“أعياد الميلاد”.. قصة النبي عيسى في القرآن

في النصف الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول من كل عام، تُهيمن على الواجهات الإعلامية والتجارية العالمية مظاهر الاحتفال بالفترة التي يطلق عليها اسم “أعياد الميلاد”، حيث تختلط الكثير من المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية التي تجمع بين الاحتفال الديني بالنسبة لشرائح واسعة من المسيحيين، وبين إعطاء بُعد روحي لانقضاء عام ميلادي، على اعتبار أن هذه الفترة تؤرّخ -حسب بعض المعتقدات- لميلاد النبي عيسى عليه السلام.

ينقسم المسيحيون عموما إلى فئتين كبيرتين؛ أولاهما تحتفل بميلاد المسيح في ليلة 25 ديسمبر/كانون الأول، بينما تحتفل الفئة الأخرى بالمناسبة نفسها يوم 7 يناير/كانون الثاني.

يوم الميلاد.. بين أعياد الرومان واليونان

لا تدعّي أي من المراجع المسيحية أن أحد التاريخين يعود ليوم ميلاد النبي عيسى عليه السلام، بل تُقر المصادر جميعا بأن الأمر تقرّر بطريقة عرَضية في سياق تاريخي يعود إلى القرن الرابع الميلادي، حيث قرّرت السلطة السياسية/الدينية القائمة حينها في روما، تخليص المجتمع المسيحي من عادات احتفالية تعود إلى العهد الوثني.

فقد كانت بعض الشعوب تحافظ على الاحتفال بما تعتبره عيدا لـ”الشمس التي لا تُقهر” في نهاية ديسمبر/كانون الأول بالنسبة للرومان، وعيد “النور” في بداية يناير/كانون الثاني بالنسبة لليونانيين، فتقرّر جعل التاريخ الذي تجري فيه احتفالات وثنية سابقة على العهد المسيحي تاريخا لميلاد المسيح بناء على تأويلات دينية، بغاية نقل التعلّق الروحي بالمناسبة الوثنية إلى المعتقد الديني.

من هنا تفرّعت أشكال ومظاهر الاحتفال بأعياد الميلاد لأسباب دينية وتاريخية، وسرعان ما تكاثفت وتضاعفت أكثر بدخول عوامل فكرية أخرى مرتبطة بالرأسمالية وحاجة الأسواق لخلق المناسبات التي تؤدي إلى الإقبال على الاستهلاك، لنصل إلى ما تشهده الأيام الأواخر من كل عام ميلادي، من ظهور أسواق ضخمة لترويج أشجار الميلاد التي يعود أصلها إلى المعتقدات الرومانية، ومغارة عيد الميلاد التي يعتقد البعض أنها ترمز لمكان ولادة عيسى عليه السلام، والنجمة الخماسية التي تُحيل إلى النور الذي يهدي إلى المسيح، وشخصية “بابا نويل” التي ترمز للقديس “نيقولاوس”، أحد أساقفة بلدة تركية تسمى “ميرا”، حيث يُحتمل أنها شهدت قيامه بدسّ هدية ثمينة في بيت أسرة فقيرة قبل عدة قرون.

ابن مريم.. المسيح من منظور الإسلام

في الوقت الذي تظلّ فيه تلك المعتقدات المسيحية بشأن الميلاد شأنا خاصا للأشخاص الذين يُقبلون عليها، ومناقشة أمر صحتها من داخل المرجعية الدينية المسيحية موكولة للكنائس والمذاهب المسحية؛ فإن للإسلام روايته الخاصة والمفصّلة حول تفاصيل ميلاد وحياة وممات الرسول عيسى عليه السلام.

بل إن مكانة هذا الرسول في القرآن الكريم لا تكاد تضاهيها مكانة أي إنسان آخر، حيث تناولت آيات مطوّلة قصة ميلاده من أم عذراء، وقَصّ تفاصيل بعثته في قومه، وأسهبت في سرد معجزاته، والردّ على من يزعمون ألوهيته، وتكذيب من يدّعون صَلبه، وخصّص القرآن الكريم سورة كاملة لـ”آل عمران” أي أسرة المسيح عليه السلام، وأخرى لأمه مريم عليها السلام.

مريم.. سليلة آل عمران

من بين أهم ما يُميّز قصة النبي عيسى عليه السلام، هو نسَبه الذي يربطه بأمه مريم، لكن هذه الأخيرة تنتسب بدورها إلى أسرة “آل عمران” التي خصّها القرآن الكريم بثالث سوره في الترتيب المعتمد للمصاحف، بعد كل من الفاتحة و”البقرة”.

