“البابا”.. ثورة الإصلاح التي مزقت العباءة الكاثوليكية

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

الحلقة الرابعة من هذه السلسلة، جاءت تحت عنوان “الثورة انقسام الكنيسة”، وتستعرض دور ثلاثة رجال غيروا وجه المسيحية الكاثوليكية للأبد. حيث ظهر المجدد مارتن لوثر ثائرا على الكنيسة الكاثوليكية كونها انحرفت عن الدين الذي يعرفه المسيحيون، لتتشكل نواة جماعة معارضة للكنسية عرفت باسم البروتستانت تطالب بإعادة الكنيسة إلى دورها الحقيقي.

 

الثورة الدينية.. وانقسام الكنيسة

أحدثت حركات الإصلاح صدمة كبيرة في المشهد اللاهوتي، ورافق ذلك ظهور الدعوات لما يعرف بالإيمان الفردي الذي يدعو أتباعه إلى عدم ضرورة وجود الواسطة -المتمثلة في البابا- بين الإنسان والرب.
ويرى المتحدثون في الفيلم أن التطور حتمي في الأديان مع تغير الزمان، ونتيجة لهذا التطور الحتمي فقد تسببت حركات الإصلاح بانقسام الكنيسة، فهي تضم اليوم 800 مليون من البروتستانت، مقابل 1200 مليون من الكاثوليك، بعدما كان كل رعايا الكنيسة في القرون الوسطى من الكاثوليك.
في العام 2016 ترأس  البابا فرانسيس احتفالية المئوية الخامسة للإصلاح، تلك “الثورة الدينية التي أدت إلى انقسام الكنيسة، والتي أوشكت أن تكون واحدة من أكبر مآسي الكنيسة، لكنها ساهمت بدلا من ذلك في ظهور الإيمان الفردي، كما يقول الأسقف “بول تاي”.

من أجل إنقاذ الكنيسة من الانهيار كلف البابا رجال الدين ببيع صكوك الغفران في جميع أنحاء أوروبا

 

صكوك الغفران.. خدعة البابا الذكية للثراء

امتاز عصر النهضة بكم هائل من الإنتاج الفني المغرق بالجمال والإبداع المترف الباذخ، وكان هذا التجلي الفني العبقري ثمنا لفساد الكنيسة الذي وصل أوجه في عصر البابا ليو العاشر الذي تولى المنصب عام 1513، وقد عرف عهده بإسرافه الشديد، فقد أنفق أموالا طائلة على عمارة مدينة روما برعاية الكنيسة، وأقام الحفلات الباذخة، وأوكل إلى الفنان رفاييل رسم لوحات جصية في كل أنحاء الفاتيكان، ووضع ميزانية لتوسعة كاتدرائية القديس بطرس، وقد مول البابا كل هذه الأعمال من خلال بيع المناصب في الكنيسة، وكان لكل منصب ثمنه.

شهدت الكنيسة في تلك الحقبة شتى أنواع الفظائع وحالات الفساد المالي والأخلاقي، لقد أقدم الباباوات على بيع الأسقفية وتشغيل أبنائهم غير الشرعيين في الكنيسة، لكن كل هذا الفساد لم يكن كافيا لتغطية نفقات البابا ليو العاشر، لذا فقد زاد الضغط على الأديرة، وطالب الناس بالتبرع بأموالهم، ورغم كل ذلك فقد كانت الفاتيكان موشكة على الإفلاس، ولإنقاذها من الانهيار كلف البابا رجال الدين ببيع ما عرف بصكوك الغفران في جميع أنحاء أوروبا.

بدأ ظهور صكوك الغفران في الحروب الصليبية الأولى عندما كان الجنود يحاربون باسم المسيح، ولأنهم كانوا معرضين للقتل قدمت لهم الكنيسة هذه الصكوك لتعفيهم من كل الخطايا التي يرتكبونها، أي أنها كانت مكافأة لهم على قتالهم وتضحيتهم. لكن النظام الكنسي توسع كثيرا في هذا الأمر، حتى باتت صكوك الغفران تؤخذ مقابل المال، ووجد البابا فيها فرصة لإثراء الكنيسة وبناء كاتدرائية القديس بطرس.

