سجن “ألكاتراز”.. أسطورة الصخرة التي انكسرت عليها أحلام الحرية

بلال المازني

تذكرة تصل قيمتها إلى 98 دولارا هي ثمن رحلة كاملة إلى الصخرة التي آوت أعتى السجون والوجهة الأكثر رعبا التي تكسّر على جدرانها جبروت الخارجين عن القانون طيلة أكثر من نصف قرن. إنه سجن “ألكاتراز” المتربع على صخرة في حوض مدينة سان فرانسيسكو الصاخبة. من كان يتخيل اليوم أنه بعد أن كلّفت محاولات الفرار من السجن الأسطورة أرواح الكثير من السجناء، سيدفع ملايين الأشخاص ثمنا بخسا مقابل الدخول إليه؟

كانت الصخرة التي شُيّد فوقها السجن المعروف أيضا بسجن الصخرة، مسكنا لطائر “الأطيش” البحري الذي يطلق عليه إسم “ألكاتراز” بالإسبانية، ثم حملت الجزيرة الصغيرة اسم ذلك الطائر. بدأ سجن “ألكاتراز” كسجن حربي بين (1859-1933) ثم أصبح تحت سلطة مصلحة السجون الأميركية إلى غاية إغلاقه في 1963.

 

في منتصف القرن التاسع عشر، اقتنت الولايات المتحدة الأمريكية جزيرة “ألكاتراز” من المكسيك التي كانت تمتلك تلك الصخرة، وشيّدت منارة ومبيتا للجنود الأمريكيين بين 1850 و1909، كما آوت الجزيرة الصغيرة سجنا عسكريا بين 1909 و1933، ليتحول هذا السجن سنة 1934 إلى سجن مدني وينتقل إلى سلطة وزارة العدل، فكانت تلك الصخرة المحاطة بتيارات مائية متقلبة وخطرة مكانا مناسبا لتكون سجنا فيدراليا يتكسّر على جدرانه جموح مجرمين سيئي الحظ.

التفاح المتعفن.. اللعنة التي صنعت الأسطورة

قد تكون لعنة الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية قد حلت على صخرة “ألكاتراز”، بعد أن كانت ملجأ لهم هربا من المبشرين الإسبان في القرن الثامن عشر، لتصبح في العام 1846، مُلكا لـ”جوليان ووركمان” صديق الحاكم المكسيكي آنذاك “بيو بيكو”، وتنتقل ملكيتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1850.

تحوّل سجن “ألكاتراز” إلى أسطورة وأصبح ملهما للسينما الأمريكية لسببين؛ الأول أنه كان من أكثر السجون حماية على الإطلاق، وثانيها بسبب وجود مساجين ذاع صيتهم في تلك الفترة وبقيت أسماؤهم خالدة إلى الآن حيث ألهمت السنيما أفلاما كثيرة.

يقول الممثل الأمريكي “باتريك ماكغوهان” في فيلم “الهروب من ألكاتراز” للمخرج “دون سيغل”: إن سجن ألكتاراز أو سجن الصخرة هو سلة جمعت كل حبات التفاح المتعفنة.

سجن “ألكاتراز” الأمريكي سيء السمعة يتحول إلى متحف يؤمه السواح

 

في العام 1868، أصبح سجن “ألكاتراز” سجنا عسكريا، وبدأت ملامحه التأديبية تتشكل حين استقبل 19 هنديا أمريكيا انتفضوا ضد سياسة الاستيعاب الثقافي التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة. كانت الجزيرة مكانا مناسبا للسجن المحصّن طبيعيا بسبب ارتفاع مكان وجوده والتيارات العنيفة والمياه الباردة التي تحيط به مما يجعل السجن مكانا يستحيل الهرب منه.

في العام 1909، بدأ السجناء العسكريون بتشييد مبنى كبير من الخرسانة مكون من 600 زنزانة، واستغرق بناؤه ثلاث سنوات قبل أن يصبح مبنى يحمل اسم “الصخرة”.

عذراء نورمبرغ.. “جزيرة شيطان العم سام”

تعززت صورة السجن الذي بدا أنه يؤوي لا أخطر المجرمين وأعنفهم فحسب، بل كان ملاذ السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية لتأديب المعارضين لسياساتها مثل سياسة التجنيد التي رفضها الأناركي “فيليب غروسر”، فأودع سجن “ألكاتراز” بسبب موقفه المعارض للتجنيد خلال الحرب العالمية الأولى، وهناك بين جدران السجن دوّن تجربته في كتيّب بعنوان “جزيرة شيطان العم سام”.