كما أنها المرأة الوحيدة التي خصّها القرآن الكريم بسرد قصتها الكاملة، وتحمل إحدى سور القرآن اسمها، وفيها قال الذِّكر الحكيم إن الملائكة كلّمتها، حيث يقول القرآن الكريم:

“وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْ‌يَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَ‌كِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ”.

ويفسّر المؤرخ والمفكر علي الصَلّابي، أن أم عيسى عليه السلام مريم هي ابنة عمران بنص الآية 12 من سورة “التحريم”، التي تقول: “وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا”، كما ورد اسم عمران ثلاث مرات في القرآن الكريم، اثنتان منها في سورة آل عمران.

عمرانان من بني إسرائيل في القرآن

ويضيف الصلّابي أن هناك شخصين من بني إسرائيل كل منهما اسمه عمران، وتفصل بينهما فترة زمنية طويلة تمتد عدة قرون:

الأول هو عمران والد النبيين موسى وهارون عليهما السلام. ودليله على ذلك ما أخرجه الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “موسى بن عمران صَفيّ الله”. كما أشار القرآن الكريم إلى أُسرة عمران الأول حين فصّل في قصة إنجاب “امرأة عمران” لابنها موسى، وابنتها التي أمرتها بمراقبة تابوت أخيها موسى.

أما عمران الثاني فهو والد مريم عليها السلام، حيث أشار القرآن الكريم إلى حَمل امرأته بمريم ونذْرها إياها لله، كما أشار إلى شقيق لمريم اسمه “هارون” وهو غير هارون النبي شقيق موسى عليه السلام.

كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى ويحيى عليهما السلام هما أبناء الخالة، وهذا معناه أن زكريا عليه السلام كان متزوجا أخت مريم. وإذا كان عمران الأول قد عاش في مصر زمن الفراعنة في بداية تاريخ بني إسرائيل، فإن عمران الثاني قد عاش في بيت المقدس في آخر تاريخ بني إسرائيل وبينهما عدة قرون.

رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثًى.. معجزة مريم الأولى

ينطلق القرآن الكريم في سرد قصة عيسى عليه السلام من الإعجاز الذي رافق ولادة أمه مريم، والنّذر الذي قطعته والدتها، “امرأة عمران”. ويقول القرآن الكريم بهذا الخصوص:

“إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” (سورة آل عمران، الآيتان 35 و36).

فقصة عيسى عليه السلام تبدأ بالنّذر الذي قطعته أم مريم على نفسها بأن تهَب ما في بطنها لعبادة ربها وخدمة بيت المقدس، ودعائها لرب العالمين بأن يتقبل منها ذلك. وبعد ولادتها، مُنحت الوصايةُ على مريم للنبي زكريا بعد أن تم الاقتراع على كفالتها، واعتُبرت هذه الوصاية واجبا دينيا لكون مريم أُهديت من قبل أمها لخدمة بيت المقدس والتفرغ لعبادة ربها. وكان نبي الله زكريا معروفا بتقواه وخشيته لربه، وهو ما أهّله لتنشئة مريم على الإيمان والتسليم الكامل لرب العالمين.

ومما اختص الله به مريم بعد ولادتها، أن أمّن لها رزقا وفيرا في زمن كان جدبا قاسيا على بني إسرائيل. فيقول القرآن الكريم بهذا الخصوص: “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (سورة آل عمران، الآية 37).

“كُن فَيَكُونُ”.. ولادة المسيح

أُولى المعجزات وأكثرها ارتباطا بقصة المسيح عليه السلام، هي التي تتعلّق بحَمل والدته العذراء به، وولادته منها دون أب. وقد أفرد القرآن لهذه النقطة حيّزا كبيرا لمُحاجّة من يشككون في شرعية هذا المولود بلا أب، ومخالفة ذلك للمنطق الذي يفترض به تفسير جميع مظاهر الحياة.

عيسى عبد الله ورسوله ولدته أمه مريم العذراء

“إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (سورة آل عمران، الآية 59)، هكذا ردّ الذِّكر الحكيم على الأقاويل والجدالات التي تدور بين المسيحيين أنفسهم.

وسبب نزول هذه الآية القرآنية هو مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، في أمر عيسى عليه السلام، حيث سألوا عن أب عيسى، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم، إلى أن أنزل الله تعالى في ذلك سورة آل عمران، وفيها هذه الآية.

جاء الردّ القرآني حازما وبليغا كما هو الحال في ردود الذكر الحكيم على مجادلات مخالفي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الذي خلق آدم من غير أبوين قادر على أن يخلق عيسى بطريقة مماثلة، وإذا كان غياب الأب سببا للتشكيك في نبوّة عيسى فإن الأمر سينطبق أيضا على آدم عليه السلام، وبالتالي فلا مجال لمثل هذه المجادلات.