تقول الأستاذة المساعدة للدراسات الدينية “إنثيا بتلر”: عندما نرى كنيسة القديس بطرس، نتساءل من أين أتوا بكل هذا المال لبنائها، الجواب بكل تأكيد أنهم أتوا به من صكوك الغفران.

لقد تميزت صكوك الغفران الخاصة بكنيسة القديس بطرس بأنها تمحوا خطايا الأموات، لذا كان الناس يشترونها لإنقاذ أقاربهم الموتى، كانت الفكرة جذابة وحققت نجاحا باهرا.

الراهب مارتن لوثر ابن الـ33 عاما يقود ثورة ضد فساد الكنيسة الكاثوليكية

 

“كيف تباع مغفرة الرب بالمال؟”.. ثورة مارتن لوثر الإصلاحية

انتشرت حملة بيع صكوك الغفران في أوروبا، لكنها أثارت في ألمانيا رد فعل معارض من قبل أستاذ جامعي متشدد يدعى مارتن لوثر، فقد رأى أن بيع صكوك الغفران عمل مشين.

كان لوثر ابن الـ33 عاما راهبا مخلصا، وقد أثارت صكوك الغفران استياءه، فكان يطرح تساؤلا مهما ومحوريا في هذه القضية، وهو “كيف تباع مغفرة الرب بالمال؟” واعتبر أن الأمر لا يجوز، ثم أطلق ثورة غير مسبوقة عام 1517، وقرر الوقوف في وجه خطايا البابا، فقد كان التدين سائدا في أوروبا على عكس الكنيسة الغارقة في فسادها.

كان لوثر عضوا في دير الرهبنة الأوغسطينية ومتخصصا في الكتاب المقدس، وقد تحول إلى راهب بسبب الخوف حين تعهد بذلك للقديسة آن خلال عاصفة رعدية، وأُرسل في بداية حياته العملية إلى روما، وقد فزع من مقدار البذخ الذي يموله بيع صكوك الغفران، وأزعجه استغلال البابا خوف الناس لكسب المال.

يقول “ديرميد مكالوخ” مؤلف كتاب “تاريخ المسيحية”: كان مارتن لوثر يعتقد أن الرب الذي قرأ عنه في أعمال أوغسطين لم يكن يهتم للخطايا الفردية بل عفا عن كل من يحبه من الناس، وأن الناس كلهم خطاؤون، ولا شيء يغير هذه الحقيقة.

مارتن لوثر يقف أمام البالبا والملك معترضا على صكوك الغفران وأنها من حق الرب فقط

 

وثيقة الشكوك.. أستاذ جامعي في مواجهة البابا

اعتبر لوثر أن بيع صكوك الغفران يتعارض بالكامل مع مفهوم التحرير الذي جاءت به المسيحية، إذ لم يعد الخلاص هبة مجانية بل سلعة تشترى، وقرر عقد ندوة ليكشف خدعة البابا، لكنها لم تعقد، وقد وضع وثيقة ضمت 95 موضوعا للنقاش، وبعث أطروحاته إلى أسقف ماينتس في ألمانيا، ثم أرسلها الأسقف إلى البابا، وقد شكك لوثر بصكوك الغفران وتساءل إن كان البابا يملك صلاحية تحديد من يذهب إلى الجنة أو الجحيم.

تضمنت الرسائل التي ألصقها لوثر على باب كنيسة فيتنبرغ سلسلة أسئلة متخصصة، منها تساؤل عن ما إذا كان البابا أو غيره يملكون السلطة في الحياة الآخرة، فقد كان علماء اللاهوت يعتقدون أن الآخرة هي عالم الرب وحده، وأن سلطة البابا تقتصر على الدنيا.

