قصة التلسكوب.. عدسة الزجاج التي حملت الإنسان إلى السماء

نحن اليوم أمام ثورة جديدة  تتمثل في تشييد تلسكوبات ضخمة حول العالم، ويأمل العلماء من ورائها إلى الإجابة عن عدد من أقدم الأسئلة التي طرحها البشر وأكثرها عمقا، وهي: ما حجم الكون، وهل نحن وحدنا، وهل تعيش النجوم للأبد؟

وقد بثت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما شيقا تحت عنوان “التلسكوب”، ويحمل في طياته محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، ضمن سلسلة حلقات “أفكار غيّرت العالم”.

مراصد البرتغال.. محاولات لاكتشاف السماء قبل ستة آلاف عام

يعيش علم الفلك اليوم أزهى عصوره، وهو يساعدنا على فهم صورة الكون. الأمر لم نكن لنتصوره قبل 100 عام فقط، حيث ينتشر حول العالم جيل جديد من التلسكوبات التي تساعدنا على الغوص في أعماق الكون، هذه المعجزات التكنولوجية المصنوعة من الزجاج والفولاذ هي علامة فارقة في عصرنا، ولكن أصل التلسكوب أغرب بكثير مما تتصورون.

كانت البداية بكومة من الحجارة في جنوب أوروبا، فقبل ستة آلاف عام بنى الإنسان هياكل حجرية في البرتغال، ولكن ما الذي دعا القدماء للاهتمام بالنجوم؟ لقد كانوا يمارسون الصيد والرعي، ويعتمدون على الأرض في معيشتهم، ويصعدون إلى الجبال في الصيف، وكان النظر إلى النجوم أحسن وسيلة لتدلهم على الوقت المناسب لصعود الجبال. ولكن كيف ساعدتهم هذه الهياكل على ذلك؟

في الليالي المظلمة يرى الإنسان بعينه المجردة خمسة آلاف نجمة، ولكن باستخدام تكنولوجيا الصخور هذه كان بإمكانه رؤية الكثير، وتسمى كومة الحجارة بالمناظير، وقد بذل القدماء جهدا كبيرا في قطع هذه الصخور ونقلها من مكانها، ومن الواضح أن المشروع كان يستحق كل هذا العناء.

رصد القدماء السماء بطرقهم البدائية لكنهم فهموا كيف تتحرك الشمس صيفا وشتاء فصنعوا مراصدهم الحجرية

في ذلك الوادي في البرتغال كان هنالك أكثر من عشرين مرصدا، وكلها تتجه إلى الشرق، ويُعتقد أنهم كانوا يستخدمون هذه التجاويف الصخرية المعتمة حتى يُعوِّدوا عيونهم على الظلام، وذلك من أجل رؤية النجوم الخافتة.

وقد استخدم العلماء برمجية خاصة لإعادة اكتشاف خريطة السماء كما كان يراها القدماء من داخل هذه الهياكل الصخرية قبل ستة آلاف عام.

منازل الشمس.. تفتيش السماء بحثا عن الدبران

مع دوران الأرض حول الشمس على مدار العام، يظهر لنا أن الشمس تمر عبر أجزاء مختلفة من السماء، وفي فصل الربيع يظهر نجم الدبران قريبا من الشمس عند شروقها، وهذا هو أفضل أوقات السنة للانتقال إلى المراعي الجبلية، المشكلة أن وهج الشمس يحجب الدبران فلا يظهر عند الشروق، فكانوا يتجاوزون هذه المشكلة عن طريق تلك الدهاليز المظلمة والشقوق الضيقة التي تسمح لهم برؤية أجزاء مختارة من السماء، واستكشاف النجوم التي بها.

تُخلِّد هذه الهياكل اللحظة التاريخية التي عرف فيها الإنسان أن هذه الأجرام تتحرك بوتيرة ثابتة على مدار فترات زمنية محددة، وتدل الاكتشافات على أن هذه الهياكل المتجهة إلى السماء موجودة في مناطق مختلفة من العالم، مما يعني أن الإنسان منذ الزمن القديم كان يحدق في السماء حتى يعرف مكانه وحجمه في هذا الكون الفسيح.