رُطب صيفية أم معجزة شتوية؟

أهمّ ما يعترض الباحث في هذا الموضوع إشكالية الزمن، حيث يستفاد من القصة القرآنية أن عيسى عليه السلام ولد في فصل الصيف، من خلال الرُّطب التي كانت تحصل عليها أمه مريم من النخلة لحظة الولادة. إلا أن ذلك لا يعتبر حجة قاطعة، حيث يحذّر المفسرون من الجزم بها، لكون ولادة عيسى عليه السلام كانت معجزة ولا يستبعد بالتالي أن يكون وجود الرُطب في غير وقتها معجزة متفرعة عن هذا الحدث العظيم.

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا

ومما ورد عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير الآية القرآنية التي تقول: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً” (سورة مريم، الآية 25)، قوله إن الله أنبت ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، لكون الخوارق التي حفّت بمولد المسيح عليه السلام كانت مما تَقرّ به عينها، كما ورد في القرآن الكريم، لتطمئن نفسها وتحتمل أذى التهمة التي ألصقها بها قومها حينما حملت بالمسيح عليه السلام، وقد شرح القرآن كيف أن ذلك الأذى حمَلها على تمنّي الموت لشدته.

إنجيل لوقا.. بشرى بولادة مخلّص الرعاة

أما محمد عزت الطهطاوي، فاستدل بمقاطع من “إنجيل لوقا”، تتحدث عن رعاة طمأنهم ملَك وبشّرهم بولادة مُخلّص هو المسيح عليه السلام، معتبرا أن الرعي لا يكون ممكنا إلا صيفا. ويشدّد الطهطاوي على أن المسيح عليه السلام لم يولد شتاء، بل في وقت يقع بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول.

ولم يهتم القرآن الكريم كثيرا بمشكلة الزمن هذه، بقدر ما اهتم ببراءة مريم من تهمة الزنا التي رماها بها قومها اليهود. ويروي الذكر الحكيم بالتفصيل قصة الحمل المعجزة، في سورة “مريم”، حيث يقول:

“وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا” (سورة مريم، الآيات 16-2).

قال إني عبد الله.. معجزات عيسى عليه السلام

يلاحظ أن ذِكْر ولادة المسيح بغير أب، جاءت في القرآن الكريم مرتبطة بولادة يحيى ابن زكريا، مع التأكيد على كون هاتين الولادتين معجزتين إلهيتين، فنبيّ الله زكريا كان شيخا هرِما وامرأته عجوز عقيم، لكنّها أنجبت يحيى، كمثل مريم التي لم تكن قد تزوجت ولا مسّها بشر، فجاء حملُها كمعجزة إلهية.

ويورد القرآن تفاصيل لحظة الولادة تلك، وما حفّ به الله سبحانه مريم من عناية وإشارات رِفق بها، فقد خصّها بخوارق تتمثل في توفّر الرزق والمأكل والمشرب، وفي معجزة كلام النبي عيسى وهو ما يزال في المهد للدفاع عن أمه. وتورد الآيات من 27 إلى 36 من سورة “مريم” تفاصيل تلك اللحظات العصيبة التي واجهت فيها مريم قومها مدافعة عن شرعية وليدها:

“فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ” (سورة مريم، الآيات 27-36)

محاكمة المائدة.. حوار بين العبد وربه

نقطتان محوريتان في حياة النبي عيسى عليه السلام، اهتم بهما القرآن الكريم بشكل خاص وحرص على إيضاحهما، وهما نقطة ادعاء بعض المسيحيين ألوهية المسيح عليه السلام، ثم زعم بعضهم الآخر أنهم تمكنوا من قتله وصلبه.

ومن بين ما استدلّ به الذكر الحكيم على عبودية عيسى عليه السلام لله، ونفى به ألوهيته، ذلك الحوار المطول بين الله تعالى ونبيه عيسى:

“وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْ‌تَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَ‌بِّي وَرَ‌بَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّ‌قِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ‌ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (سورة المائدة، الآيات 116-118)

حوار غاية في الرقي والأدب، يقول الطبري في تفسيره إن من معانيه المحتملة، أنه جرى عندما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، بينما تذهب تفسيرات أخرى إلى أن هذا الحوار هو إخبار من الله تعالى لما سيجري يوم القيامة.

المسيح الإنسان.. الأقلية المضطهدة

الحاجة إلى البيان المفصّل في القرآن لتكذيب ألوهية المسيح تأتي من الطريقة التي رُفع بها لتخليصه من الأذى لحظة وصول مجموعة من بني إسرائيل إليه، حيث انتهى حَواريّوه إلى التفرّق بين من يعتقد بألوهيته ومن يعتقد ببُنوّته لله تعالى، بينما كان المؤمنون بطبيعته البشرية إلى جانب نبوّته أقلية جرى اضطهادها واختفت عن الواجهة إلى أن جاءت رسالة الإسلام مُصدّقة للمسيح ومؤكدة لنبوّته.

