الإيغور.. صينيون أتراك في منفى لا ينتهي

محمد الحافظ الغابد

المسلمون في الصين ينحدرون من قوميات متعددة ذات امتدادات قومية وعرقية متعددة، منها قوميات ذات أصول تركية وأوزبكية، لكن قومية الإيغور تتميز بأنها ذات تاريخ سيادي في منطقتها وقد قاومت التحولات التي قادت إلى استتباعها وصهرها في جمهورية الصين الوطنية المعاصرة، لذلك لا تزال منذ عقود تعاني من الإلحاق في ظل الوضع الراهن وما ترتب عليه من اضطهاد وسعي حثيث من قبل الحكومة الصينية من أجل تغيير ثقافة هذه القومية ودمجها في النسيج الوطني الصيني.

في هذا التقرير نستعرض فيلم الجزيرة الوثائقية عن اضطهاد قومية الإيغور والذي يحمل عنوان “الإيغور.. المنفي الأبدي” ضمن سلسلة “نسيج وطن”، فمنذ نحو قرن بدأت هجرة الإيغور المسلمين إلى العالم الإسلامي، وهذا ما يجعل الحديث عن هذه القومية يمر حتما بإسطنبول.

وهو مرورٌ موضوعي يجد تفسيره في أن هذا الشعب يشترك مع وسط آسيا في الحديث باللغة التركية فضلا عن العقيدة الدينية، ويتمثل العامل الموضوعي الآخر في هجرة سواد عظيم من أقلية الإيغور العرقيّة؛ ليس من باب استقطاب الفضول ولا من أجل الرحلة التجارية، بل فرارا بالدين المضطهد والهوية المصادرة من قبل الصين.

تركستان الشرقية.. مهد الإيغور

تعدّ منطقة تركستان الشرقية الوطن الأصلي لأبناء الشعب الإيغوري الذين يقدر تعدادهم بـقرابة عشرة ملايين نسمة، لكنّ إلحاق الصين للإقليم بحوزتها الترابية سنة 1949 تحت اسم “شينغيانغ ” خلق مأساة مستمرة لأبناء الإقليم واضطرهم للهجرة والشتات.

ويتميّز مهد الإيغور منطقة تركستان الشرقيّة -الواقعة على طريق الحرير التاريخي- بأنها أرض غنيّة بالموارد الطبيعية من بترول وغاز ويورانيوم، مما جعل التنين الصيني ينشب مخالبه بقوة لاستتباع هذا الإقليم لما يحويه من فرص جمة للدولة العملاقة.

بيد أن ضم الصين للإقليم الغني الشاسع شكل بداية انحدار وقصة حزن وأسى بالنسبة للشعب الإيغوري الذي فقد أرضه، وبات مهددا في هويته ووجوده.

من هذه اللحظة وفي مواجهة تحدي الذوبان والفناء في جوف التنين الصيني، بدأ الإيغوريون هجرتهم، فكانت مدينة قيصري نقطة وصول الإيغور اللاجئين إلى تركيا قبل أن ينتقلوا إلى إسطنبول التي تحتضن بين جنبيها زهاء ثلاثين ألف إيغوري بسطت لهم كف الاستقبال ومنحتهم خدمة التجنيس، لتبدأ قصة عطاء قدمت خلالها بعض الأسر الإيغورية المحافظة فصول إسهام في نشر ثقافتها الشعبية والتعريف بحياتها الاجتماعية في وسط يملؤه الاعتزاز بالدين والالتزام به في ظل حاضنة شعبية تجمعها مع الإيغور وشائج القربى وأواصر الانسجام الثقافي والفكري.

ويجسد مجتمع الإيغور المهاجر نموذجا لحياة مجتمع مكافح من أجل ألا تذوب قضيته مع الزمن وتتجاوزها الأجيال الجديدة المندمجة سواء في الداخل أو الخارج.

