهتداء إلى فكرة توطين المدانين الإنجليز، وهو ما استجابت له الحكومة البريطانية.[7]

وصلت الدفعة الأولى من المدانين إلى خليج “بوتاني” أواخر العام 1787، وكان ذلك عبر أسطول مكون من 11 سفينة تضم أكثر من 700 مدان، من بينهم أطفال يحرسهم المئات من ضباط ومشاة البحرية، وبعدها تقرر الانتقال إلى ميناء جاكسون الواقع في سيدني، حيث تبيّن أنه الموقع الأنسب لإقامة المستوطنة، وهو ما أعلن رسميا يوم 26 يناير/كانون ثاني 1788، وهو اليوم الذي أصبح بمثابة اليوم الوطني لأستراليا، باعتباره يخلد ذكرى ميلاد الأمة الأسترالية في شكلها الحديث. وأجريت مراسيم التأسيس الرسمي ورفع العلم البريطاني باسم الملك جورج الثالث، وأطلق اسم نيوساوث ويلز على المستعمرة.[8]

بعد وصول المستعمر الإنجليزي إلى أستراليا ظهرت حركة “واضعي اليد” للمستوطنين الذين يستولون على أراضي السكان الأصليين

 

ومع تزايد أعداد المستوطنين الأوروبيين في المنطقة، ظهرت حركة “واضعي اليد” للمستوطنين الذين يقومون بالاستيلاء على الأراضي عنوة لتتشكل طبقة من كبار الملاك على حساب السكان الأصليين، بينما تسببت الأمراض الأوروبية التي لم تكن معهودة لدى السكان المحليين في موجة وفيات كبيرة انضافت إلى عمليات النهب والتقتيل التي تعرضوا لها، بينما كان المستوطنون يوسعون مجال حقوقهم مع تزايد نفوذهم وثرواتهم، حيث جرى الاعتراف لهم تدريجيا بحق تشكيل مجالس تمثيلية وإقامة شركات للتنمية وبناء الجسور والسكك الحديدية.[9]

حكم “مابو”.. نهاية تاريخ أسود ضد السكان الأصليين

أستراليا هي أمة حديثة في قارة عريقة، وذلك ما يفسّر حساسية موضوع الذاكرة والتاريخ في هذا البلد. فهناك عُقد كثيرة تميّز التاريخ الأسترالي الحديث، أولها عقدة النشأة كمستعمرة بريطانية استوطنها المجرمون أساسا في البداية، ثم عقدة التعامل الإقصائي تجاه السكان الأصليين.

فقد صدر الدستور الأسترالي الأول سنة 1901، واعتبر البلاد أمة بيضاء لا تقبل سوى الإنسان الأبيض من بين المهاجرين إليها. ورغم تجاوز هذا الاختيار في السبعينيات وبروز ما يعرف بسياسة التعدد الثقافي، فإن مشكلة الدين التاريخي تجاه السكان الأصليين ظلت قائمة.[10]

السكان الأصليون تمّ تعذيبهم وذبحهم بأعداد مهولة أثناء الاحتلال الاستعماري الإنجليزي لأستراليا

 

فانفتاح أستراليا على سكانها الأصليين حديث عهد، ولم يبدأ إلا في 1967 مع أول استفتاء يجيز منح حق المواطنة لهؤلاء المنسيين الذين كانوا يعتبرون عديمي الهوية داخل بلادهم. وشهدت البلاد طيلة عقدي الستينيات والسبعينيات نقاشات واسعة حول مناطق الظل في الذاكرة الجماعية للأستراليين. ووجب الانتظار حتى 1992 لتصدر المحكمة العليا في أستراليا حكما شهيرا باسم “مابو”، ينص على إبطال الفكرة المتمثلة في اعتبار أستراليا ما قبل العهد الاستعماري أرضا خلاء.[11].

وتعتبر رواية “المسافرون الإنجليز”، إحدى أوائل الأعمال الكبرى التي حاولت تصوير عملية الإبادة الوحشية التي تعرض لها سكان أستراليا الأصليون طيلة نصف القرن الممتد بين 1820-1870. وتقول الرواية التي صدرت عام 2000، إنه نجا من المذبحة عدد قليل من السكان الأصليين، وكان أغلبهم هجينا بسبب الاغتصاب الممنهج الذي كانت تتعرض له النساء على يد أوائل المجرمين الإنجليز المنفيين إلى القارة.[12]

