أسرار تحطم الطائرات.. أخطاء الإقلاع البسيطة تكلف الكثير

ألغاز تلف عالم الطيران على مدى عقود من الزمن، وتؤدي إلى سقوط الكثير من الطائرات حاملة معها إلى القاع الكثير من الأرواح دون أن يعرف المختصون والمحققون وشركات التصنيع سبب سقوطها ولا كيف عاش ركابها لحظاتهم الأخيرة وهم يرون الموت ينتظرهم على القاع مستفيدا من جاذبية الأرض، تلك الأم الدافئة التي يطمحون بالعودة إليها.

تعرض الجزيرة الوثائقية سلسلة من أربع حلقات بعنوان “أسرار تحطم الطائرات” تحقق في أسباب تحطم هذه الطائرات وتستعرض نتائج تلك التحقيقات التي قام بها مختصون في الكوارث الطبيعية والصناعية.

وفي الحلقة الرابعة والأخيرة تكشف التحقيقات السر وراء عدم ارتفاع بعض الطائرات فوق المدرج بمسافة كافية للإقلاع مما يؤدي ببعضها إلى كوارث حقيقية تودي بحياة الركاب أو معظمهم.

 

حسن العدم

فريق “لوكوموتيف ياروسلافيل” الروسي للهوكي على الجليد يستعد للسفر غدا إلى “مينسك”، لخوض أول مباراة لهم في الموسم، وقد استدعى المدرب الفريق قبل يوم لحضور آخر تدريب قبل السفر، جاء الجميع ومعهم الشاب “مكسيم” الذي كان يتطلع لخوض أول مباراة رسمية له مع الفريق، ولكن المدرب طلب منه أن يرجع اليوم، على أمل أن يصحبه في المباراة القادمة، رجع “مكسيم” إلى منزله يرافقه نوع من خيبة الأمل لقرار المدرب.

لحظة اصطدام عجلات الطائرة الروسية بإرسالي المطار

 

نهر الفولغا.. مقبرة فريق الهوكي الروسي

اليوم هو7/9/2011، وقد صعد الفريق إلى طائرة “ياك 42” الروسية الصنع والمخصصة للرحلات متوسطة المدى، في مطار “ياروسلافيل”، كانت طائرة قديمة من عهد الاتحاد السوفياتي، ولم يُجرَ عليها أي تطوير أو تحديث جذري، لكن الفريق كان متفائلا ومندفعا إلى أبعد الحدود، تغمرهم البهجة وروح التحدي.

الطياران “أندريه” و”يوري” في هذه الرحلة كانا حديثيْ عهد مع “الياك 42″، ولكنهما أمضيا فترة طويلة على شبيهتها “ياك 40″، وها هما الآن يتفقدان الأنظمة، ويتفحصان قائمة الاختبارات الضرورية قبل الإقلاع، يبدو أن كل شيء كان طبيعيا حتى الآن، والطائرة تسير على المدرج استعدادا للإقلاع.

بعد بضع مئات من الأمتار لاحظ الطياران أن سرعة الطائرة لم تصل إلى الحد الذي يكفي للإقلاع، وكانت نهاية المدرج تقترب شيئا فشيئا، وقد كانا يعلمان أن هنالك سرعة تسمى نقطة اللاعودة (1V)، إذا لم تصل إليها الطائرة خلال مسافة معينة على المدرج، فيجب على القبطان أن يتراجع عن الإقلاع، وإذا تجاوزها فمن المتعذر عليه اتخاذ قرار بالتراجع.

كان مهندس الطائرة يأمرهم بإلغاء الإقلاع، ولكن كان هنالك تردد واضح من القبطان الذي عزم أمره في النهاية على مواصلة الإقلاع، مع عدم توفر السرعة الكافية لذلك، وفي النهاية أقلعت الطائرة فوق الأرض، ولكن كان ذلك عند نهاية المدرج، وكان ارتفاعها قليلا جدا، لا يكفي لتجاوز العوائق التي على حدود المطار.