وقبل أن يرفعه الله تعالى، كانت حياة المسيح عليه السلام طافحة بالمعجزات والخوارق، وهو ما حمل البعض إلى الاعتقاد بألوهيته. فبالإضافة إلى معجزة ولادته دون أب، كان عيسى عليه السلام يستطيع إحياء الموتى وإبراء المرضى، فقد قال القرآن الكريم على لسانه: ” وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّه”، والأكمه هو من ولد أعمى، والبرص هو المرض الجلدي المعروف الخطير الذي لا يشفى عادة.

معجزة إحياء الطير على يد إبراهيم عليه السلام إحدى معجزات الأنبياء

كما كان المسيح عليه السلام يستطيع أن يتنبأ بأمور خفية، وجاء في القرآن الكريم على لسان المسيح نفسه: ” وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ” (سورة آل عمران، الآية 49)

ويضيف القرآن من صفات المسيح أنه كان مباركا حيثما كان؛ كما جاء على لسانه عليه السلام في القرآن الكريم: “وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ”(، سورة مريم، الآية 31).

كل هذه الخصال والصفات جعلت بعض النصارى يعتقدون بألوهية عيسى، بينما يكفي الإيمان بالقدرة الإلهية على فعل كل شيء لتفسير المعجزات التي تطفح بها حياة المسيح عليه السلام، علما بأن إحياء الموتى لم يختص به عيسى وحده، بل جرى على أيدي أنبياء آخرين، ولم يرفعهم أقوامهم إلى مصاف الألوهية كما فعل النصارى، من ذلك مثلا إحياء الطير على يد إبراهيم عليه السلام كما في سورة البقرة الآية 260، وإحياء الفتى القتيل من بني إسرائيل على يد موسى عليه السلام كما في سورة البقرة الآية 7، فهذا الإحياء إنما هو معجزات حصلت على أيدي هؤلاء الأنبياء بإذن الله تعالى، لا بقدرة خاصة في أحد منهم عليهم السلام، بمن فيهم المسيح نفسه؛ ومن ثم فلا دليل على ألوهيته المُدّعاة استنادا إلى إحياء الموتى على يديه.

ما قتلوه وما صلبوه.. ولكن

أما عن قصة اختفاء المسيح عليه السلام، والتي ترد فيها روايات طويلة ومختلفة في الأناجيل المتداولة، فإن القرآن الكريم كان حازما بخصوصها، فقال بشكل قاطع: ” وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ” (سورة النساء، الآية 157).

فبعض الروايات النصرانية تدَّعي بأن المسيح عليه السلام جرى قتله وصلبه على يد جماعة من بني إسرائيل ممن خرجوا عليه وحاربوه رفضا لرسالته الإلهية.

وقد اختلف المفسرون في شرح التشبيه الذي شُبّه لليهود في أمر عيسى، فقال بعضهم إنه لما أحاطت اليهود به وبأصحابه الـ12، كانوا لا يقدرون على معرفة عيسى بعينه، ذلك أنهم جميعا حُوِّلوا في صورة عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.

وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقي على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجلا، فألقى عليه شبهه، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام.

فيما يذهب تفسير آخر إلى أن اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله كانوا قد عرفوا عدد من في البيت قبل دخولهم، فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العِدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى الذي كان الله تعالى قد رفعه إنقاذا له من القتل.

حلف اليهودية والوثنية.. قتل بأوامر ملكية

أما تفسير “ابن كثير” فيبدو جازما في شرح رفع المسيح عليه السلام، ويقول إن اليهود لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبيّنات والهدى، “حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات”، مضيفا أنهم كذّبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، مما جعل عيسى عليه السلام يهجرهم ويكثر الطواف في الأرض “ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان -وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب يقال لأهل ملّته اليونان- وأَنهوا إليه: أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويُضلهم ويفسد على المَلك رعاياه”.

غضب هذا الملك اليوناني، حسب ابن كثير، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يَصلب عيسى، “فلما وصل الكتاب امتثل متولي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه، اثني عشر أو ثلاثة عشر -وقيل: سبعة عشر نفرا- وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك”.

ويخلص تفسير ابن كثير إلى أن المسيح طلب من أصحابه متطوعا ليتشبّه به ويضحي بنفسه فداء له، على أن يكون رفيقا له في الجنة، فتطوّع أصغرهم، وهو المعروف باسم يهودا، “فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفُتحت رُوزنة من سقف البيت وأخَذت عيسى عليه السلام سِنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك”.