“أن تكون أديغا”.. شعب لديه أساطير كالشركس لن يموت

“شعب لديه أساطير لن يموت، والشعب الذي لا يفتخر بنفسه ويخلد أمته تكون حضارته منقوصة، نولد بجيناتنا تلك، تغذيها حكايات الأجداد، ففي مخيلة كل أديغي تقطن جبال الحلو والثلوج والأحصنة السماوية والكلاب الضخمه والأساطير وأغانينا المتوارثة منذ آلاف السنين”.

ربما يكون من السهل اقتلاع الناس من أوطانهم قسرا وتهجيرهم في منافي الأرض، لكن من المستحيل أن تقتلع وطنا من قلب صاحبه، فالوطن يبقى حاضرا في قلوب أصحابه ينتمون إليه بوجدانهم ويرحلون إليه كل يوم بأرواحهم.

رغم مرور أكثر من قرن من الزمان على تهجير القبائل الشركسية من بلاد القوقاز على الحدود بين قارتي أوروبا وآسيا إلى مناطق المشرق العربي فإن الوطن يبقى حاضرا في قلوبهم، حيا في حياتهم، ولا ينقطع حنينهم إليه رغم تعاقب الأجيال.

ينحدر الأديغا من العرق الآري ويطلق عليهم “شركس” وهي كلمة إغريقية أطلقت على الشعوب التي قطنت شمال القوقاز، أما لغتهم فهي الأديغية، ويدين معظمهم بالإسلام وهناك أقليات من النصارى، وتتواتر الروايات عن أسباب تهجيرهم وأنه كان لحفاظهم على دينهم.

يتحدث الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “نسيج وطن” بعنوان “أن تكون أديغا” عن القبائل الشركسية التي هُجرت إلى الأردن، ويتناول ذكريات البروفيسور في فن العمارة “علي ماهر” وروايته الشغوفة عن تاريخ عائلته، وفيها يعيد التفكير في المرحلة المربكة التي مر بها والتي حولته من كونه أردنيا شركسيا إلى أردني مع جذور شركسية.

كما يتحدث مجموعة من شركس الأردن عن ماضيهم وحاضرهم وتطلعاتهم المستقبيلة، وعن وظيفتهم في الحفاظ على هويتهم وإرثهم الثقافي الحضاري، رغم انسجامهم التام مع وطنهم الثاني وأهله.

حكاية ككل الحكايات

يسرد علي ماهر قصة عائلته “برنامت”، ويقول إنها تشبه كل حكايات الشركس، فقد هُجروا بعد خسارتهم معاركهم مع الروس التي امتدت لنحو قرنين من الزمان.

يتحدث عن مؤامرة أدت لاقتلاع ثلاثة ملايين شركسي وشيشاني وداغستاني من أراضيهم، وتشتتوا في المناطق الرخوة من أراضي الإمبراطورية العثمانية كيوغسلافيا وسوريا والأردن.

كان مقدرا لهم أن ينتقلوا إلى الأردن في العام 1885، قطعوا مفازات هائلة من الأرض مشيا على الأقدام. استوطن الشركس وسط عمان، وكانت أرضا مهجورة قفراً صحراء ممحلة، كانوا يملؤون المكان من المدرج الروماني في وسط عمان إلى ما يعرف حاليا بمنطقة المهاجرين.

وُزعت الأراضي في الأردن من قبل الدولة العثمانية على أصحابها، فاضطروا للعمل إما عساكر في الجيش أو مزارعين. وتروي الكتب أنهم سكنوا المغاور والكهوف، وانتقلت بعض العائلات إلى منطقة وادي السير التي تبعد نحو 20 كلم عن وسط عمان، فقد كانت منطقة خالية تقطنها الضباع. خشي الشركس بعد تفرقهم في أرض هجرتهم على تراثهم فصاغوا حكايتهم، وصمموا على حفظ هويتهم.

يقول الكاتب “أمجد جاموخة” لقد عمد العثمانيون إلى وضع الشركس في المناطق النائية كي يقوموا بحماية قوافل الحجاج وحماية سكة الحديد.

ازدهار عمّان.. الشركس والبدو

عمل الشركس في زراعة المناطق التي استوطنوها في الأردن. يقول المخرج والمؤرخ محيي الدين قدورة إن والده عندما عمل في الزراعة اشتغل معه بدو من أهل الأرض، وكانوا يسمونهم مرابِعة أو مُرابِعين، أي أنهم لم يأخذوا مالا لقاء عملهم، بل كانوا يأخذون ربع المحصول، وكان هؤلاء البدو يتقنون لغة الشركس لأن الشركس في البداية لم يكونوا قد تعلموا العربية.

