“أصحاب البارود والكارابيلا”.. أغنية وهرانية تفسد حفل مئوية استعمار الجزائر

خاص- الوثائقية

في وجه أبشع احتلال شهدته البشرية، خاض الشعب الجزائري ملحمة تاريخية كبرى، فكان واحدا من أكثر شعوب الأرض صمودا وبطولة، فعلى مدى 132 عاما من الاحتلال الفرنسي الغاشم قدّم الجزائريون أكثر من مليون ونصف المليون شهيد، وملايين غيرهم من الجرحى والمشوهين، وسطّروا أروع صور التضحية والفداء، حتى نالوا استقلالهم رغم أنف المحتلّ عام 1962.

لم تكن صور همجية الاحتلال الفرنسي مقتصرة على القتل ونهب الثروات ومصادرة الأرض، لكنها تجاوزت ذلك إلى طمس الهوية ومحاربة الدين و”فَرْنَسَةِ” اللغة وتغريب العادات والتقاليد، الأمر الذي كان يقتضي من المناضلين الجزائريين اجتراح وسائل جديدة ومتعددة لمقاومة هذا الاحتلال البغيض.

كانت المقاومة الثقافية والفنية إحدى الصور ذات الأثر الكبير في الحفاظ على الهوية، ومعروف عن وهران أنها بلد الثقافة وفن الراي، وكان أبناؤها من الشعراء يناضلون بالقصيدة الثورية الموجهة للشباب المتمرد على الاحتلال.

 

رصدت الجزيرة الوثائقية واحدة من أقدم أغاني الثورة وأكثرها شهرة حتى يومنا هذا، واستضافت للحديث عنها نخبة من الفنانين والباحثين في التراث الشعبي الجزائري، وقدمتها للمشاهد الكريم في حلقة من سلسلة “حكاية أغنية” تحت عنوان “أصحاب البارود والكارابيلا”.

“رافدين البارود وشاعلين الفتيلا”.. أغنية مقاومة في أعراس الجزائر

تعتبر أغنية “أصحاب البارود والكارابيلا” بصورتها الحالية واحدة من أغاني الأعراس والأجواء الاحتفالية الراقصة، لكنها في الأصل أغنية مقاومة تروي حكاية أخرى طويلة جدا لا يزال معظم شباب اليوم يجهلون حقيقتها:

أصحاب البارود والكارابيلا
رافدين البارود وشاعلين الفتيلا

تعتبر أغنية “أصحاب البارود والكارابيلا” بصورتها الحالية واحدة من أغاني الأعراس والأجواء الاحتفالية الراقصة، لكنها في الأصل أغنية مقاومة

 

وقد ظهرت الأغنية لأول مرة عام 1930، وكانت موجهة للشباب والمناضلين الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، وكان شاعرها هواري بلحواني، وهو أحد المناضلين الأحرار من مواليد 1902 وسكان حيّ الحمري في وهران، وقد حبسه الفرنسيون وحاولوا طمس أغنيته، إلى أن توفي رحمه الله في نهاية الأربعينيات.

مئوية الاستعمار.. حفل استثنائي بحضور رئيس الجمهورية

يقول مهدي براشد الباحث في التراث الشعبي الجزائري متحدثا عن الأغنية: هي أغنية مرتبطة بحدث تاريخي هام، وهو مرور 100 سنة على الاحتلال الفرنسي للجزائر. خلال هذا القرن أرادت فرنسا أن تخلق القطيعة بين الجزائر الإسلامية وجزائر فرنسا المسيحية، وقد جرى التحضير لهذه الاحتفالات مدة سبع سنوات، وصُرِف عليها 130 مليون فرانك فرنسي آنذاك، وكانت هذه التحضيرات مستفزة للجزائريين.

عولوا بأعمارهم غير ربي معاهم
لا أبطال سواهم ولايموا القوم

صورة أرشيفية لذكرى مئوية الاحتلال الفرنسي في الجزائر عام 1930

 

أما الأستاذ عبد القادر جمعة الإعلامي والباحث التاريخي فتحدث عن هذه الاحتفالات قائلا: دامت الاحتفالات الرسمية بهذه المناسبة مدة ستة شهور، وهي مدة مبالغ فيها، وحضرها رئيس جمهورية فرنسا، وأقيمت بشكل غير مسبوق من البهرجة والضخامة، وعمّت أرجاء القطر الجزائري.

طمس اللغة والدين والأعراف.. مظاهرات تفسد النصر

يقول مغني الراي الجزائري محمد بوسماحة: خرجت الجالية الفرنسية والمستوطنون للاحتفال بطمس كل ما هو جزائري لغة ودينا وأعرافا، ويومها ظن قادة الاحتلال أنهم أطفأوا المقاومة الجزائرية بعد قرن من الكفاح.

لكن ردة فعل الشارع الجزائري جاءت على غير ما يشتهي المحتل. يقول الأستاذ جمعة: كانت ردة الفعل مزيدا من الالتزام والعودة إلى الدين، وكان من أبرز تجلياتها ظهور جمعية العلماء المسلمين، وظهور هذا النوع من القصائد والأغاني الحماسية.

حزامهم تحليلة راكبين الطويلة
عولوا عالقتيلة في نهار مشؤوم

تغيير كلمات القصيدة المقاومة.. أساليب المحتل العابثة

تغيرت كلمات هذه الأغنية مرارا، لكنها بقيت ترمز للبطولة والمقاومة على الرغم من كل محاولات المحتل لطمسها. يقول المغني محمد بوسماحة: كلمات الأغنية الأصلية تختلف عن الكلمات التي تُغنّى اليوم، وهي تتغنى بأدوات الحرب والمقاومة، مثل البارود والكرابيلا والمكاحل، لذلك نجحت نجاحا باهرا آنذاك.

يعود الفضل في عالمية أغنية “أصحاب البارود والكارابيلا” إلى مغني الراي العالمي الجزائري الأصل الشاب خالد

 

السيوف تشعل والبارود الأكحل
ما بقى من يحتل الأرض والقوم

ويأسف الأستاذ عبد القادر جمعة لضياع معظم كلمات القصيدة وعدم الاحتفاء بذكرى شاعرها الذي طواه النسيان، ويقول: هي قصيدة ثورية قتالية، والمصطلحات المستخدمة فيها دعوة صريحة للثورة المسلحة، ومما يؤسف له أن مؤلف القصيدة طواه النسيان، وقد لجأت قوات الاحتلال إلى العبث بكلمات القصيدة، وتحويلها عن اللهجة الثورية، حتى اختفت كلماتها الأصلية تقريبا.

في السنوات الأخيرة قدمت الأغنية بطريقة الراي بعد أن تغيرت كلماتها كليا، ولم يبق منها سوى مطلعها، وانتشرت في العالم بشكل ملفت، ويعود الفضل في عالميتها إلى مغني الراي العالمي الجزائري الأصل الشاب خالد، بالإضافة طبعا إلى حقيقة أن الموسيقى هي لغة عالمية تفهمها الشعوب في مختلف أرجاء الكون.