أفغانستان.. حيث تنمو أزهار الخشخاش بأمان

سناء نصر الله

أفغانستان البلد الذي أنهكته الحرب عقودا، وسامه الخسف أكثر من احتلال حديث، كان عبر العصور بلدا نابضا بالحياة، وبوابة للعبور بين الشرق والغرب، لكنه اليوم أصبح إضافة لويلات الحرب، ومرتعا لتجارة مُهلكة.

في هذا الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة بعنوان “أفغانستان.. حروب الأفيون الخاسرة” ضمن سلسلة “عالم الجزيرة”، وأعده الصحفي “ستيف تشاو”؛ نتعرف على هذا الجانب المظلم من الحياة في ذلك البلد.

تحت أحد الجسور في العاصمة كابُل كان المنظر مقززا، فهناك مجموعة من الرجال يتعاطون الأفيون الذي يُزرع في بلادهم ويُهرب معظمه إلى الخارج، ويشكل هؤلاء عينة صغيرة من أعداد هائلة من المدمنين تصل إلى ما يقارب 3 ملايين مدمن، وهي النسبة الأعلى بالعالم مقارنة بعدد السكان. هناك في أحد أوكار للمدمنين تحت جسر من جسور العاصمة، ينساب الماء الآسن النتن، وتزكم رائحة مياه الصرف الأنوف.

هذا “كريم كامباري” يجيد الإنجليزية واليونانية والألمانية وغيرها من اللغات، لكنه وبكل سهولة وقع فريسة للإدمان. رغم الأسى الذي يبديه إلا أنه يقول: فقط في هذا المكان أجد التقدير. قصته تشبه قصة مئات الآلاف من المدمنين داخل أفغانستان.

 

“موما” المنقذة.. إنهم بشر مثلنا

قبل أن نتعمق كثيرا في تفاصيل هذه التجارة المميتة، لا بد أن نشير -رغم قتامة الموقف- إلى وجود بقعة ضوء صغيرة تنشر بعض الأمل؛ إنها السيدة “ليلى حيدري” التي يسمونها هنا “موما”، تحاول بكل جهدها تخليص البلاد والشباب من آفة الإدمان.

تحاول “موما” إقناع المدمنين بالإقلاع عن تلك العادة السيئة التي تضر بهم، وتقضي في ذلك المكان المريع ساعات طويلة، وتساعد المدمنين في كثير من الأمور، حتى في نقل الموتى الذين يسقطون صرعى جراء أخذ جرعة زائدة أو بسبب قذارة المكان وبرودة الطقس.

تقول ليلى: ليس مرخصا لنا نقل الموتى، لذلك فإنني أتصل بالشرطة في مثل هذه الحالات، لا يمكننا تجاوز السلطات، وعادة ما يأخذ الأمر وقتا.

قلة من الناس يجرؤون على الدخول تحت الجسر لكنها لا تخشى شيئا.

تحت القنطرة جمع غفير من الأشخاص، ورغم أن المكان تفوح منه رائحة كريهة فإن “موما” تصر على هذا العمل.

يقول معد الفيلم: يزداد الخطر كلما توغلنا إلى داخل المكان حيث نشاط موزعي المخدرات في أوجه، وهم يرفضون التصوير ويمنعون المصور من ذلك.

وهناك مجموعة من الرجال يشهرون خناجرهم، لقد سبق أن تعرضت “موما” لاعتداء جسدي ألزمها المستشفى لبعض الوقت.

ولدى سؤالها: أنت سيدة وتعرضت للضرب مرتين، فلما تُصرين على الحضور؟

تجيب: إنهم بشر مثلنا، وأريد أن أجاهد فيهم ما حييت لمساعدتهم ومد يد العون لهم حتى ينتهوا عن ذلك.

يرثي كريم كامباري لحال “موما”، ويقول إنها قد تدفع حياتها ثمنا لهذا الجهد، “ربما ليس بأيديهم ولكنهم يمكنهم استئجار القتلة”، ففي نهاية كل يوم هناك مجموعة أخرى من الجثامين، لكن ذلك لم يكن له صدى في كابل حيث تمضي الحياة كالمعتاد.