وفي حديثه عن عمله الدرامي “فيلم الشركس” يقول إنه تناول فترة عام 1900، وطرح عبر ذلك العمل السينمائي فكرة التقاء حضارتين مختلفتين بشكل كبير لا يجمعهما إلا الدين الإسلامي، وكيف ساهم ذلك الرابط بحل مشاكلهم وسهّل التعايش بينهم.

يتحدث عن مؤامرة أدت لاقتلاع ثلاثة ملايين شركسي وشيشاني وداغستاني من أراضيهم
الفيلم يتحدث عن مؤامرة أدت لاقتلاع ثلاثة ملايين شركسي وشيشاني وداغستاني من أراضيهم

كان الشركس فلاحين، أما البدو فكانوا لا يكترثون للزراعة ولا يحترمون مهنة الفلاحة. بدأ الشركس بالزراعة وفتحوا المحال التجارية لبيع محاصيلهم، وأخذ البدو يشترون تلك المحاصيل، وفي المقابل يبيعون الصوف والبُسط للشركس، فنشأت حركة تجارية بين الطرفين، وجاء تجار من القدس ونابلس والشام وبدأت عمّان بالازدهار، وزاد الاهتمام بها مع قدوم مؤسس المملكة عبد الله الأول في مطلع عشرينيات القرن الماضي.

ويروي علي ماهر قصة طريفة عن حفاوة استقبال الشركس للملك عبد الله الأول كونه حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول كان الشركس وقتها لا يتقنون العربية وكان الثور أهم شيء في حياتهم، ولما أراد حكيمهم أن يعبر للملك عن سعادته بقدومه وعن ولائهم له فلم يجد تعبيرا أفضل من أن يقول له “أنت ثور كبير ونحن ذباب على ذيلك”.. كان الموقف محرجا لكن الملك عبد الله تماسك ولم يظهر أي شيء.

حنين للوطن ولبيت المقدس

كانت الأسر الشركسية كبيرة ممتدة، وتحكمها عاداتها وتقاليدها وقوانينها الشركسية الصارمة. عاش الأطفال في هذه الأجواء، لكن مع ذهابهم إلى المدارس واختلاطهم بغيرهم من أهل البلد بدأ التحرر قليلا من قوانين الأسرة الشركسية وانحصرت تلك التقاليد في البيت والعائلة الصغيرة.

وهنا يقول المؤرخ عدنان بحاروخ إنه حرصا منه على الحضارة والثقافة الشركسية من الضياع، فقد حوّل الطابق الثاني من بيته إلى متحف يحتوي على مجموعة من المتعلقات بالتراث والتاريخ والفلكلور الشركسي جمعها على مدار عشرات السنوات، وقد صمم شبابيك بيته على شكل علم الجمهورية الأديغية.

مسجد أبو درويش بجبل الأشرفية بمدينة عمان، بناه المعماري الشركسي مصطفى حسن جركس، ومنه يرفع الأذان الموحد

وتُروى حكايات كثيرة عن أشواق الشركس للأراضي المقدسة في فلسطين، ومنها أنهم مشوا حفاة لما بلغهم أنهم وصلوا أرض فلسطين، حتى إنهم منعوا أبناءهم الصغار من قضاء حاجتهم في الأراضي المقدسة، لولا أن حكيمهم أمرهم بالسماح لهم بذلك.

يعرض الفيلم لقصة بناء المتعهد المعماري الشركسي مصطفى حسن جركس لمسجد “أبو درويش” في منطقة الأشرفية المشرفة على وسط العاصمة عمّان.

كان جركس الملقب بأبي درويش يعمل متعهدا وهو الذي بنى القصور الملكية، وقد خصص كل ثروته لبناء المسجد الذي يعد تحفة معمارية ومعلما بارزا في المنطقة.

الفلكور الشركسي

يعتبر الرقص عند الشركس جزءا لا يتجزأ من فلكلورهم وهويتهم ويمتاز بالنبل والاحتشام، وتقوم فيه مجموعة من الفتيات بأداء حركات رشيقة ورقيقة، وفي المقابل يقوم مجموعة من الشباب بحركات عنفوانية قوية.
تقول مدربة الرقص في فرقة نادي الجيل أميرة إنها عندما ذهبت إلى مهرجان جرش أول مرة وشاهدت عرض نادي الجيل فتنت بجمال الثياب وتحليق الفتيات في الرقص والموسيقى، وكان مؤثرا جدا لدرجة أنها طلبت منهم الانضمام إلى الفرقة.

ستوطن الشركس وسط عمان، وكانت أرضا مهجورة قفراً صحراء ممحلة
استوطن الشركس وسط عمان، وكانت أرضا مهجورة قفراً صحراء ممحلة

يتحدث “ينال حتك” معلم الفلكلور الشركسي عن الرقص عند الشركس، وكيف أنهم قبل الإسلام والنصرانية كانوا وثنيين وكان الرقص نوعا من التعبد للآلهة، ثم بعد ذلك تطور ليعبر عن بعض المناسبات كالحروب، حيث كانت النساء تودع الرجال بالرقص لتبقى الذكريات الجميلة، كما استُخدم الرقص للانتقام، فكانت الفتاة إذا قُتل أحد أفراد أسرتها تقوم بالرقص مع شاب لينتقم لها من العدو.

