“البابا”.. طأطأة عصر الفاشية والنازية والحرب

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

يتناول الجزء الخامس من سلسلة أفلام “البابا” الذي جاء تحت عنوان “بابوات الحرب”، الحديث عن دور الفاتيكان في القرن العشرين الذي شهد وقع الحربين العالميتين الأولى والثانية، ويركز بشكل كبير على الدور الذي قام به البابا “بيوس الحادي عشر” وخليفته “بيوس الثاني عشر”، وموقفهما من النازية ومذابح الكاثوليك واليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

 

انحياز.. لا حياد

يبدأ الفيلم بشاشة سوداء كتب عليها عبارة باللون الأبيض للكاتب الأميركي من أصل روماني “إيلي فيزل” يقول فيها “يجب أن نكون منحازين، الحياد يساعد المستبدين لا الضحايا، الصمت يشجع المعذِّبين ولا يعين المعذَبين”، وفي هذه العبارة إشارة إلى رفض موقف الحياد الذي اتخذته الكنيسة خلال الحرب.

قام البابا الحالي فرانسيس الأول في التاسع عشر من يوليو/تموز عام 2016 لمعسكر أوشفيتس بيركناو أكثر معسكرات الموت النازي في بولندا دموية، وقد أثارت الزيارة ذكريات إرث مروع من تاريخ الكنيسة، إذ آثرت الصمت والحياد في زمن الحرب والإبادة الجماعية أو ما عرف بالحل النهائي، كما أحيت جدلا حول أحقية منح لقب قديس لأحد البابوات في الحرب العالمية الثانية.

فقد انقسم المجتمع الكاثوليكي حول أحقيته في الحصول على هذا اللقب الذي لم يحظ به سوى ستة بابوات على مدار ألفي عام، فقد كانت سيرة البابا ضبابية وغير واضحة ومثيرة للجدل.

ترى “سوزان براون فليمنغ” من متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة أن معاداة السامية خطيئة في الديانة الكاثوليكية المعاصرة، لكننا نتحدث في تلك الفترة عن مجتمع مسيحي كان ينظر إلى اليهود بوصفهم أشخاصا مختلفين، رغم أنه كان بإمكانه تفهم الأمر.

لكن السؤال الذي وقف عنده الجميع، هو ما الذي كان يجب على البابا فعله إبان الحرب العالمية الثانية؟ لقد كان البابا بيوس الثاني عشر مثيرا للجدل، فمن الناس من يرى موقفه مشرفا في محاربة الفاشية، بينما وجد آخرون أن ما فعله لم يكن كافيا.

“يوجينيو باتشيلي” سفير البابوية في ألمانيا الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني عشر

 

كاثوليك الأنظمة القمعية.. صراع الولاء للكنيسة والنظام

كان “يوجينيو باتشيلي” سفيرا للبابوية في ألمانيا، وأرسله البابا بيوس الحادي عشر لإنهاء الحرب العالمية الأولى، فلم يستطع فعل ذلك، لكنه ساعد المهجرين والمصابين حتى وضعت الحرب أوزارها، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا دخلت البلاد في فوضى عارمة، وقد كان الشباب عاطلين عن العمل وشعروا بخيبة أمل، لذا بدأوا بتشكيل تجمعات تحولت في النهاية إلى النازية.

كانت الأنظمة القمعية في أوروبا تعتقد أن اليهود والمهاجرين هم سبب الأزمات الاقتصادية والسياسية، فقد قاد “بينيتو موسوليني” الحزب الفاشي في إيطاليا، بينما كان “أدولف هتلر” يصعد بالحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا حتى وصل إلى سدة الحكم، وكان يعرف بعدائه للدين، لذا وضع اليهود والكاثوليك على قائمة الأعداء.

كان “يوجينيو باتشيلي” مستقرا في ألمانيا عام 1922، وكان البابا بيوس الحادي عشر مدركا لما يحدث وواعيا للخطر الذي تشكله النازية، إذ عرف بدبلوماسيته ومعرفته في السياسة الدولية، وطلب من “باتشيلي” أن يكون عينا له هناك، وفي المقابل كان “باتشيلي” مؤثرا في قرارات البابا بشكل كبير لأنه كان يثق به وعينه وزيرا للخارجية، وبذلك أصبح “يوجينيو باتشيلي” ثاني أقوى رجل في الحكومة الكنسية.

يرى “رونالد رايتشاك” مؤلف كتاب “هتلر والحرب والبابا” بأن مشكلة الكاثوليك الأساسية -كما يراها قادة دولهم- كانت تكمن في ولائهم للكنيسة وليس لحكوماتهم.