ترى “سارة وايز بور” مؤلفة كتاب “تاريخ العالم في عصر النهضة” أن مارتن لوثر لم يكن الأول في طرح تلك الأفكار، لكن الذي شكل الفارق هو وجود المطبعة، فقد طبعت الرسائل ووزعت على نطاق واسع.

كانت المطابع تستخدم لطباعة النصوص الدينية والأوراق الرسمية، لكن مارتن لوثر هو أول من استخدمها لأهداف مغايرة من أجل تدعيم ثورته، وقد أصبح بذلك مشهورا في كل أوروبا ورمزا للمعارضة، مما أثار مشاعر الناس وأدى إلى حدوث انقسام كبير في أوروبا، لذا طلبت الكنيسة منه أن يلتزم الصمت لكنه رفض، وكان من السهل على الكنيسة اتهامه بالهرطقة.

البابا ليو العاشر يصدر مرسوما يحرم مارتن لوثر من الغفران، فاندلعت في ألمانيا على إثر ذلك اضطرابات شعبية

 

مرسوم الحرمان من الغفران.. غضب الإمبراطور المقدس

في الثالث من يناير عام 1521 أصدر البابا ليو العاشر مرسوما يحرم لوثر من الغفران، واندلعت في ألمانيا على إثر ذلك اضطرابات شعبية أثارت غضب الإمبراطور الروماني المقدس شارل الخامس ملك ألمانيا، وطلب من لوثر حضور اجتماع برلمان الإمبراطورية المقدسة المنعقد في مدينة فومس.

كان الحضور كبيرا وضم أساقفة وأمراء بالإضافة للجمهور، وقد طلب الإمبراطور من لوثر إطاعة الكنيسة، لكنه أجاب أنه لا يستطيع إطاعتها، وأنه سيطيع الإنجيل والكتب المقدسة فقط. تقول “سارة دونانت” مؤلفة كتاب “الدم والجمال”: بدلا من تمحيص أفكاره، اتخذت الكنيسة المسار المعاكس وتحصنت خلف جدرانها، واعتبر لوثر خارجا عن تقاليد الكنيسة وخائنا.

كان لهذا الموقف من الكنيسة أثره البالغ على الجماهير المسيحية في أوروبا، وظهرت طائفة جديدة عرفوا باسم البروتستانت، وهم الذين لا يحملون ولاء للبابا، وتقوم فكرة الإصلاح على أن الكنيسة هي الرابط الخفي الذي يجمع المؤمنين بالمسيح في جميع الأوقات والأماكن، وإذا كان الناس لا ينتمون لزمن واحد فلا يمكن أن يكون قائدهم من زمن واحد.

لقد احتج أتباع لوثر على تمسك البابا بقيادة الكنيسة الكاثوليكية، وشيدوا كنائس لوثرية في ألمانيا وإسكندنافيا، وركزوا في تعاليمهم على النصوص المقدسة بدل الكنيسة، وقد نجا لوثر من الاتهام بالهرطقة وغاب عن الأنظار، واستمر الإصلاح البروتستانتي في الانتشار.

شارل الخامس ملك ألمانيا يؤيد البابا ضد مارتن لوثر

 

شارل الخامس يجتاح روما.. آثار غدر البابا المحتار

في العام 1523 انتخب البابا كليمنت السابع، وكان متفقا مع كثير من أفكار لوثر الإصلاحية التي تشكل تهديدا للملوك الطامعين بثروات الكنيسة، فقد كان اللوثريون يعتبرون الإيمان هو سبيل الخلاص، بينما ظل الكاثوليك في طاعة الكنيسة، لذا تخلى نصف أوروبا عن الكاثوليكية، مما أوقع البابا كليمنت السابع في مشاكل حقيقية، وكان عهده شديد الاضطراب. يقول الأب “جيمس ويس”: كانت شخصية البابا مترددة، وكان يفضل البقاء بالفراش أياما على أن يتخذ قرارا.

