أفغانستان الجريحة.. عاصفة طالبان التي أطفأت فتيل الحرب وشمعة الحرية

لعل أفغانستان من أكثر الدول في وعي جيلنا ارتباطا بالحروب والقتل والتشرد والبؤس، ذلك أنها دخلت قبل أربعة عقود دوامة الحرب دون توقف حتى اليوم، وهي منطقة صراع إقليمي ودولي مستمر للسيطرة عليها لموقعها الاستراتيجي الهام.

هذه قصة أرض جميلة جدا بقدر ما هي ملعونة، إنه بلد عالق في الحروب منذ وقت طويل، وقليل من يمكنهم أن يتذكروا متى بدأ ذلك أو لماذا، نظرا لمرور أكثر من أربعين عاما على اشتعال فتيل القتال والحروب دون أن يهدأ أبدا حتى اليوم.. وماذا يريد المتقاتلون الذين لا يتعبون من الحرب، أهو المال أم السلطان أم الدين؟! لا أحد لديه إجابة واضحة، فما الخطأ الذي وقع في أفغانستان، فأبقى على هذه الأرض القاحلة لغزا؟

أفغانستان الواقعة في قلب آسيا وتحيط بها حضارات قديمة، بقي أهلها معزولون خلف جبال هندوكوش الشهيرة، ورغم انقسام الأفغان إلى قبائل، فقد وحدهم دينهم الإسلامي ورغبتهم الشرسة بالاستقلال. فعلى مر التاريخ غزا فاتحون ذوو جيوش عظيمة هذه الأمة من الإسكندر الأكبر إلى الإمبراطورية البريطانية، لكنهم واجهوا جميعا المقاومة الأسطورية للأفغان.

ونظرا لأهمية التجربة الأفغانية على كل الصعد، أنتجت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما من أربعة أجزاء، يروي حكاية الجرح الأفغاني الدامي من نهاية العهد الملكي إلى اليوم.

 

يتناول الجزء الثالث من الفيلم بعنوان “طالبان” الفترة الممتدة ما بين انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان وحتى وقوع أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة، مرورا بإسقاط النظام الشيوعي، ودخول المجاهدين إلى كابل، والحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين، ثم خروج حركة طالبان من قندهار إلى حين سيطرتها على كابل واغتيال تنظيم القاعدة للقائد أحمد شاه مسعود قبل يومين من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

ناديا غلام شاهد حي على فترة حكم طالبان

انسحاب الجيش السوفياتي.. بداية “حرب قذرة جدا”

عاش الأفغان عشر سنوات تحت الاحتلال، فقد أرسل الاتحاد السوفياتي أكثر من 600 ألف جندي للسيطرة على البلاد، لكنه فشل، ولم يجد أي جدوى من الحرب وخسائرها الثقيلة، فلم يجد بُدا من الانسحاب.

ولدت “نادية غلام” في كابل عام 1985، أي في فترة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، ونشرت عام 2010 مذكراتها عن فترة شبابها في أفغانستان، وتصف الحياة في تلك الحقبة بأنها “كانت طبيعية في العاصمة كابل، ولم نشهد الكثير من المشاكل. أذكر كيف كنا ندرس ونذهب إلى المدرسة، وكان الجميع في كابل يقفون على أسطح المنازل ليلعبوا بطائراتهم الورقية الملونة. ولم أكن أدرك معنى الحرب تماما، فقط كنت أعلم أن بلادي تعاني بسبب الحرب، لكنني ظننت أنها لن تطالني أبدا، ظننت أنها ستكون في القرى والأرياف فقط، لكنها لن تطال منزلي أو مكان عمل والدي”.

فقد بقيت العاصمة كابل آمنة نسبيا في ظل حماية السوفيات لها، لكن الحرب في الأقاليم كانت عنيفة جدا، ومع انسحاب السوفيات راود الأمل الأفغان بالسلام أخيرا.