 

قندهار.. غريزة البقاء

ولاية قندهار مصدر البؤس كله، ففي الريف يُزرع مئات آلاف الهكتارات من الأفيون، وكل عام يكون المحصول وفيرا ويصل إلى كميات قياسية.

تملأ التحذيرات الحكومية المكان، ولكن كلما توغلت في الريف تقلصت سلطة الدولة الأفغانية وتلاشت، فالأمر والنهي في هذه القفار إنما هو لحركة طالبان وكبار مهربي المخدرات. وما بين هذين تطل هكتارات من أزهار المحصول القاتل من براعمها، ولكن لماذا يزرع الفلاحون هذه النبتة المخدرة؟

سؤال يجيب عليه المُزارع فضل الرحمن: أرغب في زراعة محصول آخر لكن الحكومة لم تساعدنا في ذلك، ليس لدي خيار آخر.

ثم يلقي اللوم على سنين الحرب التي جعلت الخشخاش الدخل الوحيد للفلاحين الفقراء أمثاله.

لعدة عقود شهدت تلك المنطقة معارك طاحنة، حيث خاضت قوات حلف شمال الأطلسي حربا برية ضد حركة طالبان بين هذه المساكن، فدمرت الأسواق والمحاصيل وتركت الفلاحين لا يجدون ما يعيلون به أسرهم.

يقول فضل الرحمن: رحلت الجيوش وخلفت وراءها سلاما هشا، وهنا يعتبر الفلاحون زراعة الخشخاش فرصة لتدارك ما فاتهم من جني الأموال.

تدر زراعة الخشخاش عشرة أضعاف ما قد يكسبه المزارع من أي محاصيل أخرى، ما يمكنهم من تجنب الوقوع في الدين، وإعالة أسرهم، لكن الخوف الذي يؤرقهم هو لجوء السلطات لاعتقالهم.

 

مكافحة.. ولكن

في قاعدة عسكرية على بعد عشرة كيلومترات من هذا المكان، كان نصر الله خان أحد قادة الشرطة المكلفين بمكافحة المخدرات، يقود تشكيلة من رجاله المكلفين بمحاربة زراعة الخشخاش، ويقول إنه على معرفة بخطورة مافيات المخدرات، لكن الواجب يحتم عليه محاربتها بكل ما أوتي من قوة.

يروي خان كيف تعرض رجال الشرطة لإطلاق النار مرة أثناء مداهمة سابقة لحقول الخشخاش، وقُتل منهم يومها 15 رجلا، “كان الرصاص يتطاير حولنا ولم يتوقف أزيزه”.

انتشر رجال خان حول المكان وقامت سيارات مدججة بالسلاح تطوف المكان للمراقبة، وخلال المداهمات المتتالية، تمكنت الشرطة من تدمير 9 هكتارات من أصل 5 آلاف.

تعتقد الشرطة أن اللوم لا يقع على الفلاحين، لكن المجرمين الحقيقين هم عصابات المخدرات، الذين يجنون ملايين الدولارات، بينما يبقى الفلاحون مدينين لهم، يرزحون تحت وطأة الفقر.

يعترف خان بأن المكاسب كبيرة وأن الشرطة بإمكانها إيقاف تجار المخدرات، لكنها تحتاج إلى الدعم من الحكومة وتوفير الرجال والأجهزة.

في مخفر الشرطة، كشف خان في غرفة الأدلة عما يقرب من طن من الأفيون حُجز من مرات سابقة، ومن ضمن المضبوطات، هيروين جهزه المهربون بحيث يستطيعون ابتلاعه على شكل كبسولات كبيرة ثم العبور من خلال نقاط التفتيش إلى خارج البلاد.

وفي صندوق ذخيرة أميركية وُضعت مجموعة أخرى من المخدرات، تفنن المهربون في وضعها.

يقول أحد مساعدي خان: ملايين من الدولارات هنا، ولكنها نقطة من بحر ما كان يُصادر في السنوات الماضية.

