الأزهر.. من محضن الفاطميين إلى كنف المماليك والعثمانيين

تفتح الوثائقية ملف الجامع الأزهر بعد أكثر من ألف عام من تاريخ بنائه في سلسلة من أربعة أفلام تحكي قصة هذا الصرح الأشم منذ تشييده على يد الفاطميين وحتى أيامنا هذه، وفي الحلقة الأولى من هذه السلسلة المعنونة “الخوذة والعمامة” نتحدث عن تاريخ تأسيس الأزهر والظروف التي رافقته والدول التي تعاقبت على حكمه.

حسن العدم

إذا كانت بعض المعالم التاريخية تصنف على أنها شواهد على حضارة أمة ما في وقت معين، فقد يكون التوصيف الأدق للجامع الأزهر أنه كائن حيٌ عاقل ومفكر، يروي بنفسه تاريخ حضارات متعددة، وثقافات مختلفة لجماعات بشرية سادت ثم بادت، أكاد أتخيله شيخا بعينين بارقتين، وابتسامة مقتضبة حكيمة، يتربع على كرسي الزمان، وما زالت يده تخط تاريخ قاهرة المُعِزِّ ومصر المحروسة على ورقات البرديّ المقدس.

حكاية ألف عام وعام

في الذكرى الألفية لبناء الجامع الأزهر عرضت قناة الجزيرة الوثائقية سلسلة من أربعة أفلام تؤرخ لهذا الصرح الحضاري المرموق، منذ إنشائه أيام الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري، مرورا بالقادة والفاتحين والمحتلين الذين توالوا على أرض مصر، وحتى وقتنا الحاضر في العقد الثاني من القرن الميلادي الحادي والعشرين.

لم يكن التأريخ للأزهر على أنه مركز ديني ومسجد للصلاة فقط، بل تجاوز ذلك إلى كونه منارة علم وفكر، وجامعة للعلوم التجريبية والكونية، ومقر حكم للقادة والسياسيين، ومنطلقا للثائرين والمجددين، وبوتقة اجتماعية انصهرت فيها ثقافات بشرية من شرق الأرض وغربها. وجاءت الحلقة الأولى ضمن سلسلة “الأزهر” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية بعنوان “الخوذة والعمامة”.

كان باديا للعيان أن الدولة الفاطمية قد اختارت مصر للتبشير بالمذهب الإسماعيلي
كان باديا للعيان أن الدولة الفاطمية قد اختارت مصر للتبشير بالمذهب الإسماعيلي

لطميات الحسين تواجه فسطاط ابن العاص

بينما كان كافور الإخشيدي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ونجم دولة الولاة الثانية في مصر يؤذن بالأفول، كان رسول مريدي آل البيت يسلم البشارة إلى المعز لدين الله الفاطمي رابع أئمة الشيعة الإسماعيلية في عاصمته المهدية في القيروان.

لم يتأخر الرد، وها هو جوهر الصقلي يتحرك في منتصف العام 358هـ على رأس جيش عظيم من مئة ألف أو يزيدون، يعبر أرض مصر صوب الفسطاط العاصمة، منهيا بذلك رمزية هذه المدينة التي استمرت على مدى القرون الأربعة الماضية، ليسطع منذ تلك اللحظة نجم قاهرة المعز.

الدكتور أسامه الأزهري، المدرس بكلية أصول الدين في الأزهر، يتحدث عن الموقع المركزي لمصر، والذي جعلها مطمعا للغزاة منذ فجر التاريخ، فيقول إن الدولة الفاطمية المتمركزة في المغرب باتت تنظر باهتمام إلى موقع مصر الجغرافي المتميز بين قارات العالم الرئيسية الثلاث، ومجاورتها لبلاد الحجاز ومهوى أفئدة المسلمين في الحرمين الشريفين، واحتضانها للنيل نهر الحياة المتدفق، كما أنها كانت ترقب عن كثب تهاوي مؤسسات الدولة في مصر وانهيار جيشها، كل ذلك أغرى الدولة الفتية أن تسارع بنقل مركز سيطرتها إلى هناك، وتبني عاصمة لها تستطيع من خلالها نشر مذهبها الشيعي وفلسفتها الإسماعيلية.