يتذكر مسعود خليلي القيادي في صفوف المجاهدين خروج القوات السوفياتية من أفغانستان بكثير من الغبطة، ويقول “كان يوما مميزا بالنسبة إلى كل الأفغان وأنا منهم، لأننا انتظرنا طويلا ليتركنا العدو وشأننا، ومن الأمور التي أذهلتني وهم يرحلون السعادة التي كانت تعتريهم، وهذا يعني أن الجنود أيضا لم يرغبوا في البقاء في أفغانستان”. لكن سرعان ما علقت أفغانستان مجددا، وعادت دوامة الحرب التي يصفها بأنها “حرب قذرة جدا”.

ابنة الرئيس نجيب هيلة تسرد قصة اختفاء والدها

كابل الوحيدة.. تخلي المجتمع الدولي عن أفغانستان

تقول شكرية بركزاي التي أصبحت عضو البرلمان الأفغاني عام 2005: حين انسحب آخر من بقي من الجنود السوفيات وعبروا الحدود شعرنا بالحرية، وتنفسنا الصعداء أننا استعدنا بلدنا، كنت حينها طالبة جامعية في عامي الـ19، وكنا نشعر أن هذا الفصل انتهى، وسيبدأ فصل جديد وسيكون جيدا.

وبعد خروج القوات السوفياتية عام 1989 بقيت كابل في قبضة الشيوعيين، لكن بعد أن باتت الحكومة وحيدة وضعيفة في مواجهة قوة المجاهدين المسيطرة على الساحة الأفغانية، بدأ الرئيس نجيب الله بالحديث عن فرصة استثنائية لتحقيق السلام في البلاد.

وهو ما تردده هيلة نجيب الله ابنة آخر رئيس شيوعي في أفغانستان -وهي خبيرة في حل النزاعات وغادرت إلى الهند عام 1992- فتقول: عندما أصبح والدي رئيسا كان هدفه إرساء المصالحة، وكان المصطلح جديدا بالنسبة لي، فوالدي لم يعد يوما إلى المنزل بأيديولوجيته السياسية، ولم يحاول تلقيننا إياها مطلقا، وكانت رؤيته أننا يمكن أن نتقدم وننعم ببلد مسالم، وأن نجد طريقة لوقف الحرب بين المجاهدين والشيوعيين.

وفي تسجيل أرشيفي يقول الرئيس محمد نجيب الله الذي حكم أفغانستان في سنة 1987 إلى 1992: “ما يحتاجه الشعب الأفغاني هو المزيد من التعاطف والعون الاقتصادي، وليس المزيد من القنابل والأسلحة”. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 أوقفت روسيا دعمها للحكومة الأفغانية، ولم يعد القادة الروس الجدد يولون أي أهمية لسيطرة المجاهدين على كابل.

في الوقت الذي سعد فيه أقوام بدخول المجاهدين لكابول، رآى آخرون الأمر كابوسا محققا

دخول المجاهدين.. سماء ملبدة بالأفراح والكوابيس

بعد هزيمة المجاهدين للجيش السوفياتي عام 1989، بدأ قادة المجاهدين بالتحضير للبدء في تنفيذ الخطوة الأخيرة، وهي السيطرة على كابل، فقد كانت الحلم، كما يقول مسعود خليلي: انتظرنا جميعا أن نبلغ كابل يوما ما، كانت كل أحلامنا ومحادثاتنا وذكرياتنا ورغباتنا محصورة في دخول كابل.

ويضيف خليلي: أراد الرئيس نجيب التحدث إلينا، لكننا رفضنا وقلنا له: كلا، اخرج أنت ونحن سندخل إلى كابل، وإلا فسنخرجك بالقوة، وكان ذلك في أبريل عام 1992، وكنا حينها على بعد خمسة كيلومترات فقط من كابل، وقرر القائد مسعود أنه الوقت المثالي للهجوم.

بات أحمد شاه مسعود، الملقب بأسد بانشير أيقونة لدى المجاهدين، إلا أنه كان واحدا فقط من بين عدة قادة للمجاهدين، وقد أرادوا جميعا أن يكونوا أول من يدخل كابل.

