الإنجيليون الجدد.. ديمقراطية باسم الرب في أمريكا

الوثائقية-خاص

“الرئيس هو اختيار الرب”. هذه مقولة لم تصدر عن رجل دين لمنح شرعية دينية للحاكم، بل هو تصريح لمسؤول دبلوماسي في بلاد يفترض أنها تفصل الدين عن الدولة، ويتعلق الأمر بوزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” الذي عبّر عن قناعته بأن الرئيس “دونالد ترامب” هو “اختيار إلهي من أجل الدفاع عن إسرائيل”. كان التصريح مفاجئا لكثيرين، لأنه يشكّل إقحاما من الوزير لقناعاته الدينية في ملف سياسي، وإضفاء صبغة دينية على الرئيس لتبرير قراراته، وهذا وضع غير مسبوق في الولايات المتحدة المعروفة لكونها دولة علمانية.

 

وفي الحقيقة فإن تصريحات الوزير الأمريكي تُخفي غاية من عودة الدين بقوة للمجال السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، صحيح أن الدين لم يغب أبدا عن التجاذبات السياسية، لكن في السنوات الأخيرة بات الأمر ظاهرا، ويمكن القول إنه يحرك الكثير من خيوط القرارات السياسية، خصوصا مع تصاعد نجم طائفة الإنجيليين التي باتت تشكل الخزّان الانتخابي الأكبر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في تحالف استراتيجي قد يغير شكل الولايات المتحدة.

وكما تشكلت بقوة ظاهرة “المحافظون الجدد” على عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش، فإننا نقف اليوم على أبواب ظاهرة أخطر وهي “الإنجيليون الجدد”، ويبقى المسلمون من أكثر المعنيين بهذه الظاهرة لما يحمله هؤلاء من أفكار معادية للمسلمين، وكمثال على أفكار هذه الطائفة، فقد أثار “دونالد جينيور” -ابن الرئيس الأمريكي- الجدل عندما نشر على حسابه صورة لمسدّس، يحمل شعار الحملات الصليبية، وبدا نجل الرئيس الأمريكي محتفيا بالسلاح، ومُنتشيا بما نقل عليه من شعارات أبرزها الشعار الذي يمثل الحروب الصليبية.

وليس الغرض من التعرف على هذه الظاهرة هو تحليل الخلفيات الدينية، بقدر ما هو البحث في التحالف الموضوعي بين أعضاء في طائفة دينية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخلفياته. فمن تكون هذه الطائفة التي انتقل تأثيرها خارج الولايات المتحدة، وباتت قادرة على الإطاحة بأنظمة حكم، وتحمل أفكارا مثيرة للريبة والخوف؟

مذهب الإنجيل المتشدد.. الطريق نحو البيت الأبيض

تشير التقديرات إلى أن أعداد معتنقي المذهب الإنجيلي المسيحي، يبلغون 640 مليون شخص حول العالم، من بينهم 208 في آسيا، و127 في أمريكا اللاتينية، و93 مليون في الولايات المتحدة لتكون بذلك من أكبر المذاهب الدينية داخل أمريكا.

ارتفاع أتباع هذا الاتجاه الديني، جعل الإنجيليين رقما مهما في العمليات الانتخابية الأمريكية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وتطور الأمر حتى باتوا يشكلون 36% من الكتلة الناخبة الأمريكية سنة 2014 وهي التي قادت الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى البيت الأبيض وكذلك فعلت مع دونالد ترامب.

ولم يكن مستغربا إذن لجوء بوش الابن للغة دينية لها أصول في مصطلحات الحروب الصليبية، عندما أعلن أن غزوه للعراق هو حرب الخير ضد الشر، ومن لم يكن مع أمريكا فهو ضدها، لقد كان بوش ينطق بلسان عدد كبير من الذين صوتوا له والذين يؤمنون بحتمية الصراع مع العالم الإسلامي الذي يشكل خطرا عليهم.