ثم جاء الزجاج -ومنشؤه الأرض نفسها- ليكون مادة أساسية يصنع منها التلسكوب الذي سيكتشف به الفضاء، ففي قرية ريفا والبداري وسط مصر كان المصريون يجمعون قبل خمسة آلاف عام بلورات الكريستال، ولم يطل بهم الوقت ليكتشفوا أن هذه البلورات تقوم بتشتيت الضوء، وهو الأمر ذاته الذي اكتشف في مناطق أخرى على الكوكب.

تتحرك الشمس بين نجوم السماء على مدار سنة كاملة في منازل تبقى الشمس في كل منها 13 يوما

ربما كان الناس يستخدمونها كمجوهرات للزينة، لكن المشترك في هذه البلورات هو قدرتها على التحكم بالضوء، وبقيت هذه الخصائص لغزا محيرا للبشر، حتى جاء ذلك الشخص المتميز ليحل شيفرة هذا اللغز، وفي مكان من العالم غير اعتيادي أيضا؛ كانت بغداد (المدينة المدورة) في القرن التاسع منارة العلم ومنبع الثقافة والفهم، وكان شكلها الدائري المنتظم يوحي بأن أهلها يحبون الرياضيات والهندسة.

بيت الحكمة.. ثورة ابن الهيثم التي قلبت علم البصريات

كانت بغداد في القرن التاسع تحاكي فلورنسا في عصر النهضة، أو وادي السليكون في عصر الإنترنت، وكان بيت الحكمة الأسطوري مكتبة عظيمة ودارا لترجمة العلوم والمعارف من اليونان والفرس والهند، وهناك ظهر الحسن بن الهيثم الذي كان واحدا من أهم علماء القرون الوسطى، وكان له الفضل في تغيير النظرية اليونانية السائدة في الإبصار، حيث كانوا يعتقدون أن العين تصدر الضوء على الأشياء لتراها.

أجرى ابن الهيثم تجربة عبقرية، تتمثل في السماح للضوء بالمرور عبر فتحة ضيقة جدا، فظهرت على الحائط المقابل صورة شاحبة مقلوبة للشارع الخارجي، وكانت هذه التجربة هي الأساس لما يعرف اليوم بالكاميرا ذات الثقب، وأثبت بهذه التجربة أن الضوء يمشي بخطوط مستقيمة، وهي الجملة التي طارت في الآفاق، وأن الإبصار يحدث نتيجة انعكاس الضوء من الأجسام المرئية، ودخوله إلى العين.

بغداد المدينة المدورة.. حاضنة العلم والعلماء في العصر العباسي الذي ساهم في تغيير وجه الحضارة حتى يومنا هذا

كان ابن الهيثم أهم علماء الفيزياء في عصره، وكتابه “المناظر” -الذي ألفه قبل ألف عام- رصد تفسيرات كثيرة لسلوك الضوء، ويُشكِّل وصفه الدقيق لصفات الضوء ثورة أدت لاكتشاف الكون بأكمله. وقد ساهم اكتشاف ابن الهيثم في كيفية التحكم بالضوء من خلال البلورات الطبيعية التي كانت هي الخطوة الأولى لتقريب النجوم إلينا.

الكريستال النقي.. سحر الزجاج الذي كشف ما وراء الوراء

كانت البندقية مركز صناعة الزجاج في العالم خلال القرن الـ13، وكانت جزيرة مورانو الصغيرة مركز الاكتشافات، وكان جلّ همّ عمال مصانع الزجاج هو الحصول على المواد الأولية لصناعة الزجاج، ولكون البندقية تقع على طريق التجارة بين الشرق والغرب فقد ساعدها ذلك على الحصول على المواد الأساسية لصناعة الزجاج وهي أكسيد السيليكون، وأملاح الصوديوم والكالسيوم.