يصف عبد الله أنس -وهو مجاهد جزائري سابق في أفغانستان ومقرب من أحمد شاه مسعود- لحظة دخول المجاهدين كابل فيقول: لا يمكنك تصور ذلك، 80% من المجتمع وسكان كابل خرجوا للترحيب بالمجاهدين، كان أشبه بزفاف كبير على مستوى المدينة، وكانت السعادة تعم المكان.

ويضيف: “الطائرات والدبابات والوزارات والقصر والراديو والتلفزيون الرسمي.. كل ذلك أصبح لنا نحن الحكام الجدد، يا له من نصر، وأين هو رئيس الجمهورية؟ إنه لاجئ في مبنى الأمم المتحدة”. وهنا يعرض الفيلم صورا أرشيفية لدخول المجاهدين القصر الرئاسي ومكتب نجيب الله.

أما شكرية بركزاي فقد علقت في ذاكرتها صورة أخرى عن ذلك اليوم، إذ تقول: أذكر أول مرة رأيت فيها أحد المجاهدين وكان ذلك كابوسا، لقد كان شعره طويلا جدا، وقد ربط بأطرافه رصاصات، كما كانت ثيابه وسخة جدا ويداه كذلك وأظافره طويلة جدا، وبدلا من الرشاش الواحد فقد كان يحمل أربعة، اثنان على كل جانب، لم أر في حياتي شخصا بهذه الهيئة، كان أشبه بكابوس.

وكان ذلك اليوم أكثر من كابوس لدى نادية وعائلتها أيضا، فتحكي نادية عنه بالقول: أذكر أن والدي عاد يوما إلى المنزل وكان متوترا، وقال لوالدتي: علينا أن نحرق كل الكتب التي نملكها، لقد دخل المجاهدون المدينة وهم ضد الشيوعيين، وكان والدي قد اعتاد القراءة باللغة الروسية، فأشعل التنور الذي نخبز فيه، وأحرق كل كتبه، وكان يفتح الكتاب للمرة الأخيرة ويقلب صفحاته سريعا قبل أن يلقيه في النار، ثم أجهش بالبكاء.

ويذكر تقرير غربي بالإنجليزية أن تقارير متضاربة تتحدث عن مكان وجود الرئيس نجيب الله، بعد أن سيطر مئات الجنود المنشقين عن الحكومة على مطار كابل، ومنعوا الرئيس من مغادرة العاصمة، مما دفعه للجوء إلى مقر الأمم المتحدة في كابل، وإعلانه الاستقالة من كل مهامه الرسمية.

وتذكر هيلة نجيب الله آخر مرة رأت فيها والدها، حين قرر إخراجهم من البلاد في عطلة، ولم تره بعدها. وتقول: أوقفته إحدى نقاط التفتيش، وقال له أحد الجنود: أعتقد أن ثمة مخططا لقتلك، عندها توجه والدي إلى مقر الأمم المتحدة وكان هذا كل شيء، ومن هنا بدأ الغموض بشأن ما سيحل تاليا.

أحمد شاه مسعود كان مدعوما من إيران وطاجكستان والهند، في حين أن حكمتيار كان مدعوما فقط من باكستان

صراع أمراء الحرب على الكعكة.. فرحة أعقبتها ترحة

في أواخر أبريل/نيسان عام 1992 وقعت كابل في أيدي المجاهدين، وما إن وصل قادة المجاهدين إلى كابل حتى بدأوا بالصراع على السلطة، وعلى الرغم من دخول رجال مسعود العاصمة، فقد كان الجزء الجنوبي من المدينة تحت سيطرة فصيل آخر هو الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار الذي أصبح رئيس وزراء أفغانستان سنة 1993 والتي تليها، وأراد أن يكون رئيس الجمهورية التالي.

ويعتبر حكمتيار حكم كابل من حقه، باعتباره كان أول من أطلق الجهاد ضد الشيوعيين، إذ يقول: لأكون واضحا يجب أن أقول إننا -حتى قبل الاحتلال السوفياتي لأفغانستان- كنا الحركة الجهادية الوحيدة التي تقاتل الشيوعيين، ولم يكن هناك أي حزب إسلامي آخر في أفغانستان.