كان الطياران يجاهدان بكل قواهما لسحب المقبض إلى الخلف، لتأمين الارتفاع اللازم بأسرع وقت، ولكن الأوان كان قد فات، فقد ارتطمت عجلات الهبوط بهوائي للاتصالات على حدود المطار، ثم انتهى كل شيء، لقد هوت الطائرة في نهر الفولغا على بعد كيلومترين من نهاية المدرج، تحطمت تماما واشتعلت فيها النيران، ومات كل من على متنها وعددهم 43 شخصا، إلا مهندس الطائرة الذي بقي في حالة حرجة لمدة طويلة.

كتب لـ”ماكسيم” النجاة من تحطم طائرة فريق الهوكي بسبب إعفاء مدربه له

 

الصندوق الأسود.. حداد عام في روسيا

وحده مكسيم اختلطت لديه المشاعر، فعاش لحظات من الكآبة والفراغ بعد أن فقد أعز أصدقائه، وفقد كل شعور كان يدعوه للعب الهوكي، أما جماهير الفريق فكان حزنهم كبيرا، فقد أحس كل واحد منهم بأنه قد فقد قريبا لصيقا له. عمّ الحزن أرجاء روسيا، وأُعلن الحداد العام على أرواح الضحايا، وأصدر الرئيس “ميدفيدف” قرارا بوقف جميع رحلات “ياك 42″، حتى تظهر نتائج التحقيق.

لم يكن عدم وجود شهود على الحادثة هو التحدي الوحيد الذي واجه المحققين، فضلا عن أن الإقلاع هو أخطر مرحلة في رحلة الطائرة، من هنا فقد بدأ المحققون بالأساسيات: هل كان الوقود ملوثا؟ لذا تم إرسال عينة إلى المختبر، وكانت النتيجة سلبية، فلا ملوثات في الوقود، ولذلك تم استثناء الفرضية الأولى.

لقد تم استخراج الصندوقين الأسودين من المياه بعد 48 ساعة من الحادث، وكان أحدهما في حالة تلف نتيجة تسرب المياه، مما استدعى إرساله إلى معمل خاص للتجفيف، وبعد سماع التسجيلات وقراءة البيانات، استبعد المحققون بقية الأخطاء الأساسية، ولجأوا إلى التفكير في أسباب أكثر تعقيدا، وهذه المرة قادتهم تخميناتهم إلى حادث حصل في مدريد يوم 20/8/2008.

يجب فتح الجنيحات كي يزداد عرض الأجنحة لتسريع عملة الطيران

“إننا نسقط”.. لا ينجي حذَر من قدر

على رحلة “سبان أير” رقم 5022 المتوجهة من مدريد إلى “غران كاناريا”، وعلى متن طائرة من طراز “إم دي 80″، كانت “ليغيا كالومينا” وزوجها وأخته في إجازة عيد ميلادها، وقد أخذوا أماكنهم على الطائرة برفقة 172 راكبا آخرين.

لاحظ الطاقم مشكلة في مجس الحرارة أثناء بداية حركة الطائرة على المدرج، ولكن القبطان استبعد حدوث مشكلة تجمد في أجواء مثل صيف مدريد، كما أن اتخاذ قرار بالتراجع عن الإقلاع، هو قرار خطير وأمر مكلف للغاية، فالقبطان يكون بين سندان الركاب الذين يريدون الوصول إلى وجهتهم بسرعة، ومطرقة شركات الطيران الذين يكلفهم أي تأخير الكثير.

ولكن القبطان قرر العودة، وفحص الطائرة عن طريق فريق الصيانة، وبعد تأخير ساعة ونصف، واختبارات لمجسات الحرارة قرر الفريق الاكتفاء بفحص دارات مجسات الحرارة، كونها مخصصة للتجمد، وهو ما تم استبعاده في مثل تلك الأيام الدافئة.

انطلقت الطائرة على المدرج متسارعة استعدادا للإقلاع، وماهي إلا لحظات حتى حصل داخل الكابينة ما يشبه الزلزال، أصوات الصراخ والاستغاثة بدأت تتعالى، في قمرة القيادة كان القبان يصرخ: “إننا نسقط.. إننا نسقط”، ومن على ارتفاع 12 متر فقط هوت الطائرة وانزلقت بسرعة هائلة في حقل قرب المدرج، واشتعلت فيها نيران هائلة، ثم دوى صوت انفجارات متتابعة.. وانتهى كل شيء. لقد توفي 154 راكبا من أصل 172، ونجا 18 راكباً فقط، كانت “كالومينا” وزوجها “خوزيه” من بين الناجين المحظوظين، فيما قضت أخته في الحادث.