يجسد مجتمع الإيغور المهاجر نموذجا لحياة مجتمع مكافح من أجل ألا تذوب قضيته مع الزمن
يجسد مجتمع الإيغور المهاجر نموذجا لحياة مجتمع مكافح من أجل ألا تذوب قضيته مع الزمن

إسطنبول.. حاضنة الإيغور في المنفى

تعيش السيدة نور الله مع زوجها حميد كوك ترك في إسطنبول بعدما قضيا سنوات في مدينة قيصري التي شكلت قبل سنوات محطة الوصول الأولى للاجئين الإيغور عند قدومهم إلى تركيا مطلع ستينيات القرن العشرين. لكن الزوجين نور وترك اختارا إسطنبول مقرا دائما لإقامتهما في تركيا حيث يوجد أكبر تجمع للجالية الإيغورية في الخارج، فإسطنبول تعد مناخا ملائما لتجسيد فكرة الوطن والتعلق به ثقافة وتاريخا واجتماعا حتى في المهاجر الخارجية.

تقول السيدة نور في اليوم الذي ولدت فيه أخذ الصينيون أبي إلى السجن، فقد ولدت في سياق حالك بالأزمات بالنسبة للشعب الإيغوري الذي انتُهكت سيادته على أراضيه وتم غزوه بطريقة قسرية. ففي سنة 1961 اضطررنا للهجرة إلى أفغانستان بسبب قسوة الصين الحمراء، فعشنا بأفغانستان خمس سنوات، وفي سنة 1965 جئنا إلى تركيا، وفي 1967 ذهبنا لموسم الحج في بلاد الحرمين، وكانت العودة إلى تركيا في 1968.

تُواصل نور حديثها عن قصة أسرتها فتقول “اندمجتُ شخصيا في التعليم والتأهيل الذي نظمته الحكومة التركية لصالحنا، وقد حصلت على شهادة التأهيل وتزوجت في 1974، ولدي ولد وثلاث بنات، وانتقلت إلى إسطنبول بعد تقاعد زوجي عام 1993”.

وتضيف “أواصل مع زوجي دعم قضيتنا الوطنية، أحاول دائما بذل قصارى جُهدي لدعم نضالنا من أجل الحصول على حقوقنا وإيقاف الاضطهاد والقمع، وشاركت في برامج تلفزيونية وإذاعية لتسليط الضوء على القضية، حضرت ندوات واجتماعات، وأنشدت قصائد شعرية وحاضرت في الملتقيات للتعريف بها”.

وتَعتبر نور أنها قدمت مجهودا وطنيا من خلال التعريف بالأزياء الإيغورية والمطبخ وكل ما يمكن أن يعكس خصائص هذا الشعب وثقافته وخصوصيته الدينية والحضارية.

وتعـود قصة المنفي الإيغوري إلى اضطهاد هذا العرق المحلي على يد عرقية الـ”هان” التي تشكل الأغلبية السكانية في الصين، وذلك بتشجيع من القوات المركزية الصّينية التي لم تدّخر وسيلة مصادرَة ولم تترك آلية قهر إلا واتبعتها في سبيل صد الإيغور عن معتقدهم الديني وتجريدهم من هويتهم الثقافية.

كما يعود تأخر الهجرة الإيغورية إلى خارج أراضي إقليم تركستان الشرقية إلى استحكام القبضة العسكرية التي منعت دخول وخروج الأهالي المُقيمين والسكان المحليّين إبان حكم الرئيس الصّينيّ “ماو تسي تونغ” (حتى عام 1976)، حيث اعتمد النظام الصيني الرسمي الحاكم بعدها سياسة انفتاح نسبي كان نصيب الإيغوريين منها فسحة حرية تنقّل محدودة، وكان عنوان انفراجها رفع يد الحظر عن الرحلات الجوية الخارجيّة.

نداء الدم وحنين الأرض وحلم العودة في قصة المنفي الإيغوري حقيقة يجسدها رفض الإيغوريّين عروض التوطين في ألاسكا التي قدمتها الإدارة الأمريكية، متنكبين سبيل تجارب هجرة جماعية عالمية انتهت بأصحابها إلى الذوبان الحضاري والانسلاخ الثقافي.

على أن فريقا من رعيل المهاجرين الأوائل من الإيغور يربط عودته إلى أرض وطنه الأم بـرفع السلطات الصينية يد سيطرتها عن البلاد.