وعن تلك المرحلة يقول مراسل تلفزيون أجنبي في تقرير له: رفض حكمتيار قائد الحزب الإسلامي عدة اقتراحات لحكومات انتقالية، واستمر في تهديداته باحتلال كابل، وقد تكون هذه اللحظة الحاسمة حتى الآن، ويبدو أن رجال حكمتيار قد استولوا على القصر الرئاسي.

ولحسم الخلاف وبعد مفاوضات صعبة وافق قادة المجاهدين على تشكيل حكومة مؤقتة، وعين مسعود وزيرا للدفاع، لكن حكمتيار رفض الاتفاق، وكان المشهد يتجه نحو التأزم، كما يقول مسعود خليلي المستشار الإعلامي لأحمد شاه مسعود: في مؤتمر صحفي في وزارة الخارجية قال القائد مسعود: لم تنته الحرب بعد، نحن تحت وطأة نيران المنافسين.

بالمقابل يقول حكمتيار: أرسلت الحكومة خمسة من طائراتها لقصف منزلي بـ٣٢ صاروخا، فسمحت لجنودي بتوجيه بعض الضربات للقصر الجمهوري، وكان ذلك تحذيرا واضحا من أن ذلك إذا تكرر فسيقابل بالنيران المتكررة، واتخذنا قرارا بعدم استهداف المدنيين، فلم نقصف أي أهداف مدنية.

ويرى البعض أن البعد العرقي هو الذي أشعل الصراع على حكم كابل، فحكمتيار ينتمي إلى أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان، وهي مجموعة “البشتون” التي حكمت أفغانستان لقرون، أما مسعود فينتمي إلى عرقية “الطاجيك”.

عانت نادية من صراع الإخوة على كابل، وعن تلك المعاناة تقول: كنت أنتظر والدتي في الغرفة وأقرأ كتابا، كنت مستغرقة في تأمل الصور في الكتاب، حتى وقعت قنبلة في الغرفة التي كنت فيها فأحرقتني، وكان الأطباء الباقون في المدينة يعالجون الناس القابلين للشفاء فحسب، وكانوا واثقين أنني لن أنجو، وذهبت أمي من منزل إلى آخر للبحث عن قطن ووسائد قديمة وحرقها، وأخذت الرماد وذهبت إلى المستشفى ووضعته على كل جرح من جراحي لوقف النزيف، فكانت أمي هي التي داوت جراحي.

لم يعترف حكمتيار بالحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين واعتبرها مجرد خلافات

مصالح الجوار.. أفغانستان في وجه عواصف التجاذبات الإقليمية

يقول مسعود في تسجيل من الأرشيف: الأمم المتحدة والقوى الغربية أظهرت اهتماما بأفغانستان فقط لأننا كنا نحارب الاتحاد السوفياتي والشيوعية، فقد كانت عدونا المشترك، ثم انتهت مصلحتهم معنا، فتركونا بمفردنا.

من جهته يعلق “ميلتون بيردن” -المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، وهو الذي كان معنيا بدعم المجاهدين الأفغان- على كلام مسعود بالقول: حين بدأ المجاهدون يتقاتلون في أفغانستان كان المعتقد السائد في وزارة الخارجية أنه لا يسمح لنا بالتدخل لمساعدتهم، لذا غادرنا، فعدت إلى واشنطن لأقدم تقريري للرئيس، وكان حينها الرئيس “جورج بوش الأب”، وكنا في المكتب البيضاوي حين قال أحدهم، أتذكرون حين كان “ميلت” في أفغانستان؟ فقال الرئيس بوش: أفغانستان؟ أما زالت الحرب فيها مستمرة؟ فقلت نعم ما زالت مستمرة.

الانسحاب الأمريكي من الشأن الأفغاني دفع دول الجوار لملء الفراغ الذي خلفته قوى الحرب الباردة، فمثلا تلقى حكمتيار الدعم من باكستان، بينما حصل مسعود على المساعدة من الهند وإيران وطاجكستان ودول أخرى، فلم يرد أي طرف أن تسقط كابل في يد الطرف الآخر.