الطائرة “إم دي 80” التي لم يتم نشر جنيحاتها لإضافة مساحة أكبر لطيرانها

 

قلابات الأجنحة.. نظام الإنذار النائم

رأى فريق التحقيق أن قرار فصل دارة المجسات كان أمرا عاديا، ولا مشكلة في ذلك، ولكنهم اكتشفوا أثناء تحليل البيانات أمرا صادما، لقد اقترف الطاقم خطأ فادحا؛ إذ إنهم أغفلوا مدّ قلّابات الأجنحة والسّدفات الأمامية، وهذه ضرورية جدا لإعطاء دفع زائد للطائرة أثناء الإقلاع، وخصوصا هذا الطراز من طائرات “أم دي 80”.

ولكن لدى فحص التسجيل الصوتي، وجد المحققون أن القبطان ومساعده كانا قد نشرا بالفعل قلابات الأجنحة والشرائح الأمامية، غير أن ذلك كان في محاولة الإقلاع الأولى، ثم أعادوا ضمها عند العودة إلى الصيانة. ولكن السؤال الذي صار ملحاً الآن: لماذا لم يعمل نظام الإنذار والحماية ويحذرهم أن القلابات ليست مفتوحة؟

هل كان فصل مجسات الحرارة ذا أثر على تعطل نظام الحماية؟ أو بالأحرى: هل كان هناك من أجزاء متعطلة أخرى أدت إلى تشغيل الإنذار في مجسات الحرارة؟ تبدو تلك نظرية منطقية، لولا أن احتراق الطائرة بالكامل حال دون إثبات صحة هذه النظرية. وهكذا أقفل ملف الحادث دون إجابات واضحة لأسئلة منطقية.

يحاول فريق التحقيق في الطائرة الروسية أن يتبنى نظرية القلابات والشرائح التي تم افتراضها في الحادث الإسباني، ولكن بعد فحص تسجيلات البيانات والأصوات تبين أن الطاقم قد قام بنشر قلابات الأجنحة والشرائح الأمامية كما ينبغي، إضافة إلى ضبْط الموازِن على وضعية الإقلاع الصحيح.

الطائرة الإماراتية التي ارتطم ذيلها بمدرج المطار وقت الإقلاع والضرر الذي لحق بها

 

أخطاء المتقدمين.. منارات للمتأخرين

لا بد من دراسة التحقيقات في حادث آخر، من أجل إيجاد فرضيات جديدة، وهذه المرة سوف يفتح فريق التحقيق ملف حادث حصل في النصف الثاني من الكرة الأرضية، في ملبورن بأستراليا، كانت طائرة الإمارات “أيرباص 340″، تستعد للانطلاق في الرحلة رقم 407، متوجهة من ملبورن إلى دبي، وعلى متنها 257 راكبا. كان ذلك في 20/3/2009، حيث الأمور تبدو طبيعية، والأجواء صافية، فيما مساعد الطيار يدخل البيانات في حواسيب الطائرة، استعدادا للإقلاع.

البداية كانت جيدة، فالطائرة تسير على المدرج، ولكنها لا تكتسب السرعة اللازمة للإقلاع، ولقد كان بإمكان القبطان التراجع عن الإقلاع، ولكنه -مثل الطائرة الروسية تماما- اختار تجاوز نقطة اللاعودة، وأصر على الإقلاع مهما كانت الظروف.

الطائرة الآن تصل إلى حافة المدرج، وما زالت العجلات على الأرض، بل وصارت تمشي على الحشائش بعد المدرج، ولك أن تتخيل الآن مدى الاهتزاز العنيف الذي يحدث للطائرة، ومدى الهلع الذي انتاب الركاب.

زحفت الطائرة على الحشائش ما يقرب من 200 متر قبل أن تبدأ بالارتفاع بضع سنتيمترات فوق الأرض، وما زال عليها أن تتجاوز أعمد الإنارة والسياج الخارجي للمطار. وحصل ما قد كان متوقعا، وارتطمت عجلات الهبوط بأعمدة الإنارة، ولحسن حظهم فقد أفلتوا من السياج بمعجزة، سنتيمترات فقط، وإلا لكانت كارثة مروعة، وبعد نصف ساعة من التحليق، من أجل التخلص من بعض الوزن الزائد من الوقود، عادت الطائرة للهبوط بسلام في مطار ملبورن.

