إسطنبول.. اليابسة التي تبحر فيها سفن أردوغان

“إن تركيا لن تسمح لأي شخص بتحويل إسطنبول إلى القسطنطينية”.. بهذه العبارة القصيرة خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنصاره أواسط شهر مارس/آذار 2019، متحدثا عن الهجوم الإرهابي الذي استهدف مسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا يوم 15 مارس/آذار 2019[1].

كان الرئيس التركي يردّ على تلك العبارات التي خطّها منفّذ الهجوم الإرهابي فوق الأسلحة التي استعملها في عمليته الإرهابية الدموية والتي تقول “يمكنكم البقاء شرق المضيق (البوسفور) ولكن لا تبقوا غربه، سنأتي ونهدم مآذن أيا صوفيا ومآذن كافة المساجد في إسطنبول”[2].

بين عبارة أردوغان الذي كان يومها يحشد أنصاره استعدادا لانتخابات بلدية سوف تدور رحاها يوم 31 مارس/آذار 2019 وانتهت بخسارة حزب أردوغان “العدالة والتنمية” مدينة اسطنبول قبل أن تعود اللجنة العليا لتلغي النتيجة، وتلك التي خطّها الإرهابي برينتون تارنت فوق السلاح الذي فتك بعشرات المصلين المسلمين، يُختزل تاريخ طويل وأبعاد إستراتيجية استثنائية لمدينة تتوزع أحياؤها بين قارتين أوروبا وآسيا.

توابيت أجداد تارنت

“لقد جاء أجدادك، بعضهم عاد في توابيت، وإذا جئت مثل أجدادك فتأكد من رحيلك مثل أجدادك. هذا ليس سهلاً كالكتابة على سلاح”.. هكذا يقول أردوغان مخاطبا الإرهابي تارنت، مسترجعا ذكريات انتصار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى على أساطيل الحلفاء التي كانت تحاول اختراق مضيق الدردنيل، وقال إن تركيا “ستكتب التاريخ” مرة أخرى إذا وقف أي شخص ضد “الأتراك والمسلمين وجميع المظلومين”.

كان أردوعان يشير إلى معركة غاليبولي التي قادتها قوات بريطانية وفرنسية وأسترالية ونيوزيلندية مشتركة عام 1915 بهدف احتلال العاصمة العثمانية إسطنبول، وباءت بالفشل وقتل فيها نحو مئة ألف جندي من قوات التحالف والأتراك بالإضافة إلى سقوط مئات آلاف الجرحى من الطرفين[3].

تلك المعركة واحدة من شهادات عديدة قدمها التاريخ على الأهمية الخاصة لهذه المدينة التي تعود على الأقل إلى عهد الإمبراطورية الرومانية. فهذه الحاضرة التي تحوّلت اليوم إلى واحدة من أكثر مدن العالم نشاطا في الاقتصاد والسياحة، هي التي كانت ذات قرون عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، وتحوّلت بعد فتحها إلى عاصمة للخلافة العثمانية، وشكّل سقوطها تحت الاحتلال الفرنسي البريطاني عام 1918 إيذانا بسقوط آخر خلافة إسلامية، كما شكل استرجاعها عام 1923 إشارة ميلاد الدولة التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك.

هذه الأهمية الإستراتيجية لمدينة صعود وأفول الحضارات، تمتدّ لتشمل المسار السياسي الباهر لرجل اسمه رجب طيب أردوغان. فمن هذه المدينة انطلق صعود سهمه مَتمّ القرن الماضي حين انتُخب عمدة لها، ومن أجلها كانت إعادة احتساب الأصوات والتدقيق فيها ضروريا عقب انتخابات مارس/آذار 2019.

روما الجديدة

قبل عصر أردوغان بنحو 17 قرنا، يسجّل التاريخ يوم 11 مايو/أيار سنة 330 ميلادية باعتباره اليوم الذي قرّر فيه الإمبراطور الروماني قسطنطين اتخاذ عاصمة جديدة لدولته اسمها “روما الجديدة”، قبل أن تحمل اسمه بعد وفاته ويطلق عليها لقب “القسطنطينية”[4].

فبعدما نجح هذا الإمبراطور الروماني الشهير في توجيه مملكته منهيا حروبا ضارية ضد خصومه الداخليين، استقر به المقام في مدينة إزميت” الواقعة نحو مئة كيلومتر شرق مدينة “بيزنطة”. وهذه الأخيرة ستصبح المقرّ المفضّل لاستقرار الإمبراطور الروماني نظرا لموقعها الجغرافي الإستراتيجي، وهو ما جعله يقرر جعلها عاصمة جديدة لحكمه، باسم “روما الجديدة”.

فهذه الحاضرة التي كانت قد تأسست قبل نحو ألف عام من ذلك، أي في القرن السابع قبل الميلاد، تتميّز بإطلالتها المباشرة على مضيق البوسفور، وتحكّمها بالتالي في مدخل بحر مرمرة المغلق.