 

ملامح الإنجيلية.. أتباع المسيح المتطرف

لا يمكن القول بأن أبناء الطائفة الإنجيلية هم على قلب رجل واحد، فهم ينتمون لكنائس مستقلة لا تجمع بينها أي أنشطة مشتركة، ولعل ما يشتركون فيه هو تفسيرهم المتشدد للإنجيل، وهو التفسير الذي يعتبرونه الأصح والأقرب “لتعاليم المسيح”، وهو ما يجعلهم من أكثر المنتمين للمذهب البروتستانتي تطرفا، وتفسيرهم للإنجيل هو ما يضعهم في مقدمة الصف في المعارك ضد الإجهاض، أو التعديل الجيني.

ويرفض الإنجيليون أي جهد من أجل تأويل جديد أو اجتهاد في ما يتعلق بتفسير الإنجيل، ويرفضون رفضا قاطعا أي حديث عن نظرية داروين في التطور، ويكرّسون نظرة فوقية للعامة، ويعتبرون أن هؤلاء باتوا ضحية لظاهرة العولمة، والحل أمامهم هو اعتناق أفكار الإنجيلية التي تمنحهم “حياة جديدة”، ويعدِون من يتبعهم في أفكارهم بالازدهار والتنمية.

ولا يمكن القول إن هذه الطائفة هي للفقراء، بل على العكس هناك كثيرون من أتباعها من أغنياء البلاد، ومنهم من يروّج لفكرة أن الغني غير مجبر على مساعدة الفقراء، وينشط أتباع هذا المذهب كثيرا في التبشير، مروّجين لكون أي نظرة حداثية للمجتمع هي مخالفة لإرادة الله.

وتعتمد هذه الطائفة في انتشارها الكبير على الدوغمائية القائمة على أنّ من ليس من هذه الطائفة فهو ضدها وخارج إرادة الرب، وعلى اللعب على العواطف والمشاعر بعيدا عن أي خطاب عقلاني، كما أنها أيضا قائمة على سهولة الانتماء لها فهي لا تضع قوانين صارمة للانتساب لها، لكن التدرج في هيكلها التنظيمي يبقى حكرا على قلة قليلة، وينضاف لكل هذا قدرات مالية كبيرة، تأتي من تبرعات أتباع الكنيسة والمنح السخية من أغنياء الولايات المتحدة.

“مسيحيون من أجل إسرائيل” هو شعار منظمة “آيباك” الصهيوأمريكية” التي تضع قدما راسخة لإسرائيل في أمريكا

 

توبة “ترامب”.. غفران محرج للكنيسة

تظهر إحصائيات مركز الأبحاث الأمريكي (PEW) أن الإنجيليين يشكلون المجموعة الدينية الأكبر في الولايات المتحدة، ويمثلون 25.4% من الأمريكيين مقابل 22% يقولون إنهم غير متدينين، و20% ينتمون للمذهب الكاثوليكي.

ويشكل الإنجيليون كتلة ناخبة يسيل لها لعاب أي مرشح للانتخابات الرئاسية في بلاد العم سام، وبالفعل فقد وقف هؤلاء وبشكل مكثف خلف “ترامب” وحملوه نحو البيت الأبيض، إذ أعلن 80% من المنتسبين للطائفة الإنجيلية أنهم صوتوا لصالحه في انتخابات 2016، وهو ما شكّل مفاجأة حينها في الأوساط السياسية الأمريكية، فـ”ترامب” غير معروف بأنه رجل يتّبع تعاليم المسيحية بشكل كبير، بخلاف الرئيس “بوش” الابن الذي أعلن انتسابه لهذه الطائفة واعتبر نفسه قد ولد من جديد بعد دخوله تحت جناح الإنجيليين، وينسحب الأمر على “مايك بنس” نائب “ترامب” الذي يُعتبر من أكثر السياسيين الأمريكيين تشددا وصرامة في التعامل مع موضوع الدين.

فما الذي يجعل طائفة تتشدد في كل ما يتعلق بالعلاقات الجنسية تصوّت لصالح ترامب الذي لاحقته الكثير من الفضائح الجنسية؟

لقد كان هذا السؤال محرجا لقادة الكنيسة الإنجيلية قبل أن يجد “جيري فالويل” مدير جامعة “ليبرتي” المحافظة، جوابا لهذا المأزق عندما صرّح للصحافة بأن “أي إنسان يخطئ، وأهم شيء في المعتقد المسيحي هو التسامح”، مما يعني أن الكنيسة سامحت “ترامب” عن أخطائه بعد توبته عنها.