“الأرض المرتفعة”.. صرخة سينمائية مستوحاة من مجزرة حقيقية

يعتبر فيلم “الأرض العالية” (High Ground)، أحد أشهر الأعمال السينمائية التي حاولت التطرق إلى الجرائم العنصرية التي حدثت في أستراليا على يد الرجل الأوروبي الأبيض، ويعتبر المخرج الأسترالي “ستيفن ماكسويل جونسون” أحد القلائل من مواطني هذه الدولة الذين تجرؤوا على فتح صفحة الماضي الأسود، وقد تطلب منه الأمر عشرين عاما من العمل، مستوحيا قصة الفيلم من مذبحة حقيقية تعرضت لها قبيلة “يولنجو” سنة 1919.[13]

وبمناسبة عرض فيلمه لأول مرة مستهل العام 2021، قال المخرج الأسترالي إنه لم يستطع تنفيذ فكرته أول الأمر عندما خطرت له في التسعينيات، إذ لم يكن هناك استعداد لمثل هذه الأعمال، نظرا لجهل الناس بقصص المذابح الأولى التي حدثت في أستراليا.

 

ويتحدث المختصون عن عدد يفوق 300 مذبحة وقعت في أستراليا، وذلك على مدار الـ150 سنة الأولى التي أعقبت وصول المستعمرين الأوروبيين.[14]

وقد تطوّر مسار الاعتراف الرسمي بالماضي الأسود لأستراليا بإصدار رئيس الوزراء العمالي “كيفن رود” عام 2008، اعتذارا رسميا وجهه إلى السكان الأصليين، بينما قام رئيس وزراء أستراليا الحالي “سكوت موريسون” بخطوة إضافية، حيث قام بتغيير طفيف في كلمات النشيد الوطني ليتضمن اعترافا بتاريخ السكان الأصليين لأستراليا.

سجود إلى الغرب.. آثار الإسلام قبل الاستعمار الأوروبي

لاكتشاف أستراليا ارتباط تاريخي مباشر بالمنطقة العربية والإسلامية، حيث كانت حركة الاستكشافات الأوروبية قد نشطت خلال القرن 15 للميلاد، بهدف الوصول إلى الهند عبر الالتفاف على إفريقيا وتجنب المرور عبر المنطقة العربية.

فقبل وصول المستكشفين الأوروبيين إلى أستراليا، كان السكان الأصليون على اتصال دائم بالمسلمين، حيث كانت قوارب التجار القادمين من بلاد الإسلام ترسو في السواحل الشمالية للقارة، وكانوا يأتون خصوصا من الجزر الأندونيسية. وتقول بعض الدراسات إن المسلمين وصلوا إلى سواحل أستراليا منذ أوائل القرن الـ16، وهو ما يشكل أولى علاقات السكان الأصليين لأستراليا مع العالم الخارجي.[15]

مسجد ماري في أستراليا 1883م

 

ويتحدث المختصون عن عدد يفوق 300 مذبحة وقعت في أستراليا، وذلك على مدار الـ150 سنة الأولى التي أعقبت وصول المستعمرين الأوروبيين.[16]

وقد تطوّر مسار الاعتراف الرسمي بالماضي الأسود لأستراليا بإصدار رئيس الوزراء العمالي “كيفن رود” عام 2008، اعتذارا رسميا وجهه إلى السكان الأصليين، بينما قام رئيس وزراء أستراليا الحالي “سكوت موريسون” بخطوة إضافية، حيث قام بتغيير طفيف في كلمات النشيد الوطني ليتضمن اعترافا بتاريخ السكان الأصليين لأستراليا.

سجود إلى الغرب.. آثار الإسلام قبل الاستعمار الأوروبي

لاكتشاف أستراليا ارتباط تاريخي مباشر بالمنطقة العربية والإسلامية، حيث كانت حركة الاستكشافات الأوروبية قد نشطت خلال القرن 15 للميلاد، بهدف الوصول إلى الهند عبر الالتفاف على إفريقيا وتجنب المرور عبر المنطقة العربية.

فقبل وصول المستكشفين الأوروبيين إلى أستراليا، كان السكان الأصليون على اتصال دائم بالمسلمين، حيث كانت قوارب التجار القادمين من بلاد الإسلام ترسو في السواحل الشمالية للقارة، وكانوا يأتون خصوصا من الجزر الأندونيسية. وتقول بعض الدراسات إن المسلمين وصلوا إلى سواحل أستراليا منذ أوائل القرن الـ16، وهو ما يشكل أولى علاقات السكان الأصليين لأستراليا مع العالم الخارجي.[17]

في الحرب العالمية الثانية، تمركزت القوات الأسترالية على السواحل المصرية والليبية، في مواجهة القوات الإيطالية

 

عادت القوات الأسترالية لتطأ المنطقة العربية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تحارب إلى جانب القوات البريطانية، قبل أن تنتقل جل القوات الأسترالية إلى الجبهة الشرقية في مواجهة اليابان. فقد كانت أستراليا من أوائل الملتحقين بالجبهات فور إعلان الحرب، على عكس مناطق النفوذ البريطانية الأخرى مثل كندا وجنوب إفريقيا التي تأخر فيها قرار دخول الحرب العالمية ضد ألمانيا.