 

حين يتورط الصغار وتهرب الرؤوس

يقول معد الفيلم: بعد شهور من الأخذ والرد، سُمح لنا بالدخول إلى إحدى المنشآت الحكومية السرية التي لم يسبق أن أُذِن لصحفي أن يدخلها، هنا تُحاكم مجموعة من كبار المهربين، قبض عليهم أثناء محاولتهم تهريب 37 كيلو غراما من الهروين، وتساوي قيمتها ملايين الدولارات.

وقد أنفقت كل من بريطانيا والولايات المتحدة مليارات الدولارات لإنشاء المحكمة الأفغانية الخاصة بقضايا المخدرات، والتي يُختار لها القضاة والمدّعون العامّون بعناية فائقة، وعادة ما يتم تدريبهم من قبل الأجانب خوفا من وقوعهم تحت سطوة الترهيب من قِبل تجار المخدرات.

تقول المدعية العامة نجلاء تيموري: هذا أبعد ما يكون عن الواقع، إننا نتعرض كل يوم لكثير من المخاطر، لقد اقتُحم بيتي من قبل مجموعة يعملون لحساب كبار مهربي المخدرات، وكان عليّ حينها التنقل من بيت لآخر للإفلات منهم.

تقضي المحكمة على أكثر من ألف مهرب سنويا، لكن كبار المهربين من النادر الوصول إليهم.

تقول نجلاء: شتان بين الحكومة وقوة المهربين، إنهم يستغلون الفقراء للقيام بالأعمال الخفية، أولئك هم الذين يُلقى عليهم القبض، أما الرؤوس الكبيرة فهي في مأمن.

 

ادفع تنل الحرية.. البوصلة التائهة

في عام 2014 أوقفت السلطات الأفغانية صيدا ثمينا، فقد تم القبض على “لال جان” وهو مهرب سابق يسيطر على القسم الأكبر في جنوب البلاد، وقد أثبتت المحكمة عليه الجرم، وحُكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما، لكن العارفين ببواطن الأمور يقولون إنه تمكن من شراء ثمن هروبه، إذ كشف تحقيق داخلي أن أناسا يعملون لحساب المهربين دفعوا ما تصل قيمته إلى 16 مليون دولار لمسؤولين في منظومة القضاء الأفغانية، وبذلك تمكن “لال جان” من الفرار واختفى حتى يومنا هذا.

يسأل المعد “ستيف تشاو”: تكثرون من الحديث عن قضاة أطهار اليد ومحاكم نزيهة، لكن حال “لال جان” وأمثاله تطفو على السطح، ما الذي يحدث؟

يجيب الوزير الأفغاني “هارون شرزاد” المكلف بملف المخدرات: إن سوسة الفساد تنخر في منظومة القضاء الأفغانية، مما يضر كثيرا بسمعة أفغانستان وبمستقبل التمويل والدعم الدولي لوزارته.

وعندما سأله عن سرعة الانتشار الصاروخي لإنتاج المخدرات؛ ألقى باللوم على المجموعة الدولية التي غضت الطرف طويلا عن المشكلة. “كان جل جهدهم مُنصبًّا على مكافحة الإرهاب والمشاريع التنموية، أما مكافحة المخدرات فكانت هدفا معزولا وثانويا وليس له وجود على سلم الأولويات، وها هم اليوم قد فتحوا أعينهم ليجدوا أن صناعة الأفيون هي التي تمول الإرهاب”.

يقول الوزير الأفغاني: أُنفقت مليارات قليلة على مكافحة المخدرات، لكن أنفقت مئات المليارات على مكافحة الإرهاب، وكثيرا ما منع القادة العسكريين جنودهم من تدمير حقول الخشخاش، خوفا من استعداء سكان المناطق الريفية.

 

عالم المخدرات السفلي.. ولا ينبئك مثل خبير

في سبتمبر/أيلول 2014 أصبح لأفغانستان رئيس جديد هو “أشرف غاني” الذي عُلقت عليه الآمال العريضة بأن يكون استئصال المخدرات جزءا من أولويات حكومته حين يتلو خطاب التنصيب، لكن ذلك لم يحدث وخابت توقعاتهم.