وإلى جانب الانقسام الذي أحدثه لوثر، فقد عانى البابا من النزاعات الحدودية بين الملوك، ففي عام 1527 كانت البابوية لا تزال متحالفة مع ملك ألمانيا شارل الخامس الذي أيد البابا ضد مارتن لوثر. لقد كان شارل الخامس رجلا استثنائيا، فقد كان ملكا لألمانيا ويحكم شمال إيطاليا، وكان الإمبراطور المقدس، وقد ورث حكم إسبانيا أيضا وحصل على سلطة لم يحصل عليها ملك وكانت له هيبة عند الناس.

يقول “جيرالد ماير” مؤلف كتاب “عائلة بورجا”: في محاولة لإقامة التوازن، تخلى البابا كليمنت السابع عن التحالف مع الملك شارل وعقد اتفاقية سرية مع فرنسا سميت عصبة الكونياك، ووجد البابا نفسه في خلاف مع الملك شارل الخامس، ونشبت الحرب بين ألمانيا والكنسية، لكنها كانت في الحقيقة حربا بين ألمانيا وفرنسا.

اجتاح الملك شارل الخامس روما، وسقطت بيد قوات الإمبراطورية الذين كان الكثير منهم لوثريون يكرهون البابا، وعاشت روما فترة عصيبة استمرت لأسابيع، وتتجلى المفارقة في أن الكاثوليك الذين هم أتباع البابا آذوا البابا أكثر من البروتستانت.

وقد قتل من سكان روما ما يزيد على ثمانية آلاف إنسان، وغادر البابا المدينة بحثا عن الأمان واختبأ في قلعة خارج روما مدة خمسة أسابيع، لكن الجيش الألماني حاصره وأجبره على الاستسلام، وحينها أراد الملك تجريده من قوته ووضعه تحت رحمته، لذا تنازل البابا عن أراضي شاسعة للملك، ثم رحل إلى قصر مهجور في “أورفيتو”.. لقد دمرت روما واستغرقت إعادة بنائها نصف قرن.

أعلن الملك هنري الثامن نفسه زعيما للكنيسة، وأنه إمبراطور ولا يستطيع أحد مسألته لأنه أعلى من الكنيسة

 

هنري الثامن.. قصة الحب التي قصمت ظهر الفاتيكان

حاول البابا كليمنت السابع إبقاء النصف الثاني من أوروبا كاثوليكيا، لكن تهديدا آخر جاءه من ملك إنجلترا هنري الثامن، فقد كان رجلا مغرورا شديد الاعتداد بنفسه. يقول “ديرميد مكالوخ”: إن هنري كان في مراهقته موهوبا وذكيا ووسيما، لكنه لم يحسن التعامل مع مرحلة المراهقة، فقد حكم إنجلترا وهو ابن 18 سنة، وكان يحصل على كل ما يريد، وقد تزوج من ابنة ملك إسبانيا “كاثرين أراغون” لكنه اعتبر زواجه منها عقبة كبيرة، وأنجب منها طفلة بعد عشرين سنة من الزواج، وقد كان يريد ولدا بالإضافة أنه أراد الزواج من عشيقته آن بولين، وقد كان الطلاق هو السبيل لذلك، وهو بيد البابا.

أرسل الملك هنري خطابا إلى البابا كليمنت السابع –ولا يزال هذا الخطاب في أرشيف الفاتيكان- طلب منه إبطال زواجه من كاثرين، لكن استجابة البابا كانت مرتبطة بتحالفاته السياسية، فقد كان البابا سجين الإمبراطور شارل الخامس وهو ابن شقيقة الملكة كاثرين، فلم يستطع البابا كسر الهدنة بينه وبين الملك شارل، لكن الملك هنري هدد بإخراج إنجلترا من الكنيسة الكاثوليكية إن لم يستجب له البابا، كما هدده بقطع الأموال عن الكنيسة، وفي المقابل هدد الملك شارل الخامس البابا بالويل والثبور إذا ما حكم بتطليق خالته.