فأي هزيمة لبريطانيا كانت تعني انهيار المنظومة الدفاعية التي تحمي أستراليا من قوى عظمى مثل اليابان، لهذا لم يكن هناك أي مجال للتردد، وكانت أول وجهة للقوات الأسترالية هي تونس الواقعة وقتها تحت الحماية الفرنسية، قبل أن ينتقل نشاط القوات الأسترالية إلى السواحل المصرية والليبية، في مواجهة القوات الإيطالية.

الليبرالية الواقعية.. نسخة مصغرة من أمريكا في التاريخ والسياسة

تتبع أستراليا سياسة خارجية توصف بالليبرالية الواقعية، ويدرجها المتخصصون في خانة ما يعرف بالقوى المتوسطة.

ويتمثل الطابع الليبرالي لهذه السياسة في دفاعها عن قيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمؤسسات الدولية والإقليمية؛ بينما يتجسد الطابع الواقعي للسياسة الخارجية الأسترالية في تحالفها الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر معاهدة “أزوس” الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا عام 1951، وتتأرجح السياسة الخارجية الأسترالية بين البعدين الليبرالي والواقعي بحسب الانتماء السياسي للحزب الحاكم، فاليساريون يميلون أكثر الى البعد الحقوقي والديمقراطي في الدبلوماسية، بينما يفضل المحافظون التركيز على البعد الواقعي.[18]

وقد أبانت أستراليا خلال العقدين الماضيين عن بوادر تغيير في تموقعها الإستراتيجي من خلال البحث عن وصفة أكثر براغماتية وأقل زجا بها في صراعات العمالقة الكبار. وفي أواخر العقد الأول من الألفية الحالية، جهرت أستراليا لأول مرة برفض الالتحاق بالولايات المتحدة الأمريكية في حروبها، حيث اعتذرت عن طلبات واشنطن بإرسال قوات إلى أفغانستان.[19]

كان ذلك التمنّع مظهرا من مظاهر نقاش وطني شامل شهدته أستراليا في الحقبة الماضية، ويتعلق بأمنها القومي وموقعها في الساحة الدولية، حيث ظلت النقاشات تتأرجح بين رغبة البعض في استمرار أستراليا كامتداد للخيارات الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية، وبين طموح بعض الأوساط السياسية -اليسارية على الخصوص- في الاستقلال أكثر بالقرار الاستراتيجي للبلاد.

“أستراليا في القرن الآسيوي”.. معضلة الحضن الأمريكي والجوار الآسيوي

هذا التطور الذي حصل في بدايات الألفية الحالية غيّر علاقة أستراليا بالمجال الآسيوي، حيث تقلّصت عمليا المسافة الفاصلة بين سواحل الجانبين، إذ ارتفع حجم المبادلات التجارية بين أستراليا ودول آسيا بنسبة 80%، وأصبحت سبع دول آسيوية ضمن الشركاء التجاريين العشرة الأوائل لأستراليا، تتقدمها الصين المستأثرة لوحدها بنسبة 20% من المبادلات التجارية الخارجية لأستراليا.

وفي العام 2012، كشفت أستراليا عن كتابها الأبيض المعروف باسم “أستراليا في القرن الآسيوي”، ويوضح الاختيارات الإستراتيجية المقبلة لكانبرا. وتحدد هذه الوثيقة خمسة شركاء أساسيين لأستراليا، هم -إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية- الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا. ثم سرعان ما وقعت كانبرا اتفاقية تعاون استراتيجي مع الصين تمتد لعشر سنوات وتعنى أساسا بالمجال الاقتصادي.

هذا الارتباط التاريخي لأمن أستراليا بحلفها مع أمريكا، يجعلها أمام سؤال يطرح بشكل دائم: كيف يمكن التأكد من دعم قوة بعيدة ضد أخطار قريبة؟ وهو سؤال-معضلة متفرعة عن المفارقة الكبرى في وضعية أستراليا؛ قرب حضاري وتاريخي من أوروبا وأمريكا، مقابل قرب جغرافي مع آسيا.[20]

الطريق التجاري بين أستراليا والعالم يمر عبر الصين

 

فعلى غرار ما حصل في منطقة الخليج والشرق الأوسط، اتخذت واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية موقع “الحامي” لأستراليا بدلا من بريطانيا. ولأن أمنها يتحدد أساسا من خلال أمن محيطها البحري، فإن صفقة الغواصات تجد تفسيرها الكامل في هذا المعطى، إلى جانب تخصيص الحامي التاريخي بهذه الصفقة الضخمة.