تعـود قصة المنفي الإيغوري إلى اضطهاد هذا العرق المحلي على يد عرقية الـ"هان"
تعـود قصة المنفى الإيغوري إلى اضطهاد هذا العرق المحلي على يد عرقية الـ”هان”

جيل شبابي.. في المهجر الأوروبي

ومن الإيغور جيل شبابي جديد خاض تجربة المهجر الأوروبي غير قاطع رحم طائفته اللاجئة في المنفي الاختياري التركي، حاملين رسالة “القضية الإيغورية” في وجدانهم ليبلغوها العالم الغربي عبر منابر التأثير والوعي الإعلامية والسينمائية، وذلك من خلال تجربة الوجه السينمائي الشاب عبد الرحمن أوز تُرك الذي أنتج في غربته بهولندا سلسلة أفلام وثائقية تتحدث عن المهاجرين الإيغور في تركيا.

وتشكل تجربة الشاب الناشط في مجال صناعة الأفلام التي تشكل رافدا هاما للتعريف بالقضية الإيغورية فكرا وثقافة؛ ملمحا هاما من ملامح تشبث الإيغور بثقافتهم وخصوصيتهم الحضارية واللغوية والتي لم تدخر الحكومة الصينية جهدا في طمسها وتغييبها.

يقول عبد الرحمن إنه ولد في 1981 بمدينة “أكسوي” بتركستان الشرقية، وبدأ العمل عام 2001 بقطاع أفلام الأوستوديو في أرومتشي، ويتابع “في البداية كنت أعمل على ترجمة الأفلام الأمريكية والتركية والتعليق الصوتي عليها بلغة الإيغور ووضع التعليق الصوتي عليها، ومن ثم أبيعها بالجملة. بعد ذلك بفترة أنتجت فيلمي الأول سنة 2004 بعنوان “دموع الشوق”، وبما أنني كنت صغيرا فقد كان العديد من الممثلين يقولون لي: أين والدك؟ فأقول لهم أنا المنتج المالك للفيلم. وفي العام 2006 وبسبب الأفلام التي كنت أنتجها أو أوزعها قررت الحكومة الصينية إغلاق شركتي ومتجري وكل شيء ولم أعد أستطيع العمل، وفي هذه السنة تحديدا 2006 قررت الذهاب للخارج وعشت هناك ست سنوات ونصف”.

ويرى عبد الرحمن أن الإيغور في المنفي ينقسمون إلى قسمين، فئة تركت الوطن واندمجت في مهاجرها الجديدة، وفئة أخرى لم تتخل عن الانتماء والوطن وهي مهما طال مقامها في المنفي مستمرة في الاحتفاظ بأمل العودة في يوم قادم، ولذلك فهي تناضل وتسعى لتحميل الأجيال الجديدة ذكرى القضية ومطالبها.

هذا وإنّ بين الفريقين السابقين –وكلاهما يعمل في مجال نشر القضية الإيغوريّة والتعريف بها في تركيا– لـطائفة أخرى عزفت عن الانخراط في النشاط التوعوي، مؤثرة التحفظ الحذر والزيارة الموسمية لـتركستان على المشاركة المتحمسة، وذلك خوفا من أن تصيبهم دائرة من بطش أجهزة الملاحقة الصينية عندما يسافرون إليها، أو تنزل بساحة أهليهم وهم لا يشعرون.

مخاوف تذكي دواعيها وتبعث كوامنها حملة استهدافٍ شعواء تطلقها ألسنة الدعاية الصينية في حق الإيغور تتهمهم بالانفصالية وتصمهم بالإرهاب.

وللإيغور في مهجرهم جمعيات مؤسسية تشرف على تنظيم الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية والقومية خدمة للجالية العرقية داخليا، وتعزيزا لحضور التنسيق وإدارة العلاقة مع البلدانِ المستقبِلة خارجيا. كما تتدخل الجمعيات الإيغورية لـمواكبة يوميات حياة طائفتها العرقية منظِّمة الهجرة، فـتستقبل الراغبين في اللجوء أو الدراسة أو عابري السياحة، فتعتني بمتابعة ملف سكنهم وتسجيلهم وإقامتهم، وتيسر دمجهم في البلد المُضيف.