أدخل مساعد قبطان الطائرة الإماراتية بالخطأ قيمة وزن الطائرة 262 طنا بدلا من 362 طنا مما أدى إلى عدم ارتفاعها عن الأرض في الوقت المناسب

 

مائة طن زائدة.. خطأ رقمي قاتل

في هذا الحادث لدينا طائرة سليمة إلى حد كبير، عدا الخدوش في هيكل الطائرة جراء الاصطدام، ولدينا طاقم أحياء يعرفون الإجراءات التي اتخذوها، والمعوّقات التي واجهتهم، والسؤال الكبير المطروح: لماذا كانت سرعة الطائرة بطيئة عند الإقلاع؟

وكم كان مذهلا عندما استمع المحققون لشهادات الطاقم، ووجدوا كم كان جواب السؤال الكبير بسيطا للغاية؛ لقد تم إدخال أحد البيانات الخاطئة للحاسب الآلي في الطائرة بواسطة مساعد الطيار، كان وزن الطائرة الذي توجب إدخاله هو 362 طنا، بينما أدخل المساعد بالخطأ 262 طنا. هذا الرقم الخاطئ كاد يقتل 257 شخصا، لولا العناية الإلهية أولا، ومن ثم مهارة القبطان الرئيسي.

وبالعودة إلى فريق التحقيق في روسيا، فإنهم الآن يريدون تطبيق فرضية الخطأ البشري من الطيار أو مساعده، على غرار طائرة الإمارات، والواضح بلا شك، أن قوة كبح قد مورست على الطائرة، وجعلت سرعتها أقل مما ينبغي للإقلاع، ولكن ما ماهية هذه القوة ومن أين جاءت؟

ظن قبطان طائرة فريق الهوكي أن المكابح هي نفسها دواسة راحة القدم فضغطها بقوة مما منع من ارتفاع الطائرة

قدمٌ في غير موضعه.. هكذا سقطت الطائرة الروسية

أظهرت مراجعة البيانات والتسجيلات أن الطاقم قد قام بكل الإجراءات السابقة للإقلاع بشكل صحيح، وكذلك فإن نظام الكوابح تبين أنه كان يعمل بشكل جيد، فأين الخطأ إذن؟ وقد لاحظ فريق التحقيق كذلك أن قوة الكبح كانت تزيد كلما زادت قوة الدفع التي يعطيها الطاقم للمحركات، فمن أين تأتي قوة الكبح هذه؟

كان لا بد من العودة إلى السيرة المهنية للقبطان، وقد وجد أنه أمضى وقتا طويلا مع طائرة “ياك 40″، وهي شبيهة لـ”ياك 42” ولكن ليس إلى حد التطابق، وبمزيد من التدقيق في أوجه التشابه والاختلاف بين الطرازين، لاحظ فريق التحقيق شيئا لافتا للنظر؛ دواسة المكابح، قد تكون هذه الفرضية هي السر وراء قوة الكبح الغريبة.

في الطراز 40 صممت الدواسة لتستقر عليها رِجل الطيار بالكامل من أجل الكبح، أما في الطراز 42 فليس على الطيار إلا أن يثبت مقدمة أصابع رجله على الدواسة بينما يبقي مؤخر قدمه على الأرض، لذا قرر المحققون إجراء تجربة على طائرة 42، ولكن باستخدام طيار لطراز 40 فقط، ولشدة دهشتهم وجدوا أن الطيار بغريزته، وبعفوية تامة كان يضغط على المكابح بكامل قدمه.

وبهذا استنتجوا أن قبطان الطائرة المتحطمة كان يقوم بنفس التصرف، وكان يضغط بقوة على الكوابح بينما كانت يداه تسحبان عصا قوة الدفع بقوة باتجاهه، فكان كلما زاد الدفع يزيد من الضغط على المكابح، وكانت هذه هي الفرضية المعقولة التي توصل إليها المحققون، ليغلقوا بذلك ملفا شائكا من ملفات تحطم الطائرات لحظة إقلاعها.