كانت البلورات المكتشفة تحتوي على الكثير من الشوائب، وكان لا بد من العثور على مادة تجعلها أكثر نقاء، وقد وجد العلماء ضالتهم في نبتة تدعى “سامفير” أو عشبة الزجاج، وهي تحوي أملاحا نباتية بدلا من الأملاح الصخرية، وعند حرق هذه النبتة نحصل على مادة نقية جدا تضاف إلى السيليكا لتنقية الزجاج.

الزجاج النقي أو ما يعرف بالكريستال مر عبر عهود من التطوير قبل أن يصبح بهذه النقاوة

ومن وظائف هذه المادة تخفيض درجة انصهار الزجاج، وجعل الشوائب تطفو على السطح، ثم الحصول على سائل كريستالي عالي النقاء، وقد كان لتنقية الزجاج أثر اقتصادي وحضاري كبير أمكن من خلاله تغيير رؤيتنا عن العالم والكون، ففي العام 1352 استخدم رهبان كاتدرائية القديس “نيكولو” النظّارة المكبِّرة للقراءة.

وهكذا صار بإمكان كبار السن مطالعة المخطوطات دون الحاجة إلى مساعدة الفتيان، واستطاعوا مواصلة القراءة والأعمال الدقيقة الأخرى دون انقطاع، ولم يذكر أحد على وجه التحديد من الذي صنع عدسات النظارة للمرة الأولى، ولكن الأكيد أن هذه العدسات قادت إلى صناعة الأجهزة التكنولوجية المتطورة لرصد الكون ومراقبة النجوم والمجرات.

“هانز ليبرشيه”.. هدية إلى البحرية الهولندية

بعد اختراع النظارة احتاج العالم 300 سنة أخرى لصناعة أداة بصرية أخرى كان لها الأثر الحاسم في حسم معارك بحرية هامة، ففي العام ١٦٠٨ بمدينة مدلبرغ الهولندية بينما كان الشاب “هانز لبرشيه” يصنع عدسات النظارات في معمله كالمعتاد تصادف دخول فتاتين إلى متجره، وبينما كانتا تلهوان بعدستين إحداهما محدبة والأخرى مقعرة شاهد “ليبرشيه” شيئا عجيبا.

غاليليو غاليلي سن سنة حسنة بصنعه أول تلسكوب،، فأصبح الفضاء مليئا بأشكال مختلفة منه في يومنا الحاضر

صدف أن كانت الفتاتان تحملان العدستين على خط مستقيم مع منظرِ مؤشرِ اتجاه الرياح في الخارج، وأمكن لصاحب المتجر أن يرى المؤشر بشكل أوضح وأقرب، ثم وضع العدستين في أنبوب أسطواني، وصار يعمل على تعديل المسافة بينهما، ولشدة ذهوله كان يستطيع أن يرى الأشياء البعيدة بوضوح، وطرأت له فكرة ان يهدي اختراعه للقوات الهولندية التي تحارب الإسبان في البحر.

كان يأمل أن ينال براءة اختراع من الحكومة الهولندية، ولكنه فشل في ذلك، وكان لفشله هذا أكبر الأثر في ذيوع صيته وانتشار اختراعه في العالم، ثم وصل اسمه إلى شخص نعرفه جميعا، وقد ارتبط اسمه بالتلسكوب، إنه مدرس الرياضيات في مدينة البندقية “غاليليو غاليلي” الذي صنع تلسكوبه الخاص، بعد أن قام بدراسة أبعاد العدسات والمسافة بينهما.

“غاليليو”.. توجيه التلسكوب الأول إلى القمر

صنع “غاليليو” نسخة أسماها “تلسكوب العرض”، وتعتبر من أعظم كنوز الفلك على الإطلاق، وتنقلت بين المتاحف الإيطالية حتى وصلت في العام 2009 إلى معهد فرانكلين في فيلادلفيا. لقد غيّرت هذه الآلة العجيبة فهمنا للكون، ومكانتنا فيه، وبهذا يكون “غاليليو” قد جمع في هذه الآلة بين علم الحسن بن الهيثم واختراع “ليبرشيه”، وتمكن من تحسين الرؤية والتكبير إلى عشرة أضعاف.