أدباء في السجون

 كان إرسال “غروسر” إلى “ألكاتراز” أقصى عقوبة لجأ إليها الجيش الأمريكي ضده بعد أن تم تجنيده بالقوة، حيث كان يرفض الوقوف والقيام بالتحية العسكرية ورفض ارتداء البدلة العسكرية كما كان يرفض كسر الحجارة حين حكم عليه بالأشغال الشاقة، وأدى عصيانه للأوامر إلى فرض عقوبات خاصة ومتكررة عليه مثل السجن الانفرادي، وربطه بالسلاسل وحرمانه من الدخول إلى المرحاض.

بوستر فيلم الهروب من ألكاتراز بطولة “كلينت استوود”

 

ثم اتُّخذ قرار بإرساله إلى سجن “ألكاتراز” حيث تحدّث “غروسر” عن تقنية التعذيب الأسطورية التي ذاع صيتها في القرن الثامن عشر، وهي إدخاله في آلة التعذيب التي تسمى بـ”العانس الحديدية” أو “عذراء نورمبرغ” وهي آلة تعذيب في شكل خزانة بطول إنسان بها أذرع فولاذية حادة تنغرس في جسم الإنسان تدريجيا بعد إقفال الآلة.

يقول “غروسر” في كتابه: وُضعت أنا ومجموعة “سيمونس” المعارضة للدين في آلة “العذراء الحديدية” لمدة ثماني ساعات يوميا عوضا عن ستة عشر ساعة في زنزانات انفرادية مظلمة.

تعذيب وعزل وتغريب

وصف “فيليب غروسر” آلة التعذيب بأنها توابيت مشدودة في بوابات الزنزانات بقياس أقل عمقا من نصف متر، يوضع فيها السجناء واقفين. يقول في كتابه: لم أكن أبدا جنديا، لكنني رغم ذلك قضيت ثلاث سنوات من عمري في السجون العسكرية، رفضت الأوامر العسكرية داخل السجن، واتخذت الإدارة القرار بوضعي داخل حفرة لمدة أربعة عشر يوما، ولم يكن يقدم لي سوى بعض الخبز والماء، وقال لي أحد الحراس المشرفين على معاقبتي: لو أتى المسيح إلى الجزيرة ورفض العمل، كنت سأضعه في القبو وأبقيه هناك.

يصف “فيليب غروسر” ظروف سجنه في القبو بعد أن رفض الامتثال للأوامر داخل السجن قائلا: أردت استكشاف القبو أو الحفرة في الظلام ووقفت، لكن اصطدم رأسي بأعلى السقف وتيقنت أن علوه أقل من طولي، وحين قدم الحارس وأضيئت الزنزانة لم يكن هناك مكان لقضاء حاجتي، ولم أر سوى وعاء ماء وقِطَع خبز ودلو خشبي لقضاء حاجتي فيه، قال لي الحارس إنه سيتم إفراغه مرة كل أربع وعشرين ساعة.

صورة كتاب جزيرة شيطان العم سام للكابب فيليب غروسر

 

تعرض “فيليب غروسر” إلى أقسى أنواع التعذيب بصحبة معارضين للحرب وآخرين ينتمون إلى تنظيمات أخرى، حيث وضع في قائمة “الأرقام الصفراء” التي تضم السجناء من الدرجة الثالثة، وهو ما يعني عزله عن بقية المساجين.

حارس لكل 3 سجناء.. قصة الهروب الأشهر

ظلّ “غروسر” في السجن حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتحر سنة 1933، بسبب فقرة ظهره التي انكسرت، وكان قبل وفاته يصف نفسه بأنه “رجل لا قيمة له”؛ لأنه فشل في نشر قصة السجن المرعب، وفي السنة ذاتها أصبح سجن “ألكاتراز” سجنا مدنيا، وقررت الحكومة الفدرالية في العام 1934 جعل السجن نموذجا للسجون الأكثر تحصينا وحماية، فقد كان لكل ثلاثة سجناء حارس، مقابل حارس واحد لقرابة ثلاثين سجينا في السجون العادية، وهو ما يعني أن مستوى المراقبة عالٍ جدا، وأن من المستحيل القيام بشيء بعيدا عن أعين الحراس.

الزنزانة.. مخبر لتأديب السجناء

لم يكن السجن أسطورة بسبب صعوبة الهروب منه فحسب، بل لأنه كان مخبرا لتأديب أكثر السجناء تمرّدا، فكانت عملية كسر نفوسهم وسحق غرورهم تبدأ عند وصولهم، فيصبحون مجرّد أجساد تحمل أرقاما هي هويتهم الوحيدة داخل السجن.