يقول الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، إن جوهر الصقلي راح يبعث رسائل تطمينية إلى أهل مصر يؤمنهم فيها على أنفسهم وعقيدتهم السنية ودور عبادتهم، وأن لا يضاروا في معيشتهم، ولكن ذلك لم يدم طويلا، وسرعان ما تبددت أحلام المصريين بممارسة عقيدتهم السنية بأمان، فقد أمر جوهر بتغيير مفردات الأذان في جامع طولون، وصار ينادى على المآذن “وأن عليا ولي الله”.

كان باديا للعيان أن الدولة الفاطمية قد اختارت مصر للتبشير بالمذهب الإسماعيلي ونشره على أوسع نطاق، وهذا الهدف كان لا بد له من مركز جغرافي جديد لانطلاق الدعوة، فكان أن أمر ببناء القاهرة، هذه المدينة العظيمة التي ستغدو فيما بعد رمز مصر وهويتها، وليكون المسجد الذي أمر ببنائه في وسطها في الرابع والعشرين من شهر جمادى الأول عام 359هـ واستمر بناؤه مدة عامين وثلاثة أشهر (سمي في البداية جامع القاهرة، قبل أن يسمى الجامع الأزهر فيما بعد) هو ذلك المعلم الباهر الذي استمر على مدى الألف سنة القادمة، ولا يزال.

استمر بناء الأزهر مدة عامين وثلاثة أشهر
استمر بناء الأزهر مدة عامين وثلاثة أشهر

بين سيف المعز وذهبه

باتت كل الأمور مُهيأة لاستقبال المعز لدين الله في مصر، وفي السابع من رمضان سنة 362 أشرف المعز من تلة مرتفعة على القاهرة، وطارت به أحلامه إلى ما بعد الأفق، هذه ستكون عاصمة ملكه “الأبدي”، وعلى هذه الأرض سيمكّن لمذهبه الذي “لن يفنى”، هنا سيدفن رفات آبائه الأئمة الأوائل، بل إن خياله الجامح صوَّر له أن ينقل الجسد الطاهر للرسول الأعظم محمد من المدينة إلى هنا.

كان أهل الفسطاط قد زينوا مدينتهم لاستقبال الفاتح الجديد، ولكنه تجاهلها وتوجه مباشرة إلى القاهرة، وفي قصره الشرقي اطمأن المعز إلى كرسيه واطمأن الكرسي له، وجاءته وفود مصر يسألون عن هذا الزعيم الجديد، ما حسبه وما نسبه، فأخرج لهم نصف سيفه من غمده وقال: هذا حسبي، ثم نثر على رؤوسهم قناطير الذهب وقال: هذا نسبي، فسكت الناس وعرفوا أن لا طاقة لهم بهذا الزائر الثقيل.

تختلف الروايات في سبب تسمية الأزهر بهذا الاسم، فبعضهم يُرجع سبب التسمية نسبةً إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم الحسين رضي الله عنه، والذي ينتسب الفاطميون إليه. وفي رواية أخرى سمي الأزهر بهذا الاسم نسبة إلى القصور الزاهرة المتعددة التي بناها الفاطميون على نمط قصور الأندلس، فكان هذا الصرح هو أزهرَها، ولذا سمي بالأزهر.

أريد للأزهر أن يكون منارة المذهب، وليس مكانا لإقامة الصلاة فحسب، كما يرى الدكتور محمد كمال إمام المستشار السابق لشيخ الأزهر، فكان ينزل فيه الخلفاء والوزراء ومنظرو المذهب، وتعقد فيه الخطب الرسمية في الجُمع والأعياد والمناسبات الهامة.

وتقول الدكتورة منى الشاعر إن أول حلقة علمية انتظمت في الأزهر كانت حلقة القاضي الشيعي أبي الحسن النعمان، كان يشرح فيها كتاب الاقتصار في الفقه الشيعي الإسماعيلي، وكان الهدف من هذه الحلقة ومثيلاتها هو “اصطياد” المريدين والأنصار، على حد تعبير الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة القاهرة.