لكن اسم “غاليليو” حلّق عاليا في سماء العلم عندما وجّه تلسكوبه إلى القمر الذي هو أكبر الأجرام السماوية المشاهَدة ليلا، وقد كان الأمر مدهشا وسجّل ملاحظات مذهلة عن القمر، وصار يرسم الأخاديد والمرتفعات على سطح القمر كما يراها من خلال تلسكوبه، واكتشفنا بعد ذلك التاريخ أن عدد النجوم أكبر بكثير مما كنا نظن، واستطعنا رؤية أقمار المشتري وحلقات زحل، إلى أقصى أطراف مجرتنا درب التبانة.

رسم غاليلو سطح القمر كما رآه أول مرة من وراء عدسة تلسكوبه الذي كان يكبر الصورة تسع مرات

انتشرت التلسكوبات في أنحاء العالم، وصارت عدساتها أكبر، واستخدم “نيوتن” المرايا العملاقة لجمع المزيد من الضوء، وكانت نقطة ضعف التلسكوب في اضطرارنا لرسم ما نراه يدويا. ولكن الطفرة القادمة جاءت من باريس بعد 200 سنة من اختراع التلسكوب، جاءت لتمكننا من تسجيل ما نراه بطريقة أكثر دقة واحترافية. وكالعادة بالصدفة، عندما انكسرت قارورة زئبق.

أبخرة الزئبق.. صورة واضحة لرجل يلمع حذاءه في باريس

في بدايات القرن التاسع عشر كان التصوير الفوتوغرافي صعب المنال، وكان يزاوله الرواد المخلصون في هذه الصنعة، وكان يتطلب صقل صفيحة من الفضة لوقت طويل حتى تبدو ناعمة جداً، ثم معالجتها بأملاح اليود لتصبح حساسة للضوء، ثم تأتي الخطوة الأصعب، وهي بقاء الجسم المراد تصويره مدة ثماني ساعات بلا حراك، حتى يجمع الضوء اللازم لإخراج صورة باهتة على سطح الفضة.

إلا أن “لويس داغير” استمر في المحاولات لتقليل وقت التصوير، وإنتاج صور بنوعية أفضل، وتأتي الأعجوبة صدفة كالعادة، فقد أراد “داغير” تخزين صفيحة فضية في خزانته لاستخدامها في وقت آخر، وعندما أخرجها بعد أيام وجد عليها صورةً بوضوحٍ عالٍ لم يعهده من قبل، وفي حيزٍ معتم كهذا، ولكنه وجد في الخزانة قارورة زئبق مكسورة، فهل ساهمت أبخرة الزئبق في تحسين الصورة وتقليل الضوء؟

أدى التصوير الفوتوغرافي للنجوم والمجرات إلى زيادة هائلة في التعرف على مكونات الكون

أجرى “داغير” تجربة لالتقاط صورة لأحد شوارع باريس من نافذة معمله، وقام بتعريض فيلم الفضة لمدة عشر دقائق فقط، ثم قام بتحميضها في أبخرة الزئبق، وكم كانت دهشته وسعادته لوضوح ودقة الصورة الناتجة، كيف لا، وهي تحوي صورة إنسان يلمع حذاءه على ناصية الطريق. لقد دخل هذا الرجل التاريخ من أوسع أبوابه، إلا أن كثيرا من المارة لم يحظوا بنفس الفرصة لأنهم كانوا يتحركون.

بوجود التلسكوب والكاميرا ذات الصورة الجيدة، أصبح بإمكاننا الحصول على صورٍ ذات دقة عالية للأجرام السماوية، بدلا من رسومات “غاليليو” اليدوية.

ثم جاءت الخطوة اللاحقة، فكيف نعرف ما مدى قرب هذه الأجرام والنجوم منا؟ أصبح تحديد المسافة بيننا وبين النجم ضرورة من أجل تكوين صورة أشمل عن الكون المحيط، وبهذا سيقفز الفلك قفزة أخرى واسعة في فضاء العلم الرحيب.