رغم ذلك حاول 36 سجينا الهرب من السجن ضمن 14 محاولة، ولم يعرف مصير خمسة منهم، في حين لقي 8 سجناء مصرعهم، وأعدم سجينان بعد موت حارسين خلال محاولة فرارهم سنة 1946، أما أشهر عملية هروب فكانت سنة 1962 التي ألهمت السينما وصناع الأفلام.

صورة السجناء الهاربين، موريس فرانك لي و الأخوين أنجلين

 

أبطال السجن.. أبطال السينما

ألهم ثلاثة سجناء في سجن “ألكاتراز” السينما الأمريكية فكانت قصص حياتهم سببا في توسع شهرة السجن، وهؤلاء هم رجل العصابات المعروف “أل كابوني” و”فرانك موريس” الذي خطط لأخطر عملية هروب، ورجل الطيور الذكي “روبرت سترود” الذي صنعت سنوات السجن وحشا داخله لم يمنعه من حب الطيور والكتابة.

كان “ألفونس غابرييل كابوني” الملقب بـ”أل كابوني” رجل أعمال ذاع صيته بسبب أعماله المخالفة للقانون فترة حظر الكحول، حيث وسع نشاطه في تجارة الخمور التي مُنع بيعها، مستفيدا من علاقاته مع عمدة شيكاغو وشرطة المدينة “ويليام هيل تومبسون”.

وفي المقابل كان “أل كابوني” بمثابة “روبن هود”، فقد استفادت جمعيات خيرية من تبرعاته، رغم تزعمه “عصابة توريو”، وكان يغطي أعماله الإجرامية بالوقوف إلى جانب الفقراء، ففي عام 1931، وهو العام الذي حوكم فيه بتهمة التهرب الضريبي ونال عقوبة بالسجن مدتها إحدى عشرة سنة، افتتح مطعما خاصا بالعاطلين عن العمل، وكانت هذه الأعمال كافية لتجعل الجماهير في ملاعب الكرة تهتف باسمه عند دخوله الملعب، لكن ذلك لم يغفر له أمام السياسيين النافذين في شيكاغو بعد خسارة حليفه العمدة للانتخابات في العام ذاته الذي حوكم فيه “أل كابوني”.

إمبراطور الكازينوهات.. جنون السجون

كان “أل كابوني” إضافة إلى سطوته الإجرامية، يملك نفوذا سياسيا، حيث سعى إلى تأمين حملة الانتخابات البلدية في شيكاغو في العام 1927 وكسب تحالفا مع العمدة “تومبسون”، وقد سميت تلك الانتخابات التي أجريت في أبريل 1928 بانتخابات “قنبلة الأناناس” بعد أن قتل خلالها قرابة خمسة عشر شخصا من معارضي “تومبسون” على يد أحد رجال “أل كابوني”.

كان “أل كابوني” في العشرين من عمره إمبراطور الكازينوهات ودور البغاء وتجارة الخمور المحظورة وعاش رخاء جعله قبلة أنظار الإعلام في تلك الفترة، فقد كان بطل المعارك الدامية في شيكاغو خلال سنوات الحظر وكان تنافسه على السيطرة على المدينة مع عصابة الجانب الشمالي يخلف قتلى في وضح النهار.

أل كابوني.. بطل المعارك الدامية في شيكاغو

 

قضى “أل كابوني” 6 سنوات في سجن “ألكاتراز” بين العامين 1933 و1939، وضعُف نفوذه بعد خروجه من السجن بسبب مرضه الذي أثر على مداركه العقلية. كانت شخصية “أل كابوني” حاضرة في تسعة أفلام مثل فيلم “الستة السريون” الذي أنتج سنة 1931، للمخرج “جورج هيل” وفيلم “سكارفايس” للمخرج هاوورد هاوكس، سنة 1932، واستمد الفيلم عنوانه من كنية “أل كابوني” التي يكرهها، وفيلم “أل كابوني” للمخرج “ريتشارد ويلسون” سنة 1959 وفيلم “الممنوع لمسهم” للمخرج “براين دي بالما” سنة 1987 الذي أدى بطولته الممثل “روبرت دي نيرو” و”شين كونري” و”كيفن كوستنر”، وآخر الأفلام أنتج العام الماضي وهو فيلم “فونزو” للمخرج “جوش ترانك”.