وضع المدينة الجديدة منحها إشعاعا وقيمة استثنائيَين، حيث أصبح سكانها يتمتعون بالامتيازات نفسها المخولة لسكان مدينة روما، من قبيل الإعفاء من الضرائب والحصول على القمح مجانا. وتطلّب الوضع السياسي الجديدة للمدينة تأسيس مجلس “برلمان” وقصور خاصة بالبطارقة اليونانيين والرومان، ومكث الإمبراطور قسطنطين فيها إلى غاية وفاته عام 337 ميلادية[5].

وفي العام 395 ميلادية، وقع انشقاق شهير داخل الإمبراطورية الرومانية أدى إلى انقسامها بين إمبراطورية الغرب وإمبراطورية الشرق، فأصبحت بذلك إسطنبول عاصمة للإمبراطورية الشرقية والمعروفة تاريخيا باسم “بيزنطة”. وعلى مدى القرنين المواليين، شقت المدينة طريقها لتصبح أكبر وأهم مدن الإمبراطورية، ليخصها الإمبراطور جستينيان بمَعلمة ذات رمزية خاصة، وهي كنيسة “أيا صوفيا” الشهيرة.

بشارة الفتح

حاضرة شرقية بهذا الثراء والرمزية، لم تكن لتغيب عن طموحات الفاتحين المسلمين الذين امتدت دولتهم من ساحل المحيط الأطلسي إلى حدود الهند. لكن حلم فتح أبواب القسطنطينية تطلّب الانتظار لأكثر من ثمانية قرون، حيث تحقّقت البشارة النبوية الواردة في الحديث الذي يقول “لتُفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”[6].

تعود المحاولات الأولى لفتح القسطنطينية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، والذي بلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 47 هجرية (666 ميلادية)، والثانية في سنة 54 هجرية (673 ميلادية). هذه الحملة الأخيرة واصلت عملياتها الحربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية قرابة سبع سنين، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة المنيعة.

المحاولات الأولى لفتح القسطنطينية تعود إلى عهد معاوية بن أبي سفيان

وجرت محاولات أخرى في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وذلك في نهاية القرن الهجري الأول (719 ميلادية)، لكنها آلت بدورها إلى الفشل. لكن الحلم أصبح أكثر إلحاحا لدى المسلمين بعد قيام الإمبراطورية العثمانية، لما يمثله موقع المدينة لدى خلفائها من أهمية خاصة.

وحصل الفتح بالفعل على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح، وذلك استكمالا لمسار بدأه أجداده. فالسلطان بايزيد الأول كان قد أنشأ قلعة مطلة على البوسفور الآسيوي خلال حصاره للقسطنطينية، وكانت هذه القلعة تطل على أضيق نقطة في المضيق، مما جعل الفاتح يعزم على بناء قلعة مماثلة في الضفة الأوروبية للمضيق، وهو ما تم له بالفعل، وجعله يحصل على موقع مطل بشكل مباشر على أسوار المدينة المتحصنة، ويسمح بمنع وصول السفن الأوروبية لنجدة المدينة[7].

سفن برية

المناوشات التي جرت أثناء بناء القلعة، سرعان ما تحولت إلى حرب استعدّ لها الفاتح بصنع مدفع غير مسبوق من حيث ضخامته، وسلّح ما يقارب 400 سفينة[8]، ثم انتقل شخصيا على رأس جيشه لمحاصرة المدينة في رمضان 805 هجرية (1453 ميلادية)، ثم طوّق القسطنطينية من البر والبحر بقوات يفوق تعدادها ربع مليون مقاتل، وكانت المعركة تتوزع بين الاشتباك ومحاولة الاقتحام من جهة، وبين صد الإمدادات القادمة من أوروبا لنجدة الإمبراطور.

القسطنطينية فتحت على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح، وذلك استكمالا للمسار الذي بدأه أجداده

الفكرة التي تقول المصادر التاريخية إنها كانت حاسمة في ترجيح كفة العثمانيين في هذه المعركة، كانت بإقدام الجيش العثماني على نقل عدد من سفنه عبر اليابسة لتصل إلى المياه الداخلية للخليج عبر منطقة “غلطة”، حيث تم تمهيد الطريق وتغطيتها بألواح من الخشب المطلي بالذهن والشحم، وتمكن العثمانيون في ليلة واحدة من نقل نحو 70 سفينة تجرها البغال وأذرع الرجال، وكانت هي الليلة الأخيرة من شهر رمضان[9].

ظهور السفن العثمانية داخل الخليج جعل البيزنطيين يعتقدون أنها تمكنت من اختراق الدفاعات البحرية التي كانت تؤمّن المدينة، ومن ثم انتشرت الشائعات ودب اليأس في النفوس[10]، واستمرت المواجهات لأسابيع ضعفت خلالها قدرة البيزنطيين على المقاومة وأصيب الإمبراطور “جستنيان” بشكل بليغ، لتنهار المدينة ويقتحمها العثمانيون. ومنذ ذلك الحين أصبح فتح “القسطنطينية” عقدة جديدة في تاريخ العلاقات بين المسلمين وأوروبا.