وأدى الصراع الشرس بين الإخوة الأعداء إلى معاناة العاصمة من الحصار والجوع، هذا فضلا عن الآلاف الذين قتلوا في هذا الصراع، كما دمرت أجزاء كبيرة من كابل، واتهم مسعود وحكمتيار بجرائم حرب، ولم يتحمل أي من قادة الحرب مسؤولية أعماله.

وعن ذلك يقول خليلي: ما أمكننا فعله نحن والقائد مسعود هو إيقاف الحرب، لا يمكنني القول إننا كنا محقين بنسبة 100%، لا أحد محق بشكل كامل، فنحن بشر ونتصرف بأنانية أحيانا ونغضب، وحينها نفقد المنطق.

أما حكمتيار فلا يعترف بأن الصراع على كابل كان حربا أهلية، فيقول: دعني أصحح كلامك، لم نشهد يوما حربا أهلية في أفغانستان، كانت الحروب في أفغانستان تفرض دوما من الخارج.

حين ظهر الملا عمر يحمل بردة النبي وبايعه الشعب، أسقط في يد الفصائل المسلحة فغادرت كابول

بردة النبي محمد في قندهار.. حركة طالبان المنقذة

كانت الحرب قد هدأت عام 1994 حين ظهرت حركة جديدة هي حركة طلبة المدارس الدينية “طالبان”، يوم اجتمع علماء قندهار وقرروا إعادة إرساء القانون.

ويتحدث “مُلا عبد السلام ضعيف” أحد مؤسسي حركة طالبان عن نشأة حركة طالبان بقوله: “لم يكن الوضع تحت السيطرة واستمر القتال للسيطرة على كابل إلى أن تعب أهل قندهار من الوضع، فطلبوا من تنظيم طالبان القيام بشيء، وبدأنا بعقد اجتماعات عدة، إلى أن توصلنا إلى حل مفاده القيام بعملية كبيرة، ولم نكن قد فكرنا في دخول قندهار أو كابل أو أي مدينة أخرى، بل كان هدفنا الرئيسي حين بدأنا هو حماية مقاطعتين في قندهار، إذ كان هناك العديد من نقاط التفتيش، وبعض القادة كانوا يأخذون الضرائب ويقتلون الناس ويزعجون بعض النساء، وكان هذا الأمر مزعجا جدا، وفي البداية كان عددنا يتراوح بين 35 و40 شخصا، وخلال يومين أو ثلاثة بلغ عددنا ألف رجل”. وقد اختارت حركة طالبان لزعامتها رجلا كان قد حارب ضد السوفيات سابقا، وهو الملا عمر.

وقد ورد في تقرير غربي عن ظهور طالبان بأنها لحظة مهمة في تاريخ الأمة الأفغانية، فقد عرض الملا عمر بردة النبي محمد على الملأ، وهذه البردة محفوظة في قندهار ولا تعرض إلا في أوقات الأزمات، وآخر مرة حصل هذا كان قبل 60 عاما، وبدأ الناس يرمون عمائمهم للمس البردة والتبرك بها، فكان الأمر أشبه باحتفال ديني ضخم من العصور الوسطى.

بعد أن وعدت بإحلال النظام والسلام، تمكنت حركة طالبان من الحصول على دعم الأفغان الذين سئموا الحرب، لكن المفتاح الرئيسي لبروز الحركة جاء من باكستان، فبعد حروبها الطويلة مع الهند وإيوائها ملايين الأفغان كانت باكستان بحاجة إلى حكومة داعمة لها في أفغانستان، فوظفت آلاف الشبان الذين نشأوا في مخيمات اللاجئين، فجرى تدريبهم وتسليحهم وأرسلوا للقتال في أفغانستان.