تم الإنفاق ببذخ من قبل الحكام الفاطميين، وتم رصد الوقفيات الجليلة لهذا الصرح العلمي المهيب، وأُنشئت فيه المكتبات التي تضم أمهات الكتب في شتى المعارف، وتم إلحاق كلية للطب في هذا الجامع لتكون بذلك أول كلية من نوعها في عموم العالم الإسلامي.

ولم يغفل المسؤولون عن الجامع إبراز الناحية الجمالية في المسجد ليكون تحفة فنية ومعمارية في زمانه، إلى ذلك تم دعوة العلماء في شتى فنون العلم الديني والفلسفي والتجريبي ومن كل أقطار العالم الإسلامي ليعقدوا حلقاتهم ومناظراتهم في هذه “الجامعة”، ولم يكن أوحدهم في ذلك الحسن بن الهيثم عالم الضوء والبصريات المشهور.

ولم يقتصر تأثير الأزهر على الناحية العلمية فحسب، بل كان له تأثير عميق من الناحية الاجتماعية، فقد اتخذ الفاطميون أعيادا جديدة على المجتمع المصري السني، فكانت عاشوراء وليالي الوقود وذكرى استشهاد الحسين. وفي هذه المناسبات الحزينة في مستقر الذهنية الفاطمية يصحو الناس على مظاهر الشجن والفقد واللطم وتعذيب الذات وتأنيب الضمير، والمصريون بفطرتهم لم يستسيغوا هذا الشكل من الاحتفال كما يقول الدكتور قاسم عبد قاسم أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الزقازيق، فحولوها إلى مناسبات مفرحة يوزعون فيها الحلوى ويأكلون الطيبات، وما زالت حلوى “عاشورا” شاهدة على ذلك إلى يومنا الحاضر.

أول حلقة علمية انتظمت في الأزهر كانت حلقة القاضي الشيعي أبي الحسن النعمان
أول حلقة علمية انتظمت في الأزهر كانت حلقة القاضي الشيعي أبي الحسن النعمان

في حضرة صلاح الدين الأيوبي

لم يستطع الفاطميون عبر قرنين من الزمان إحداث تحول حقيقي في عقيدة أهل مصر، واقتصر التشيع على الجانب الرسمي في البلاد، وكما هي سنة السطوع والأفول في الدول، فقد ضعفت الدولة وآلت مقاليد الحكم الفعلي إلى الوزراء، وصارت وظيفة الخليفة الفاطمي هي التصديق على فرمانات تعيين الوزراء، مما جعل المجال خصبا لظهور نجم جديد في سماء مصر قادم من الشرق من جهة جبال الكرد.

وباستيلاء القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي على مقاليد الحكم في القاهرة عاد الأذان إلى صيغته السنية في العاشر من ذي الحجة لعام 565 هـ، وعاد الترحم على الخلفاء الراشدين يصدح على المنابر، ونقلت صلاة الجمعة من الجامع الأزهر إلى جامع الحاكم بأمر الله كونه الأكبر في المدينة، وصار المذهب الشافعي هو المذهب الفقهي المعتمد في الديار المصرية.

استمرت القطيعة بين الناصر صلاح الدين والأزهر قرابة مئة عام، فكانت لا تقام فيه الصلوات الجامعة ولا الخطب. كانت علاقة متوترة بين الزعامة الجديدة والأزهر العتيد، إلى أن جاءت الفتوى بإغلاق البوابة الفاطمية من المسجد، في إشارة رمزية بليغة إلى طي صفحة الشيعة وإسدال الستار على آخر فصول الإسماعيلية، ولينطلق الأزهر منارة للسنة من جديد.

لم يستطع الفاطميون عبر قرنين من الزمان إحداث تحول حقيقي في عقيدة أهل مصر
لم يستطع الفاطميون عبر قرنين من الزمان إحداث تحول حقيقي في عقيدة أهل مصر

في ظلال حراب المماليك

أسّس سلاطين المماليك دولة مهابة في الخارج، منظمة من الداخل، سطع فيها نجم القاهرة كعاصمة محورية ومركز من مراكز التجارة العالمية، حتى قال عنها ابن خلدون “من لم ير القاهرة في ذلك الزمان فإنه لم ير عز الإسلام”.