تاريخ فوق كتفي أردوغان

هذا التاريخ الطويل هو ما جعل حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استثنائيا حين أتى الإرهابي الأسترالي برينتون تارنت على ذكر إسطنبول في رسائله الإرهابية.

فهو وُلد في 26 فبراير/شباط 1954 بمدينة إسطنبول منحدرا من أسرة قوقازية جورجية، ورغم رحيله رفقة أسرته شمالا وقضائه أولى سنوات طفولته على ضفاف البحر الأسود، فإنه عاد إلى إسطنبول وهو في سن 13 سنة.

حين استقرت أسرته بحي قاسم باشا الفقير من مدينة إسطنبول، التحق هو بمدرسة دينية لتكوين الأئمة والخطباء. وهناك جمع أردوغان بين جدية ورزانة التعليم الديني، وبين شغف الشباب بلعبة كرة القدم، وأصبح أحد أشهر لاعبي هذه الرياضة في أحياء إسطنبول، حيث كان يدمن على ممارستها في أندية مختلفة بالمدينة، لدرجة حمله لقب “بيكنبارو تركيا”، في تشبيه له باللاعب الألماني الشهير فرانز بيكنباور[11].

أردوغان حافظ منذ شبابه على انتمائه إلى التوجه السياسي الإسلامي الذي قاده أربكان

بعد المرحلة الإعدادية، التحق أردوغان بثانوية الإمام الخطيب الدينية، ونال منها شهادة الباكالوريا بتفوّق، مما أهله لولوج كلية الاقتصاد بجامعة مرمرة بإسطنبول، ولم يخرج منها إلا وهو يحمل شهادة في التجارة والاقتصاد، وهو ما يفسّر نجاحه في التدبير المحلي لمدينة إسطنبول عندما أصبح عمدة لها.

حافظ أردوغان منذ شبابه على انتمائه إلى التوجه السياسي الإسلامي الذي قاده أربكان، وبعد الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980 واستمر مفعوله إلى غاية 1983، بقي أردوغان ضمن أتباع أربكان، والتحق بحزبه الجديد حزب الرفاه، وأصبح رئيسا لفرعه بإسطنبول، مما أهله لرئاسة بلدية المدينة في التسعينيات.

فقد حلّ عقد التسعينيات على تركيا العلمانية وقد أشرقت شمس إسلامييها سياسيا، وبعد انتخابات 1991 البرلمانية، كان الموعد اللاحق أكثر تطورا ونجاحا، حيث كان الرفاه في الموعد في انتخابات 1994 المحلية، وجاء ثالثا في ترتيب الأحزاب التركية، مقتربا من نسبة 20% من مجموع الأصوات، وحقّق “فتوحات” كبيرة تمثلت في فوزه برئاسة بلديات كبرى كإسطنبول العاصمة الحضارية والتاريخية للأتراك[12].

إسطنبول.. سفينة أردوغان

يومها امتطى أردوغان أحد أحصنة صعود الإسلاميين، والمتمثل في حصان البلديات والتدبير المحلي للمدن، فكان نصيب أردوغان أن تولى تسيير بلدية تركية ليست ككل البلديات اسمها إسطنبول، حيث فاز بهذا المقعد الساحر في الانتخابات المحلية للعام 1994 ضمن موجة صعود إخوان نجم الدين أربكان التي ستنتهي بوصولهم إلى رئاسة الحكومة في سابقة تاريخية لإسلاميي بلاد أتاتورك[13].

أردوغان تسلّم بلدية إسطنبول وهي تغرق في أكوام من القمامة وديون مالية خيالية تقدر بملياري دولار

تسلّم أردوغان بلدية إسطنبول وهي تغرق في أكوام من القمامة وديون مالية خيالية تقدر بملياري دولار، فارتبط اسمه بتغيير وجه هذه المدينة ذات الحمولة التاريخية والإستراتيجية الكبيرة، وطرد صفة التخلف والتردي الاقتصادي والاجتماعي عنها.

وأبرز ما يذكره الإسطنبوليون لهذا الرجل، هو تخليص مدينتهم من الرائحة الكريهة التي كانت تزكم أنوفهم جراء تراكم الأوساخ والقاذورات وانعدام وسائل الحفاظ على النظافة والمنظر العام في المدينة. وبعد ذلك مباشرة، يتذكر سكان المدينة كيف جلب أردوغان إليهم الماء العذب الصالح للاستعمال من منابع تقع على بعد كيلومترات طويلة منهم، وطرد عنهم شبح العطش والخصاصة في الماء[14].

 

المصادر:

[1] https://arabic.euronews.com/2019/03/19/erdogan-attacks-nz-terrorist-and-warns-against-taking-the-battle-to-istanbul

[2] https://www.aa.com.tr/ar/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7/%D8%AC%D9%84%D9%8A%D9%83-%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B0-%D9%87%D8%AC%D9%88%D9%85-%D9%86%D9%8A%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%84%D9%86%D8%AF%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%87%D8%A7/1419686

[12] http://www.alyaoum24.com/1123974.html

[13] http://www.alyaoum24.com/1123974.html

[14] http://www.alyaoum24.com/1123974.html