مرصد هارفارد.. هدية حقل العقارات إلى علم الفلك

يعتبر عالم التصوير مدينا لمجال العقارات الذي دفعه دفعة قوية إلى الأمام في لحظة مفصلية من تاريخ التصوير، ولكن كيف أثرت الطفرة العقارية في نيويورك على علم الفلك؟

أقدم “كورتلاند بالمر” على ضخ أمواله في سوق العقارات في نيويورك، وعنما توفي عام 1874 ترك لورثته ثروة هائلة تقدر بملايين الدولارات، وكانت ابنته “ماري” متزوجة من مصور فوتوغرافي وتعشق التصوير بشغف، ولذا فقد قدمت منحة مالية كبيرة لدعم البحث العلمي والتصوير الفلكي لجامعة هارفارد.

النجوم المتغيرة كانت مقياس الرسم الذي استعمله الفلكيون لمعرفة أبعاد النجوم والمجرات

كان مرصد هارفارد مهتما بالتقاط آلاف الصور للنجوم والأقمار من مختلف مناطق العالم، وكانت له تلسكوبات في شمال وجنوب الكرة الأرضية. ومن أجل تكوين صورة شاملة ودقيقة عن الفضاء قام المعهد بتوظيف مئات النساء، ووظيفتهن هي فرز وإعادة ترتيب الصور ودراستها، الغريب في الخطوة أن النساء في ذلك الوقت لم يكن لهن اهتمام بالعلوم.

انشغلت النساء بدراسة الصور، وكنّ يُعرفن بالحاسبات البشرية، كانت وظيفة بعضهن قياس شدة لمعان النجوم، واستخدمن لذلك أدوات بسيطة مكونة من صفائح زجاجية صغيرة سمّيت بهشّاشات الذباب، وذلك لصغرها بحيث أنها لم تكن لتلحق ضررا بذبابة، وكانت تظهر عليها نقاط بأحجام مختلفة وأرقام، وبمطابقة صورة النجم على النقطة المناسبة له على الزجاجة كان يمكن أن نعرف شدة لمعانه.

قانون “ليفيت”.. علاقة بريق النجوم بعدد نبضاتها

رغم كل التقدم الذي أحرزه مرصد هارفارد كانت تنقصنا معلومة أخرى، وهي المسافة بيننا وبين النجم، وهي عامل مهم في قياس شدة البريق، وقد تمكنت السيدة “ليفيت” من إرساء قواعد جديدة في علم الفلك عرفت فيما بعد باسم “قانون ليفيت”، فقد لاحظت هذه السيدة أن النجوم تشع وتخفت بين حين وآخر، وبعضها تقل شدة بريقه مع الوقت، وقد تركت لنا هذه السيدة ملاحظات كثيفة ودقيقة على سجلات النجوم التي قامت بدراستها.

هذه الملاحظات ترصد العلاقة بين شدة البريق وعدد النبضات، فالنجوم الأكثر بريقا لها نبضات أقل، والأكثر خفوتا لها نبضات أكبر، وهكذا صار لعلماء الفلك معيار يقيسون به اللمعان ومسافات النجوم، وبدا لهم أن الكون واسع وممتد حولنا، وبحلول سنة 1920 تمكن العلماء من رسم خريطة شبه كاملة للكون المرئي حولنا، ولكنْ هل كان هذا كل شيء؟

“لافيت” فلكية مخضرمة وضعت قانونا باسمها تعرفت من خلاله على أبعاد النجوم

ظهرت فيما بعد على الألواح الفوتوغرافية سلسلة من المجموعات السحابية، وذلك عند أقصى ما يمكن للتلسكوبات أن تسجله، وأثارت تساؤلات العلماء فيما سميّ بالسؤال العظيم: هل كانت التجمعات مجرد غازات وغبار أم أنها مجرات أخرى؟ للإجابة على هذا السؤال شيد تلسكوب “هوكر” العظيم على جبل ويلسون قرب لوس أنجلوس، وصار يلتقط صورا للسديم المكتشف حديثا.