السجين 1441.. إلهام الشاشة الكبيرة

بعد ذلك وفي نفس السجن، ألهم “فرانك موريس” أو السجين رقم 1441 مخيلة مخرجي أفلام الحركة ليقدموا أعمالا فنية تروي مغامرته الأسطورية. كان يمكن للسجين “فرانك موريس” أن يظل مجرد رقم لولا خطته العبقرية للهرب خارج أسوار السجن فور قدومه إليه في العام 1960، فقد وضع موريس خطة جهنمية للهروب، نفذّها بصحبة الشقيقين “أنجلين” في العام 1962، حيث قام السجناء الثلاثة بصناعة رؤوس بشرية مزيفة مصنوعة من الجبس وورق المراحيض وخصلات شعر سرقت من حلاق السجن، وكان هروبهم عن طريق فتحات التهوئة وصنعوا طوافات بواسطة معاطف مضادة للمياه سرقت من غرفة الملابس.

 

لم يعرف مصير الهاربين الثلاثة طيلة خمسين سنة، وكانت الرواية الرسمية تقول إنهم فقدوا في أعماق المحيط الأطلسي، رغم وجود قرائن على نجاتهم وظهور رسالة وجهت إلى قناة سي بي أس الأمريكية سنة 2013، حملت إسم “جون أنجلين” اعترف فيها بنجاحهم في خطة الهروب وأنه مصاب بالسرطان وأن “موريس” وشقيقه قد توفيا سنتي 2008 و2011، ويبدو أنه لم يكن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك الإقرار بنجاح خطة هروبهما، وبالتالي كسر أسطورة “ألكاتراز”.

رجل الطيور العبقري.. 54 عاما خلف القضبان

الرجل الثالث الذي قد يكون قد تسبب في شهرة سجن الصخرة فهو “روبرت سترود” الملقب برجل الطيور الذي قضى فترة سجنه ما بين 1942 و1959، في سجن “ألكاتراز”. كان أول عهد رجل الطيور بالسجن سنة 1909 حيث لم يتجاوز سن الثامنة عشرة، حين قتل شخصا اعتدى على حبيبته بالضرب، وكان ذكيا ومحبا للطيور إلى درجة أنه لقب برجل الطيور، لكن إحساسه بالظلم والغضب رغم حسن سلوكه خلال العامين الأولين من سجنه دفعاه إلى ارتكاب جرائم قتل رفعت مدة عقوبته.

درس رجل الطيور قانون السجن وطلب الزواج من حبيبته مما أغضب إدارة السجن، فنقلته سنة 1942 أي بعد ستة وعشرين سنة قضاها في السجن، إلى سجن الصخرة حيث لقي كل أنواع التعذيب، ومع أنه لم ييأس من النضال من أجل المطالبة بحريته، لكنه فشل في ذلك وحاول الانتحار سنة 1951، وفشل أيضا في الموت.

درس رجل الطيور قانون السجن وطلب الزواج من حبيبته مما أغضب إدارة السجن، فنقلته سنة 1942 أي بعد ستة وعشرين سنة قضاها في السجن، إلى سجن الصخرة حيث لقي كل أنواع التعذيب، ومع أنه لم ييأس من النضال من أجل المطالبة بحريته، فإنه فشل في ذلك وحاول الانتحار سنة 1951، وفشل أيضا في الموت.

توفي رجل الطيور سنة 1963، بين أسوار سجن “ألكاتراز”، وكان عمره 73 عاما قضى منها أربعة وخمسين عاما بين أسوار السجن ومنها 42 سنة دون أي تواصل مع السجناء الآخرين. ألّف رجل الطيور كتبا مثل “أمراض طائر الكناري” و”مؤلف سترود عن أمراض الطيور” و”التطلع إلى الخارج: تاريخ نظام السجون في الولايات المتحدة من الأزمنة الاستعمارية إلى إنشاء مكتب السجون”.

كان “سترود” أيضا مصدر إلهام لمخرجي الأفلام في هوليود فكانت قصته حاضرة في فيلم “رجل الطيور في “ألكاتراز” الذي أنتج سنة 1962، وكان السجين “فرانك موريس” أيضا ملهما للمخرج “دون سيغيل” في فيلم “الهروب من ألكاتراز” الذي أنتج سنة 1979، وتقمص فيه الممثل “كلينت إستوود” دور السجين “فرانك موريس”.

ختاما، لم يلهم سجن “ألكاتراز” السينما الأمريكية فحسب بل يبدو أنه ألهم العديد من الحكام العرب أيضا.