دفعت هذه الحادثة الملك هنري الثامن إلى إعلان أن البابا ليس زعيم الكنيسة المسيحية، وأن الكنيسية غير مرئية وهي لكل المؤمنين في كل مكان، وليس للبابا الحق في زعامتها، واعتمد في هذا الإعلان على الأفكار الإصلاحية التي سادت بعد مارتن لوثر.

أعلن الملك هنري الثامن نفسه زعيما للكنيسة، وقال إنه ليس ملكا بل إمبراطورا ولا يستطيع أحد مسألته، وأنه أسمى من الكنيسة، وفي عام 1534 أعلن انفصاله عن الكنيسة، وأخرج بلاده من سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ثم طلق الملك هنري وتزوج من آن بولين بعدما أعلن نفسه زعيما للكنيسة وطرد الكهنة الكاثوليك، وأبعد كل من لا يؤمن بالمذهب الأنجليكاني. وهكذا فرق المملكة عن روما ونشبت حروب دينية داخل إنجلترا، وكذلك بين فرنسا وإنجلترا، وأصبح المشهد الديني مدججا بالسلاح.

بدأ الملك هنري بالاستيلاء على ثروات الكنيسة بصفته زعيمها، وجرد الكنائس من ممتلكاتها واحتفظ بها لنفسه، وقرر حل الأديرة وجرد أكثر من 12 ألفا من الرهبان والراهبات والكهنة من منازلهم ومقتنياتهم.

لقد كان يملك من السلطات والتحالفات ما جعله يزدري البابا، وقال له إنه لا يهتم لو وضع بلاده كلها على قائمة الحرمان، كان هذا الملك محيرا من الناحية الدينية، وعلى الرغم من أنه أنهى السلطة البابوية فإنه احتفظ بما سوى ذلك من المظاهر الدينية، وأنشأ كنيسة جديدة.

مخلص المسيحية الجديد أغناطيوس دي لويولا من جامعة باريس

 

أغناطيوس دي لويولا.. مخلص يسوعي تحت العباءة الكاثوليكية

في منتصف القرن السادس عشر بدا أن عهد الكنيسة الكاثوليكية قد شارف على الأفول، فمع انتخاب بولس الثالث عام 1534 لمنصب بابا الفاتيكان كانت الكنيسة تواجه خطرا داهما، بالإضافة إلى التركة الثقيلة التي ورثها من أسلافه.

في ذلك الوقت ظهر مخلص المسيحية الجديد أغناطيوس دي لويولا في جامعة باريس، وقد تأثر الطلبة الأوروبيون به كثيرا. ابتكر أغناطيوس طريقة جديدة للصلاة تعتمد على التأمل، في حين كانت الصلاة الكاثوليكية تعتمد على التلاوة الجماعية، وهو بذلك ركز على العبادة الفردية.

تعاهد أغناطيوس وأتباعه على تلك العبادة، وأطلقوا على أنفسهم اسم جماعة يسوع، وأصبحوا يعرفون باليسوعيين، وقد اتفقت أفكارهم مع أفكار مارتن لوثر فيما يتعلق بخصوصية العلاقة بين الإنسان والرب، لكن اليسوعيين لم يشكلوا خطرا على المسيحية كما هو الحال مع اللوثرية، فقد كان أغناطيوس كاثوليكيا يؤمن أن التواصل مع الرب هو واحد من أكبر الاتجاهات التي يمكن للكنيسة أن تدفع الناس إليها لتعيش الروح بسلام.

يقول الأب “جيمس ويس”: حاول اليسوعيون إعادة تأهيل ممتهنات الجنس المنحرفات، وأبدوا اهتماما بالفقراء، وحملوا أفكارهم ومقترحاتهم إلى روما ووضعوها تحت تصرف البابا، وكانت هيكلية الكنيسة حينها تتجه للأمام وقد اعترفت بحاجتها للإصلاح، وبالفعل سمح البابا لهم بتشكيل طائفة دينية جديدة رسمية داخل الهيكل الكاثوليكي، وبذلك أصبحت اليسوعية أكبر المذاهب في الكنيسة.