أرست طالبان قواعدها الصارمة على الحياة في كابول فمنعت المظاهر التقليدية وأجبرت الناس على التقيد بالتعاليم الإسلامية

يد باكستان الضاربة.. نهاية الحرب الأهلية

يقول خليلي الذي كان المبعوث الأفغاني إلى باكستان عام 1995: “التقيت ببعض أفراد طالبان للمرة الأولى في باكستان، وقالوا إنهم مصممين على القتال حتى النهاية للوصول إلى كابل، وتحرير الشعب الأفغاني من أمثالنا، لم أصدق أن حركة طالبان قد تسيطر يوما على كابل، وسألت أحدهم من يمدكم بالمال والأسلحة والتدريب، فأجابني: الله”. وبمساعدة باكستان وتعاطف الناس، بات من غير الممكن إيقاف حركة طالبان التي عزمت على السيطرة على كابل.

يقول تيسير علوني مراسل قناة الجزيرة في كابل 1999-2001، والمراسل الأجنبي الوحيد في أفغانستان في ظل حكم طالبان: “خلال عامين سيطرت طالبان على معظم المناطق، لأنهم كانوا رجال دين وطلاب علم، ولم يرد أحد قتال رجال الدين، قاوم أحمد شاه مسعود وقلب الدين حكمتيار في كابل، لكن في النهاية كان عليهما الانسحاب، لأن رجالهما لم يرغبوا في قتال طالبان”. ففي غضون عامين، تمكن التنظيم من السيطرة على كابل، وباتوا هم حكام أفغانستان.

لم يعد أمام أمراء الحرب سوى خيارين، إما الاستسلام، وإما المغادرة. يقول خليلي: “تلقيت اتصالا هاتفيا من القائد مسعود، فقال لي: دخل طالبان إلى كابل، فسألته: هل تركت كابل؟ هل هزمت؟ فأجاب: سمِّ ذلك ما شئت”. وعاد مسعود إلى الجبال حيث كان يقاتل يوما ما جيوش السوفيات، وهرب قادة الحرب الباقون من البلاد.

يقول حكمتيار: حاولت الذهاب إلى مكان آخر، لكن كان الأمر مستحيلا، لم يكن لدي حل سوى التوجه إلى إيران.

أما في كابل فقد بقي الرئيس السابق نجيب الله طوال السنوات الأربع الماضية في مبنى الأمم المتحدة، وكانت ابنته هيلة تأمل خروج والدها من كابل سالما، كما حاول مسؤولون في الأمم المتحدة طمأنتها هي وعائلتها.

بعد أربع سنوات من لجوئه إلى مقر الأمم المتحدة، سحبت طالبان الرئيس نجيب وأعدمته أمام الجماهير

إعدام الرئيس.. أمن بلا حرية في ظلال حكم طالبان

لم يكن الوضع في كابل بعد سيطرة حركة طالبان عليها مبشرا بالخير كما يقول تقرير تلفزيوني غربي إذ “باتت كابل تحت سيطرة طالبان، وفي ليلة وضحاها اقتادوا الرئيس السابق محمد نجيب الله من مبنى تابع للأمم المتحدة، وضربوه وأطلقوا عليه النار وعلقت جثته على عمود إنارة”.

ولاقى إعدام نجيب بهذه الطريقة انتقادات واسعة، مثل شكرية التي قالت: كان تصرفهم مخالفا للرسالة التي نادوا بها، قالوا إنهم سيرسون العدالة، لكن الرئيس السابق قتل بلا عدالة ولا محاكمة.

وخلال فترة قصيرة غير التنظيم وجه كابل كليا، فحظر التلفاز والموسيقى وأشكال أخرى للتسلية، ومنعت حتى الطائرات الورقية، اللعبة الشعبية في هذا البلد، واستهدفت معظم القوانين الجديدة النساء، وبالنسبة إليهن باتت أفغانستان سجنا.

وعن ذلك تقول نادية: حين دخلت حركة طالبان انتهت الحرب الأهلية، وعم السلام، لكنهم سلبونا حريتنا، البلد المسالم الذي يفتقر إلى الحرية ليس بلدا، لقد منع النساء من مغادرة منازلهن سافرات وحرمن من العمل والدراسة، ومنع أي أحد من دخول منازلهن.