ويضيف ينال حتك أنه يحاول التمسك بالفلكلور والعادات الشركسية للحفاظ على الهوية، ولتبقى قضية الشركس التي لا يعلم بها أحد حية في روح أبنائها، يقول “نحن 6 ملايين شركسي هُجّرنا من وطننا ونعيش في الشتات ولا أحد يعلم بقضيتنا ولا أحد يتحدث عن حقنا بالعودة إلى أرضنا”.

الزواج للحفاظ على الجذور

يتزوج الشركس من بعضهم البعض ولا تقبل الأسر الشركسية الزواج من خارج دائرتها حفاظا منهم على الجذور وعدم تفتيت العائلات الشركسية وذوبانها داخل مجتمعات أخرى.

يقول علي ماهر إن بعض الشركس يحاولون المحافظة على شركسيتهم، فهم يؤخرون عملية الذوبان في المجتمع، لكن النتيجة حتمية لا محالة، ومثال ذلك الشركس الذين عُرفوا بالمماليك والذين حكموا مصر قرابة 400 عام لا يعرفون إلا أنهم من أصول شركسية و”لن نحافظ على شركسيتنا إلا إذا عدنا للقوقاز”.

هُجرت القبائل الشركسية من بلاد القوقاز على الحدود بين قارتي أوروبا وآسيا إلى مناطق المشرق العربي
هُجرت القبائل الشركسية من بلاد القوقاز على الحدود بين قارتي أوروبا وآسيا إلى مناطق المشرق العربي

أما اللغة فوجدت دراسة أن 17% من أطفال الشركس فقط يعرفون اللغة الأديغية، وتقع على عاتق الآباء مهمة شاقة وكبيرة في تعلم الثقافة والفلكلور الشركسي كالذي يجدف عكس التيار.

أساطير وأبطال

يرتبط الشركس بتراث هائل من الأساطير، فهناك قبيلة نارت -وتعني بطل الأساطير الأديغية- وكان “سروقا” أعظم الشخصيات الأسطورية من قبيلة نارت، وهم الأبطال الخارقون.

أم ساروقا “ساتانيه” الساحرة المعروفة بجمالها الأخاذ وذكائها الخارق وحكمتها البالغة؛ كانت يوما تغتسل بماء النهر، فرآها راعي البقر وهام عشقا بها، ولشدة تأثره وولهه بدأ بالبكاء فسقطت دمعة من عينه على حجر. أخذت ساتانيه ذلك الحجر ولفّته بمنديلها وعند عودتها ألقته في النار، بدأ طفل يتشكل داخل الحجر، وقد ساعدته أمه، ومنحته من قواها السحرية.

امتدت الأسطورة حتى إن علي ماهر يقول في حديثه عن عمه الذي يدعى محمود بأنه كان أسطورة من أساطير عمّان، فهو الذي أسس النظام فيها، وقد كانت النساء تخيف أطفالها به، وكان ضخم الجثة وله شارب غليظ، وهو الذي أسس فيما بعد الحرس الشركسي في الديوان الملكي.

يرتبط الشركس بتراث هائل من الأساطير
يرتبط الشركس بتراث هائل من الأساطير

شدة البأس لدى الشركس تعود إلى أصول راسخة في العائلات، فالأب لا يحتضن أبناءه ولا يقبّلهم طوال حياته حسب العادات والتقاليد الشركسية “التي تقتل العاطفة، وتعتبرها ممنوعة ومكروهة، وذلك لكونهم عساكر يذهبون إلى الموت فيقضون على تلك العاطفة بالتربية وقطع الصلات مع الأبناء والآباء”، لكن الوضع تغير الآن.

ينقسم الشركس بين مؤيد للعودة أو البقاء حيث ولدوا، فالجميع يدرك أن خروجهم من أرضهم كان مؤامرة، وعاشوا جميعا حالة مخاض صعبة حتى يكونوا أردنيين ينصهرون مع مجتمعهم.

يختم علي ماهر بالقول “تحررتُ من كل شيء لأكون سعيدا وفي حالة سلام وتصالح مع ذاتي والناس والوطن، هناك الكثير من العقبات لكن الأهم هو طريقة تعاطينا معها”.

ويتساءل: “هل أنا علي القوقازي المحارب على صهوة جوادي، أم أنا الذي يركب سيارة ويدرس فن العمارة؟ هذه النقلة تحثنا على التغيير والتطور، أنا في حالة سلام مع وضعي، ووطني هو الأردن الذي أحبه وارتاح فيه”.