رتب معدوا الفيلم لقاء مع أحد المهربين الكبار بعد شهور من التواصل مع عالم الجريمة السفلي، ووافق على أن يطلعهم على واحدة من عملياته.

يقول فريق عمل الفيلم: طلب منا التخفي في أماكن كانت تسيطر عليها حركة طالبان، كان علينا أن نتخفى، وكان قلقا جدا خوفا من أن تقبض علينا طالبان. اجتزنا الحقول واقتربنا من مجمع سكني، كان يوجد به مخبأ، عندما دخلنا وجدنا مساعد المهرب ينقل المخدرات، من الواضح أنه يملك الكثير من الأفيون.

سأله فريق عمل الفيلم: كم تكسب من التهريب؟

المهرب: يمكن لعصابة أن تكسب 600 ألف دولار سنويا، وهذا يعتمد على مزاج السوق.

فريق الفيلم: هل تتوقع أن الحكومة ستتمكن من وقف المخدرات يوما ما؟

المهرب: كلا بالطبع لن يفلحوا، لقد ذقنا طعم الدرهم والدينار ولن نفرط في ذلك أبدا، نعم إنهم يحاولون ويشنون الغارات، ولكننا نملك الكثير من المخابئ والمختبرات، بالإضافة إلى أن الحدود مفتوحة، لذلك لن ينجحوا في وقف تدفق المخدرات.

ويقول: المهربون يسلكون طرقا عدة في نقل البضاعة خارج أفغانستان إلى دول مجاورة، ومن ثم إلى أوروبا وآسيا، وبشكل متزايد إلى أميركا.

ثم يضيف: إنهم مسلحون ولكن رجال طالبان في المنطقة هم من يحمون التهريب، لا تقرب أيدي طالبان المخدرات، لكنهم يحمون حقول الخشخاش، ويأخذون ضريبة 10%، وإذا جاءت الشرطة يتصدون لهم.

بدأ المهرب يشعر بالقلق من وجود طالبان على مقربة من المكان بسبب وجودنا، فالمنطقة تحت سيطرة طالبان. خرج مسرعا كالسهم وطلب من فريق عمل الفيلم الرحيل أيضا، وخبأ جزءا من البضاعة في الخارج، ثم غادر هو ومساعده.

 

موسم الحصاد.. علاج البطالة بالأفيون

بعد مرور عدة أسابيع أزهرت نباتات الخشخاش في قندهار، وحان وقت القطاف فتقاطرت الأيدي العاملة من أنحاء البلاد كافة.

تقدر الأمم المتحدة أن الوظائف التي يوفرها العمل بجني الخشخاش تبلغ 400 ألف وظيفة، في بلد موبوء بالبطالة، ويتم جمع 6 أطنان من الأفيون خلال خمسة أسابيع على الأكثر على مرأى ومسمع قاعدة عسكرية أفغانية.

نجت حقول فضل الرحمن وبدا الحصاد وفيرا بأزهار وردية تحمل السم داخلها، تفصلنا عشرة أيام عن نضج الدرنات الصغيرة، والأخرى ستقطف خلال خمسة أيام، ستكون غلة استثنائية.

أتاح لنا فضل الرحمن الاطلاع على سر مهم؛ جاءت الشرطة ودمروا بعض الحقول، ولكنهم لم يأتوا بعد ذلك لأنهم دفعوا لهم مئات الدولارات عن كل هكتار. تلك القصة نسمعها كثيرا من الفلاحين الأفغان لكنها ظلت محل شبهة فترة من الزمن.

موزعو المخدرات وأرباب التهريب وطالبان ليسوا الأطراف المستفيدة فقط من تجارة المخدرات، بل معهم مسؤولون حكوميون، ففي بلد ينخره الفساد مثل أفغانستان لا يسعنا أن نسأل عن القدرة بل عن الإرادة في كبح جماح تجارة السم القاتل.