ولا تمحى تلك الممارسات من ذاكرة شكرية التي تقول: حين ضربني رجال طالبان في الشارع، كان الأمر صعبا جدا، فقد كنت أرتدي البرقع الملائم، وخبأت أصابعي وأظافري الجميلة وطلاء الأظافر الذي ما كان يجب أن يروه، لكنهم ضربوني وسألوني لماذا أنا في الشارع دون أحد أفراد عائلتي الذكور، أي دون محرم، لا أقول إنني كنت أثير المتاعب، لكنني أحببت أن أجيبهم، فقلت لهم: حاولت إيجاد رجل من سوق الخردة لكنني لم أنجح، فبدأوا يضربونني بقوة أكبر، في وسط الشارع وأمام 200 شخص ربما.

وتمضي شكرية في حديثها: كان هذا العقاب الذي تلقيته أشبه بتنبيه لي لأستيقظ وأستفيق، فافتتحت مدرستي الخاصة تحت الأرض، أحضرت الفتيات وقلت لهن اسمعن: هذه ليست طبيعتكن، حين كنت في سنكن كنت أجيد كرة السلة والكرة الطائرة، وكنت أستمع إلى الموسيقى وأتمتع بمهارات كتابية جيدة، وكنّ ينظرن إلى بطريقة غريبة جدا، ويقلن كيف يعقل ذلك. هل ارتديت تنورة، ولم تخفي شعرك؟ قلت أجل كان طبيعيا.

اضطرت ناديا أن تتنكر بزي رجل كي تعيل أهلها

“العين بالعين والسن بالسن”.. عصر الإعدامات العلنية

تتذكر نادية فترة حكم طالبان الصعبة عليها بقولها: مات أخي وكان والدي مريضا وكانت شقيقاتي صغيرات، ووالدتي لم تعمل يوما، فقلت لنفسي: بما أن المرأة لا يمكنها العمل فسوف أتنكر بزي رجل لأطعم عائلتي، وقد عشت في حالة خوف لكنني نجوت، وتعلمت كل قواعد طالبان وعرفت ماذا أرادوا، فقد شهدت حكم طالبان كله، وكان بعضهم جيدا وأراد السلام، أما البعض الآخر فكانوا مرضى نفسيين، ولم يريدوا سوى قتل الناس وإنهاء الحياة، هذا لأنهم كانوا أيتام الحرب الأهلية في أفغانستان، لذا كبروا وهم يفكرون في أن الحياة قد انتهت.

ويروي تيسير علوني إحدى الحوادث الشهيرة التي أرعبت سكان كابل، فيقول: في أحد الأيام أعلنوا عن عملية إعدام في ملعب كرة القدم، وتمكنت من إخفاء كاميرا صغيرة للتصوير، وكان هذا الأمر ممنوعا، لو أمسكوا بي لكانت العواقب وخيمة، لكنني فعلت هذا وصورت، وكان هناك 30 ألف متفرج، وكان الأمر صادما بالنسبة لي، وحين انتهى الإعدام سألت أحد عناصر طالبان: لم تعملون بمبدأ الإعدام وهو مرفوض في كل العالم تقريبا؟ لما تصرون على ذلك؟ فأجابني: إنه مذكور في القرآن، العين بالعين والسن بالسن.

ويتحدث أحد رجال طالبان في تسجيلي أرشيفي، مبررا شدة قوانينهم بقوله: الأمر مشابه تماما للحقنة التي يعطيها الطبيب للطفل، الطفل لا يعرف أن ذلك يصب في مصلحته، والأمر نفسه ينطبق على القوانين التي نفرضها، تكون مؤلمة في البداية، لكنك تعتاد عليها لاحقا.

وكانت نادية واحدة من الذين أخافهم مشهد الإعدام العلني، فقالت حين قالوا لنا إننا سنذهب ونرى مشهد إعدام المرأة، جعلني ذلك أفكر في أنني قد أكون التالية، بهذا الخوف وهذا الألم جلسنا وشاهدنا الأمر.

ظهر بن لادن على الساحة الأفغانية عائدا من السودان فاستقبلته طالبان ورحبت به

أسامة بن لادن.. اللاجئ الذي قلب المشهد الأفغاني

عام 1996 كان على أسامة بن لادن البحث عن ملجأ جديد والخروج من السودان حيث كان يعيش، لأن الولايات المتحدة اتهمته بالإرهاب، فعاد إلى أفغانستان حيث قاتل عام 1980، ووجد ملجأ جديدا له في صفوف طالبان.