اعتمد اليسوعيون على بناء الثقة بهم عن طريق جعل التعليم عالي المستوى متاحا للجميع، وقد نجح اكتساب الناس لهذا التعليم في إعادتهم إلى الكاثوليكية، وبالتالي ساهم اليسوعيون بإعادة انتشار الكاثوليكية من جديد.

توفي أغناطيوس بعد 16 عاما من انتشار مذهبه الذي بدأ باجتياح العالم الجديد والهند واليابان وغيرها من بلدان العالم، واستلهم البابا نشاط اليسوعيين ودعا للتعامل معه ضد الزحف البروتستانتي، وفي عام 1545م شكل البابا مجمع “الترنت” لإصلاح المؤسسة الكاثوليكية وكان مكلفا بالإصلاح المضاد للإبقاء على الكاثوليكية.

البابا فرانسيس.. أول اليسوعيين الذين يتولون المنصب بعد بضع مئات من السنين

 

فرانسيس .. أول بابا يسوعي على رأس الكنيسة

كان البابا بولس الثالث مصلحا كبيرا، إذ قام بتعيين عدد من الكرادلة المميزين الذين تزعموا عملية التجديد، وفي عام 1567 أصبح بيع صكوك الغفران محرما، ونشأت ثقافة التغيير والتطور داخل الكنيسة، وقد هيأت الظروف لظهور أول بابا يسوعي على رأس الكنيسة الكاثوليكية بعد عدة قرون، وهو البابا فرانسيس.

عرف اليسوعيون بأنهم أبعد الناس عن البابوية، فكانوا لا يطمعون بالمناصب داخل الكنيسة ويرفضون تولي منصب البابا، لكن لماذا يتولى اليوم يسوعي منصب البابا؟ يكمن الجواب في أن البابا الحالي فرانسيس يتصرف على أنه زعيم الكنيسة الكاثوليكية، وهو في ذات الوقت يعتبر قائدا أخلاقيا.

لقد حقق اليسوعيون قصة نجاح إصلاحي، يقول الأب “جيمس ويس”: يدرك اليسوعيون أن لكل مسألة وجوها متعددة، ويعتبرون الأكثر تساهلا في أحكامهم الأخلاقية ويتصرفون بإيجابية.

وقد انتخب البابا فرانسيس اليسوعي عام 2013، في وقت كانت الكنيسة الكاثوليكية تعاني فيه من أزمات منها اتهامات بالتحرش الجنسي والفساد المالي، فتراجعت أعداد رواد الكنائس حول العالم.

يقول الأسقف “بول تاي”: قبل عام ونصف، طلب مني البابا فرانسيس أن أتولى حقيبة ثقافية وأخبرني بما علي فعله لأن العالم يشهد تغيرات كبيرة، وهناك أشياء جديدة ربما تُحدث تغيرات هائلة في المستقبل، لذا طلب مني الذهاب للخارج وأن ألتقي بالأفراد الذين يشكلون مستقبل العالم.

أصبحت التغيرات التي أحدثها اليسوعيون جزءا من النسيج الكاثوليكي، ولولا قدرة الكنيسة على استيعاب تلك التغيرات لما تمكنت من البقاء بعد ألفي عام. لقد بقي البابا زعيما لألف ومئتي مليون كاثوليكي رغم التقلبات والثورات التي شهدتها الكنيسة.

يطرح البابا فرانسيس اليوم قضايا كانت تعد من المحرمات كالشذوذ الجنسي وقضايا البيئة، وأصبح يتحدث عن التغير المناخي والعناية بكوكب الأرض، وهو تطور فرضته تقلبات الحياة وانتقالها الزمني.