في المقابل تبقى الصين صاحبة الأولوية الاقتصادية بالنسبة لأستراليا، حيث تمثل بكين الوجهة الأكبر للصادرات التي تفوق قيمتها مئة مليار دولار، سواء منها المواد الأولية أو المنتوجات الصناعية، وهو وضع يجعل أستراليا نقطة توازن دقيق بين واشنطن وبكين.

حلف أوكوس..نظام عالمي جديد ذو أهداف خفية

لقد شكلت صفقة الغواصات النووية زلزالا مزدوجا، فهي من جهة أعلنت الولادة الرسمية لحلف ثلاثي بين واشنطن وكانبرا ولندن في مواجهة الصين، وفي الوقت نفسه لفظت فرنسا، بعدما ظل المحور الأوروبي الأمريكي يعتبر عماد النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية.

هو إعلان واحد لأغراض عدة، منها ما اعتبرته الصين تدشينا لحرب باردة جديدة، وما قرأ فيه أوروبيون شرخا في العلاقات عبر الأطلس، وبين هذا وذاك، جاء إعلان الاتحاد الأوروبي سياسته تجاه المجال الهندي-الهادي، واعتزامه بناء علاقة تعاون بدل الصدام مع الصين، ليؤكد التحول الكبير الآخر.[21]

إنها أكثر من مجرد صفقة، فقد شهد منتصف سبتمبر/أيلول 2021 ميلاد حلف سياسي-عسكري كبير يعتبر الأول من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة، وهو حلف أوكوس (Aukus) الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا. ويسعى هذا الحلف إلى تعزيز التعاون بين الدول الثلاث في مجالات الدفاع والأمن وتبادل المعلومات التكنولوجية والرفع من قدرات الدول الثلاث في مجال سلاسل الإنتاج والتموين المتبادل، وهي كلها عناوين لمساعي محاصرة الصين والحد من حاجة الدول الثلاث إليها.[22]

وأول خطوة عملية لهذا الحلف الثلاثي هو تمكين أستراليا من أول دفعة من الغواصات النووية خلال سنة ونصف، بالاعتماد على البنية الصناعية لواشنطن ولندن، بدل الصناعة الفرنسية التي كانت أستراليا قد تعاقدت معها.

الحلف الأنغلوساكسوني: نلتزم بطموح مشترك لدعم أستراليا في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية للقوات البحرية الملكية الأسترالية

 

كما يضع الحلف الجديد حدّا للتقارب الذي دخلته أستراليا في العقد الأخير مع الصين، بعد أن أخذ يميل لصالح الصين، خاصة بعد استيلائها على ميناء داروين الاستراتيجي وجعلها إياه محطة في طريقة “الحزام والحرير” التجارية الضخمة التي أطلقتها بكين.[23]

“بصفتنا قادة لأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، مسترشدين بمثلنا الدائمة والتزامنا المشترك بالنظام الدولي القائم على القواعد، عقدنا العزم على تعميق التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”. بهذه العبارات الصريحة أعلن قادة الدول الثلاث ميلاد الحلف الأنغلوساكسوني الجديد، موضحين في بيان مشترك، أن “أول مبادرة في إطار شراكة أوكوس هي الاعتراف بتقاليدنا المشتركة كديمقراطيات بحرية، لذا نلتزم بطموح مشترك لدعم أستراليا في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية للقوات البحرية الملكية الأسترالية، مع التركيز على قابلية التشغيل البيني والقواسم المشتركة والمنفعة المتبادلة”.[24]

صراع الإنجليز والفرنسيين حول القارة الجديدة.. تاريخ يعيد نفسه

يبدو أن السياسة الدولية مثل الأنهار، تتذكر مساراتها وإن جفت لعقود طويلة، فظهور أستراليا على الساحة الدولية أول مرة وقع بين أضلع مربع تشكله فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب القارة المكتشفة بعد العالم الجديد الأمريكي.