وفي عهدهم نالت المعاهد العلمية -وعلى رأسها الأزهر- عناية فائقة واهتماما بالغا، ساعدهم في ذلك تحول أنظار العالم الإسلامي تجاه مصر بعد ما حل في العراق والشام من فظائع بفعل التتار وتهاوي دولة الإسلام في الأندلس، فزيد في مساحة الأزهر حتى بلغت ضعفي ما كانت عليه في عهد الفاطميين، أما المعلمون في ذلك العهد فكانوا من طراز نفيس كأمثال ابن خلدون والسيوطي وابن حجر.

ولم يقتصر دور شيخ الأزهر على إدارة المؤسسة نفسها، بل تعداها إلى قيادة الشعب المصري بأكمله
ولم يقتصر دور شيخ الأزهر على إدارة المؤسسة نفسها، بل تعداها إلى قيادة الشعب المصري بأكمله

الأزهر في عهدة العثمانيين

يشير الدكتور سعيد إسماعيل علي أستاذ أصول التربية في جامعة عين شمس، إلى أنه لأول مرة منذ إنشاء الجامع الأزهر يخضع لدولة لا تعترف باللغة العربية لغة أولى في البلاد، لكن محاسن الصدف وقفت مرة أخرى إلى جانب الأزهر، فقد حدث ما يشبه توزيع الأدوار بين السلطة العثمانية والعرب في مصر، فالوالي وقاضي القضاة كان تعيينهما من الباب العالي في الآستانة، بينما تُرِك الأزهر بلغته العربية للمصريين، وهذا ما زاد الأزهر ألقا وازدهارا، إلى درجة أن أعمدته الـ360 كان يجلس إليها بعددها علماء وأساتذة في كل العلوم والفنون، مما يتيح للطالب أن يختار المادة التي يريدها والأستاذ الذي يطمئن له.

في عهد العثمانيين تبلورت شخصية الأزهر العلمية، وصار الطربوش الأحمر الملفوف بالشال الأبيض علامة مسجلة للأزهريين، وامتدت عالمية الأزهر في طول وعرض البلاد التي يحكمها العثمانيون آنذاك والتي تمتد من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أفريقيا، ومن شرق هضبة الأناضول إلى أواسط أوروبا، وصار الطلاب المبتعثون من أراضي السلطنة يتخذون مساكن لهم حول الأزهر، حتى ظهر ما يسمى بالأروقة السكنية، كل رواق منها لقطر من أقطار المسلمين آنذاك، مثل رواق المغاربة ورواق الأتراك وغيرها.

وفي عهد العثمانيين كذلك ظهر لقب “شيخ الأزهر”، وأصبح الأزهر للمرة الأولى ممثَّلا بصفته الرسمية أمام السلطات الحاكمة، ونال الشيخ محمد الخراشي هذا اللقب كأول شيخ للأزهر، وكان هذا المنصب الرفيع يُختار محليا، أي من بين علماء الأزهر أنفسهم، فيجتمعون ويختارون من بينهم من يرون فيه العلم والدين والصلاح والكفاءة.

في عهد العثمانيين تبلورت شخصية الأزهر العلمية
في عهد العثمانيين تبلورت شخصية الأزهر العلمية

 

ولم يقتصر دور شيخ الأزهر على إدارة المؤسسة نفسها، بل تعداها إلى قيادة الشعب المصري بأكمله، وتنامى دور الأزهر وشيخه إلى درجة المطالبة بعزل الولاة ورفع المظالم إلى الخليفة نفسه، بل إن الشيخ الدردير رحمه الله أمر بوقف التدريس في الأزهر مدة طويلة وتوجه على رأس وفد من المشايخ الكبار إلى الوالي وكلمه وأغلظ في القول حتى انصاع الوالي ورجع إلى الصواب.

تنتهي الحلقة الأولى من هذه السلسلة المتميزة ولا يزال الأزهر صامدا في وجه الإحن والأعاصير الهوج، ولكنه أيضا لا يزال محط أنظار الغزاة والطامعين من كل أنحاء العالم، وسوف نرى في الحلقة التالية غازيا آخر ولكنه ليس من الملة، وسلاحا آخر ولكنه ليس مما عهدناه في السابق، وسوف يزول الغازي كما زال غيره وتبقى مآذن الأزهر في صعودٍ إلى عنان السماء.