الإنجيليين يجدون ضالتهم في “ترامب” فباتوا يصفونه بأنه “اختيار الرب من أجل الدفاع عن قضيتهم”

 

رد الدَّين للكنيسة.. حلف المصالح

وهذا التصريح هو مبرر للخروج من الحرج، أكثر من كونه يُعبّر عن حقيقة الأشياء، فهذا التحالف بين الطرفين مبني على المصلحة، فالإنجيليون يريدون رئيسا قادرا على معارضة حق الإجهاض والحد من تدفق المهاجرين، وأن يسنّ قوانين محافظة ويضع أشخاصا بتوجهات محافظة على رأس مؤسسات الدولة، و”ترامب” يمكنه فعله ذلك مقابل أن يضمنوا له دعما انتخابيا يعبُر به نحو ولاية ثانية على رأس الدولة الأقوى في العالم، ليكون التحالف بين الطرفين تحالف مصالح لا تحالفا مبنيا على قناعات دينية.

ويمكن القول إن الإنجيليين وجدوا ضالتهم في “ترامب”، حتى باتوا يصفونه بأنه “اختيار الرب من أجل الدفاع عن قضيتهم”، وخصوصا قضية منع الإجهاض التي تعتبر أم المعارك بالنسبة لهم.

لم يبخل “ترامب” على أنصاره بالدعم، فقام بتعيين القاضيين “نيل كورسوش” و”بريت كافانوف”، في المحكمة الدستورية العليا، وكلاهما قاضيان معروفان بمحافظتهما الشديدة، ومعلوم أن المحكمة العليا هي التي سبق أن منحت حق الإجهاض، وفي حال عُرض عليها الموضوع من جديد فقد يكون لها موقف مغاير بعد دخول قضاة محافظين لها.

الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل جزء مما يؤمن به الإنجيليون الجدد كوعد من الرب

 

ترامب وفلسطين.. رئيس يحقق “وعد الرب”

ظهر التوجه الديني للرئيس الأمريكي ومن يقف خلفه وخصوصا نائبه “مايك بنس”، ووزير خارجيته “مايك بومبيو”، فالأخير وصف رئيسه بأنه “اختيار الرب من أجل الدفاع عن إسرائيل”، بل استند الوزير الأمريكي على تشبيه مثير عندما اعتبر أن ترامب هو تكرار لشخصية “إيستر” الموجودة في الكتب الدينية المسيحية واليهودية والتي يقال إنها هي من حمت اليهود من الإبادة.

كما عبّر عدد كبير من قادة الكنيسة الإنجيلية عن ترحيبهم بقرار نقل ترامب سفارة بلاده إلى القدس، وسبب فرح هؤلاء أن هذه القرار يؤكد ما جاء حسب زعمهم في الإنجيل الخاص بهم، الذي يقول إن القدس هي عاصمة لليهود وفقط، وحسب اعتقادهم أيضا ستلعب القدس دورا محوريا في نهاية الزمان.

ويرى هؤلاء أن قرارات ترامب المتعلقة بالقدس، ستساعد إسرائيل على بناء “الهيكل”، والذي حال إتمامه “سيكون إشارة لعودة المسيح إلى الأرض وقيادته العالم نحو الخلاص النهائي”، فلا عجب إذن أن خطاب ترامب الأخير الذي أعلن فيه عما يسمى صفقة القرن كان يضج بالكثير من العبارات الدينية، كاعتبار أن القدس وفلسطين هي أرض الميعاد.