فبريطانيا التي كانت خلال القرن الـ18 بصدد خسارة سيطرتها على الولايات المتحدة الأمريكية الآخذة في انتزاع استقلالها، والخائفة في الوقت نفسه من توسع مجال نفوذ فرنسا في المحيط الهادي، هي التي ستبادر إلى إنشاء مستعمرة لها في أستراليا وتوطين الآلاف من مواطنيها بها.

ولم يكن تأسيس المستعمرة البريطانية الأولى في أستراليا متم القرن الـ18 نهاية للتنافس مع فرنسا، حيث سرعان ما حلّت بسواحل المنطقة سفينة الجنرال “جان فرانسوا دي لا بيروز”، التي كانت تقوم برحلة استكشافية أيضا. ورغم الترحيب الرسمي من جانب البريطانيين بالضيوف الفرنسيين، فإن الزيارة كانت مصدر إزعاج شديد للبريطانيين، لأنها تجسد استمرار الطموحات الفرنسية في المنطقة. لكن البعثة الفرنسية غادرت الموقع بعد بضعة أيام، بعدما تزودت بحاجاتها من المياه والأخشاب.[25]

البعثة الفرنسية إلى أستراليا سنة 1792، ممثلة في سفينتين يقودهما نطوان بروني دينتريكاستو، يرافقه عدد كبير من العلماء والخرائطيين

 

وفي العام 1792 ظهرت بعثة فرنسية جديدة في المنطقة، ممثلة في سفينتين يقودهما “أنتوان بروني دينتريكاستو”، يرافقه عدد كبير من العلماء والخرائطيين، مما يدل على استمرار الأطماع الفرنسية في أستراليا. واكتفت هده البعثة الفرنسية بإنجاز مهام تعليمية، حيث قامت بدراسة المنطقة وطبيعتها الجغرافية ومناخها وسكانها… فهل يعيد التاريخ نفسه؟

 

المصادر

[1] https://tipyan.com/islam-in-australia
[2] https://www.cairn.info/revue-politique-etrangere-2015-1-page-117.htm
[3] https://www.aljazeera.net/encyclopedia/countries/2010/12/16/أستراليا
[4] https://www.aljazeera.net/encyclopedia/countries/2010/12/16/أستراليا
[5] https://www.alarabiya.net/last-page/2018/10/23/كيف-جعلت-بريطانيا-من-أستراليا-سجناً-للمجرمين؟
[6] https://www.alarabiya.net/last-page/2018/10/23/كيف-جعلت-بريطانيا-من-أستراليا-سجناً-للمجرمين؟
[7]  un b Atkinson, Alan, « Les premiers plans pour gouverner la Nouvelle-Galles du Sud, 1786–87 » . Études historiques australiennes, 1990
[8] Horne, Donald (1972). Le peuple australien : Biographie d’une nation . Sydney, NSW : Angus et Robertson. ISBN 978-0-207-12496-9.
[9] Reynolds, Henri, L’Autre Côté de la Frontière : la résistance aborigène à l’invasion européenne de l’Australie . ISBN 0-86840-892-1.
[10] https://www.cairn.info/revue-hermes-la-revue-2008-3-page-133.htm
[11] https://www.cairn.info/revue-hermes-la-revue-2008-3-page-133.htm
[12] “المسافرون الانجليز”، ماثيو نيل، ترجمها إلى العربية علي محمد سليمان ، سلسلة إبداعات عالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت 2020

[13] https://gate.ahram.org.eg/News/2567220.aspx
[14] https://gate.ahram.org.eg/News/2567220.aspx
[15] https://www.bbc.com/arabic/artandculture/2014/06/140625_australia_islam_influence
[16] https://www.bbc.com/arabic/artandculture/2014/06/140625_australia_islam_influence
[17] https://www.bbc.com/arabic/artandculture/2014/06/140625_australia_islam_influence
[18] https://www.reuters.com/article/oegen-austra-lawrence-ah6-idARAOLR34143220071213
[19] https://www.reuters.com/article/oegen-austra-lawrence-ah6-idARAOLR34143220071213
[20] https://www.cairn.info/revue-politique-etrangere-2015-1-page-117.htm
[21] https://www.monde-diplomatique.fr/2010/03/ZAJEC/18900
[22] https://www.cairn.info/revue-politique-etrangere-2015-1-page-117.htm
[23] https://www.franceinter.fr/emissions/geopolitique/geopolitique-du-vendredi-17-septembre-2021
[24] https://www.lesechos.fr/monde/enjeux-internationaux/sous-marins-australiens-comprendre-lalliance-aukus-en-5-questions-1347334
[25] https://www.lesechos.fr/monde/enjeux-internationaux/sous-marins-australiens-comprendre-lalliance-aukus-en-5-questions-1347334