ولكن صورة واحدة لا تكفي، بل تطلب الأمر التقاط عدد كبير من الصور في عدة ليالٍ متتالية، وقد تصدى لهذه المهمة الشاقة فلكي شاب يدعى “إدوين هابل”، كان إصراره على دقة الإنجاز وسهره المتواصل وبنيته الرياضية القوية عوامل هامة لإنجاز عملية رصد كانت شبه مستحيلة في ذلك الزمن، في ظل وجود تلسكوب كبير، بحاجة إلى قوة بدنية هائلة ودقة متناهية لتحريكه وضبطه.

تلسكوب هابل.. إثبات نظرية الانفجار العظيم

كان الكون يزداد حجما مع كل صورة يلتقطها الشاب الفلكي “إدوين هابل” ، وتأكد له فيما بعد أن هذا السديم لم يكن سوى مجرة هائلة من النجوم، اسمها “أندروميدا” أو مجرة الصوفي تيمنا بعبد الرحمن الصوفي الذي كان أول من وصفها في التاريخ، وكانت على بعد هائل جدا من مجرتنا، ومع استمرار “هابل” في الاكتشافات المذهلة، بدا له أن كل مجرة جديدة يكتشفها تجري مبتعدة عنا بسرعة هائلة، وبذا فإن نظرية الكون الساكن لم يعد لها وجود، وحلّت نظرية الكون الممتد المتسع بدلا منها.

ولو أمكن إرجاع ساعة الكون إلى الوراء، لتبيّن لنا أن الكون بدأ من نقطة واحدة ذات كثافة هائلة، فيما سميّ بالانفجار العظيم (Big Bang)، وقد شكلت هذه النظرية الجديدة قفزة هائلة في مجال معرفة الكون، لكن التصوير من الأرض خلق مشكلة أخرى تتمثل في هذا الغلاف الجوي حول الأرض، إذ يعتبر عائقا أمام الحصول على صور أكثر دقة للكون الخارجي.

الفلكي إدوين هابل يرصد بتلسكوب جبل ويلسون الذي اكتشف تمدد الكون

كانت الخطوة القادمة هي التحرر من الغلاف الأرضي، وجاءت في 1990 عندما أطلق أول تلسكوب فضائي خارج غلاف الأرض، وحمل اسم الرجل الذي كان مصدر الإلهام، “تلسكوب هابل الفضائي”، واستطاع أن ينفذ أطول عمليات رصد في تاريخ التصوير الفلكي، وفي العام 1995 تمكن تلسكوب هابل من تصوير آلاف المجرات في بقعة سماوية كانت تبدو مثل حبة الرمل الخالية.

اكتشاف الكون الفسيح.. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

بتكرار التجربة أمكن اكتشاف ملايين المجرات، تحتوي كلٌ منها على مليارات النجوم، كل واحدةٍ مثل شمسنا أو أكبر، الأمر الذي يشعرنا بضآلتنا المتناهية أمام هذا الكون العظيم، ولكنه يشعرنا أيضاً بقيمتنا في هذا الكون، وكيف يسَّر الله لنا أن نكتشف عظمته سبحانه في هذا الكون الفسيح.

في عام 1994 صور تلسكوب هابل الفضائي منطقة فارغة من السماء لفترة تعريض طويلة، فكانت النتيجة ألوف المجرات

ثم تأتي القفزة الأخرى بإطلاق تلسكوب “جيمس ويب” (متوقع أن يطلق في 2021) ليكتب لنا فصول بدء الخلْق، ولنبدأ قصة جديدة حول مكان الإنسان على ناصية في طرف الكون، ولنستذكر آيات القرآن العظيم التي أعطت إشارات حول هذه الكشوفات الهائلة “أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما”، وقوله سبحانه “والشمس تجري لمستقرٍ لها”، إلى عدد كبير من الآيات التي تحكي إعجاز الله العظيم.