يقول عبد السلام ضعيف: لم يكن هناك أي رابط بين القاعدة وطالبان، وحين استلمت طالبان السلطة في ذلك الوقت، أرسل لنا بن لادن رسالة مفادها أنه مجاهد سبق أن جاهد في أفغانستان، وهو قادم من السودان، ويواجه مشكلة مع السعودية، ويريد البقاء في أفغانستان كمجاهد، ولهذا السبب قبل به تنظيم طالبان من دون معرفة مسبقة.

ويقول تيسير علوني: استضافت حركة طالبان ابن لادن كلاجئ سياسي، لكنه تجاهل هذه الصفة وبدأ بتدريب المتطوعين القادمين من كل أنحاء العالم الإسلامي، وقد ألب هذا عناصر طالبان ضده، لكن لم يسعهم القيام بشيء، فقد كانوا يحترمونه لما قدمه سابقا في أفغانستان.

ووجد ابن لادن وتنظيم القاعدة عدوا مشتركا، وهو أحمد شاه مسعود، الذي كان يقاوم في وادي بانشير شمال كابل، فبعد مجازر الحرب الأهلية وجد مسعود أن معركته مع طالبان وابن لادن هي وسيلته للتكفير عن تلك الحقبة، فبعد أن شعر أن ابن لادن يشكل خطرا توجه مسعود للمرة الأولى إلى أوروبا على أمل أن يفوز بدعم من القادة الغربيين.

وعن ذلك يقول خليلي: حين كان مسعود في فرنسا في نيسان/أبريل عام 2001، وجه رسالة إلى أمريكا مفادها أن أسامة بن لادن والقاعدة سيشكلان خطرا كبيرا عليهم جميعا.

رسالة من أحمد شاه مسعود تحذر الغرب من طالبان، قبل أيام من اغتياله

“على الأمريكيين وبقية دول العالم مواجهة العواقب”.. إنذار مبكر

يقول مسعود في تسجيل أرشيفي من باريس في 24 نيسان/أبريل 2001: رسالتي إلى الرئيس بوش هي التالية: إن كان لا يهمه تحقيق السلام في أفغانستان، وإن لم يساعد الشعب الأفغاني في تحقيق غايته وهي السلام، فسيتوجب على الأمريكيين وبقية دول العالم مواجهة العواقب.

لم يستمع العالم إلى تحذيرات مسعود، وعاد إلى أفغانستان خالي الوفاض، وفي أيلول/ سبتمبر 2001 كان ابن لادن مستعدا لمهاجمة أمريكا، وفي بداية الشهر نفسه أرسل رجلين إلى بانشير ودخلا بصفتهما صحفيين وطلبا مقابلة مسعود.

وعن تلك الحادثة التي أصيب فيها يقول خليلي: في 9 أيلول/ سبتمبر 2001 جاء صبيان من القاعدة، ولم يكونا صحفيين بل يدعيان ذلك، وقد أحضرا معهما كاميرا، وكان الناس يقولون إنهما يهتمان كثيرا لأمرها، ولا يسلمانها لأحد، دخلت أنا والقائد مسعود إلى الغرفة وجلست بجانبه، وقد سألا نحوا من 15 سؤالا، وأظن أن ثمانية أو عشرة منها كانت عن أسامة بن لادن ومهاجمة مسعود له في فرنسا، وفي اللحظة التي اقتربت منه لأسأله وقع الانفجار، قتل مسعود، ومات في حضني.

ويضيف: فتحت عينيّ فوجدت زوجتي بجانبي، فسألتها أين نحن؟ فأجابت في ألمانيا. فطلبت منها أن تسامحني لأنني أحسست أني أحتضر، لكنني نجوت. ثم ناديت ابني، وقلت له: إن أردت ارتداء زي بلادك لمحاربة الإرهابيين فاذهب، لأن الرأفة بالذئب هي قسوة على الأغنام.. وبعد يومين وقع هجوم نيويورك.