وكما تصنّف تركيا بلد استقبالٍ يستضيف الإيغوريين، تعد كذلك نقطة عبور لـمهاجريه المولّين وجوههم شطرَ أوروبا وكندا وأمريكا وأستراليا وغيرها.

وكما استضافت تركيا الهجرة الإيغوريّة في نسختها الشعبية؛ كان للهجرة الرسمية نصيبها من ذلك الاحتضان مثلما حدث مع إسماعيل سانجيز، رئيس حكومة تركستان الشرقية في المنفي المعلَنِ تأسيسُها في الولايات المتحدة الأمريكية والذي انتقل مع مراكز عمله الرسميّ إلى حي زيتون بورنو في الجزء الأوروبي من إسطنبول.

استضافت تركيا الهجرة الإيغوريّة في نسختها الشعبية
استضافت تركيا الهجرة الإيغوريّة في نسختها الشعبية

دبلوماسية تركية خففت الخنق الصيني

وقد أثمرت دبلوماسية العلاقات بين تركيا والصين في إرخاء بكين خناق الحَجب والعـزل عن أورومتشي عاصمة تركستان الشّرقية (إقليم سنجان)، وذلك عبر فتح المجال أمام حركة الرحلات الجوّية وربط الإقليم بـالاتصال الخارجي.

السيدة مكرم عبد الرسول نموذج للإنسان الإيغوري المكافح من أجل قضيته، عملت منذ وقت مبكر في خدمة قضية شعبها وهي في الإعدادية وواصلت بعد ذلك نضالها، فتعرضت للحبس لسنوات طويلة تخللها التعذيب وكل محاولات تذويب الإرادة من قبل الحكومة الصينية، وفرضت عليها هذه الوضعية البعد عن أسرتها وأبنائها بعدما هاجرت للخارج سعيا للتخلص من القمع والاستهداف المستمر، غادرت تركستان في عام 2010 إلى تركيا، وبعد نحو شهر عادت من جديد لجمع المعلومات وتوثيق ما يتعرض له الشعب الإيغوري من قمع خصوصا خلال مذابح عام 2009.

تقول مكرم إنها عادت إلى تركيا مرة أخرى، ثم رجعت إلى تركستان مجددا في يوليو/تموز 2011 حيث اعتُقلت لمدة سنة تعرضت خلالها للتعذيب، وتسبب هذا الاعتقال لزوجها وأبنائها وعائلتها في مشاكل لا تزال تلاحقهم إلى اليوم وتمنعها من العودة للبلاد لتلتقي بعائلتها.

وتتحدث مكرم عن تجربة الشبان والشابات الإيغوريين في تركستان الشرقية حيث يواجهون آلة قمع لا ترحم، ولكنهم يبذلون تضحياتهم من أجل الحصول على حقوقهم الوطنية والإنسانية، فخلال أحد أسابيع ربيع العام 2011 اعتُقل ما يربو على 3000 شخص من المحتجين على حالة القمع وسوء الأوضاع في داخل مدينة “أرومتشي”، حيث يستمر الحصار الأمني والقمعي في كامل الإقليم مستهدفا الإيغور على وجه الخصوص عقابا لهم على التشبث بهويتهم وخصوصيتهم الثقافية.

وبعد كل موجة قمع يتبعها ضغط إعلامي وحقوقي ينتج عنه ضغط دولي وحقوقي فيأتي فاصلُ انفراجٍ جزئي تكدّر صفاء انفتاحه النسبي مجازر الحكومة الصينية التي صبت سياط قمعها على الإيغور في أحداث أرومتشي المروعة التي تولت كِبر استهدافها عناصر الشرطة وقوات الجيش الصينية، لـتجدد الصين ضمنياً قرار الحكم على اللاجئين الإيغور بـالمنفى المتواصل في أرجاء العالم الفسيح بعيدا عن بطش الآلة القمعية لنظام ينتج باستمرار مأساة شعب ترمي به الأنواء والأقدار لمناف لا تنتهي.