 

 

معاداة المسلمين.. من المحافظين الجدد إلى الإنجيليين الجدد

“لم يعد بمقدورنا معرفة عددهم”.. كانت هذه تغريدة للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عندما أعلن عن قراره المثير للجدل بمنع مواطني ست دول إسلامية من دخول بلاده، وهو القرار الذي وصفه الكثيرون بأنه عنصري في حق المسلمين، واستند “ترامب” في اتخاذ هذا القرار على محيط من المتشددين في التعامل مع الإسلام والمسلمين، بداية من “مايك بنس” الذي يعتبر الابن البار للطائفة الإنجيلية، إضافة إلى كونه يؤمن “بسيادة المسيحيين البيض” كما يرى ذلك “جيريمي سكاهيل” الكاتب الصحفي ذائع الصيت ومؤلف كتاب “أخطر منظمة سرية في العالم؛ بلاك ووتر”.

يرى الكاتب أن وصول “مايك بنس” لثاني أرفع منصب في الولايات المتحدة هو إنجاز لليمين الديني المحافظ، ويستطرد في علاقاته مع “شركة بلاك ووتر” ومؤسسها؛ ذلك أنه في سنة 2007 عندما قامت الشركة بقتل 17 عراقيا مدنيا بشكل عشوائي، قام “بنس” باستقبال مؤسس الشركة استقبال الأبطال.

وتكثر التشبيهات التي تضع “مايك بنس”، في نفس السلة مع “ديك تشيني” نائب الرئيس بوش الابن، بل هناك من يقول إنه أسوء فيما يتعلق باعتناقه لمذهب محافظ أكثر تشددا، وكما كانت العديد من الدول الإسلامية ضحية لتيار المحافظين الجدد، فكذلك ظهر أن الأمر لا يختلف كثيرا مع الإنجيليين الجدد، وهنا تجدر الإشارة لكون فئة من المنتمين لهذه الطائفة لا يتفقون مع الاتحاد الحاصل بين الرئيس الأمريكي والإنجيليين، ويعتبرون أن هناك كنائس قوية هي التي تذهب في هذا الاتجاه، أو ما يمكن وصفه بالإنجيليين البيض الذين ما زالوا مُصرّين على الدعم غير المشروط للرئيس الأمريكي.

بعد إعلان ترامب للقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، نتنياهو يشكر منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل”

 

بوليفيا.. طائفة تُسقط حكومات وتتوِّج رؤساء

تُظهر القضية الفلسطينية أن الطائفة الإنجيلية باتت لها يد في استصدار العديد من القرارات السياسية، فكذلك يذهب الفيلسوف الأرجنتيني “إنريكي دوسيل”، لكون الولايات المتحدة باتت تخوض “حربا مقدسة” عن طريق هذه الطائفة من أجل قلب أنظمة حكم في أمريكا اللاتينية.

ومن أجل تعضيد فكرته، يستدل الفيلسوف الأرجنتيني بما حدث في بوليفيا، ذلك أن الذي كان خلف الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس البوليفي “إيفو موراليس”، هو “لويس فرناندو” المعروف بـ”كاماتشو” القائد السياسي والديني المنتمي للطائفة الإنجيلية، والذي حرض ضد الرئيس.

وبعد أسابيع من الاحتجاجات الشعبية اضطر الرئيس البوليفي للفرار إلى المكسيك، ليعلن “كاماتشو” الذي يعرّف نفسه بأنه “مسيحي محافظ” بأن البلاد ستعوض الكثير من التشريعات بتشريعات الإنجيل.

ولا أدل على قدرة هذه الطائفة على اختراق المشهد السياسي في أكثر من بلد من مشهد السياسية البوليفية “جيانين آنيز” وهي تؤدي القسم من أجل استلام رئاسة البلاد مؤقتا، إذ كانت تحمل في يديها نسختين من الإنجيل، وصاحت أكثر من مرة “المجد لله”، ولم تكن تحمل في يديها نسخة من الإنجيل المتعارف عليه لدى الكاثوليك بل الإنجيل الخاص بالطائفة الإنجيلية.

ولا يظهر أن نجم هذه الطائفة قريب من الأفول بوصول رئيس يعتنق نفس أفكارها إلى البرازيل، وهو “جايير بولسونارو” الذي يعتبر من أكثر الزعماء شعبوية في العالم، إضافة إلى عودة الخطاب الديني بقوة إلى الفضاء التداولي السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، مما قد يشي بأن دور هذه الطائفة قد يزيد، خصوصا لو نجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الوصول لولاية رئاسية ثانية.