“باتشيلي” يوقع مع الحكومة الإيطالية الفاشية “معاهدة لاتران” في فبراير/شباط من عام 1929

 

“معاهدة لاتران”.. صلح البابا مع سفاح إيطاليا

في إيطاليا احتدم الخلاف حول مجموعات الشباب الكاثوليك، وما إذا كان ينبغي الاعتراف بهم ووضعهم تحت مظلة المؤسسات الفاشية.

تعرض بعض الأساقفة للضرب واقتحمت منازلهم ومكاتبهم، وبسبب ذلك طلب البابا من “باتشيلي” التدخل بدبلوماسيته وحنكته للتفاوض مع الحكومة الإيطالية الفاشية، ونتيجة لهذا الحراك الديبلوماسي جرى التوقيع على “معاهدة لاتران” في فبراير/شباط من عام 1929، وقد نصت على السماح للكنيسة بالعمل وضمان أمن البابا عند مغادرته الفاتيكان.

وبذلك أصبحت الفاتيكان دولة مستقلة، وفي المقابل كان على البابا وقف كل أشكال المعارضة ضد حكم “موسوليني”، وبذلك كان على الكنيسة التزام الحياد في أمور السياسة.

يقول “روبرت فينترسكا” مؤلف كتاب “جندي المسيح البابا بيوس الثاني عشر”: شكلت المعاهدة انتصارا كبيرا من وجهة نظر البابا، لكنه ليس نصرا مجانيا لأن “موسوليني” حصل على ما أراد، ففي المقابل نصت المعاهدة على إبعاد الكنيسة عن السياسة، وبهذا بات موسوليني قادرا على التوجه للشعب الكاثوليكي بمجمله قائلا لهم: لقد تصالحت مع زعيمكم الروحي.

توقيع معاهدة “رايخس كونكوردات” التي تسمح للكنيسة بإدارة شؤونها مقابل امتناعها عن ممارسة السياسة

 

“رايخس كونكوردات”.. صفقة الكنيسة الخاسرة مع النازية

في الثلاثين من يناير/كانون ثاني عام 1933 انتخب “أدولف هتلر” لمنصب المستشار في ألمانيا، وبذلك وصلت النازية للحكم، وهكذا أصبح اليهود مستهدفين بشكل مباشر، وقد أصدر “هتلر” أول قرار له في حقهم في أبريل/نيسان من نفس العام، ولم تكتف النازية بمعاداة اليهود، بل اعتبرت الاشتراكيين والشيوعيين والكاثوليك أعداء لها كذلك، وحل العنف في ألمانيا النازية وغدا ممارسة يومية ضد هؤلاء.

طلب البابا من “يوجينيو باتشيلي” التفاوض مع الحكومة الألمانية، وبالفعل وقعت معاهدة “رايخس كونكوردات” في العشرين من يوليو/تموز عام 1933، وقد تعهدت فيها الحكومة بالسماح للكنيسة بإدارة شؤونها مقابل امتناعها عن ممارسة السياسة.

رأى كثيرون أن هذه المعاهدة تشكل حلفا مع الشيطان، يقول “ديرميد مكالوخ” مؤلف كتاب “تاريخ المسيحية”: تمخضت المعاهدة عن إخراج الكنيسة من المشهد السياسي، في الوقت الذي كان الناس فيه بحاجة لمن يقف في وجه الديكتاتورية الناشئة، لقد كانت خطوة للخلف في وجه الشر الخالص.

رفض كثير من الكاثوليك الألمان هذه المعاهدة، وكتبت امرأة مجهولة للبابا بيوس الحادي عشر رسالة تقول فيها: أنا أسير في الشوارع كل يوم، وأشاهد الأطفال يضربون جيرانهم اليهود.

“هتلر” بإصدار مجموعة من القوانين المعادية لليهود والكاثوليك واعتقل نحو 2500 راهب كاثوليكي

 

اعتقال آلاف الكهنة والرهبان.. “هتلر” يغدر بالبابا

على الرغم من معاهدة “رايخس كونكوردات” ظل النازيون يتدخلون في شؤون الكاثوليك واعتقلوا الرهبان والراهبات، وقد أصدر “هتلر” قانون الإعقام الذي يتعارض مع العقيدة الكاثوليكية. ويرى المتحدثون في الفيلم بأن “هتلر” لم يكن أهلا للثقة، لكن الفاتيكان أصر على أن بينهم وبينه معاهدة وتصرفوا على هذا الأساس، رغم استمراره في قمع الكنيسة إلى حد الترويع.

قام “هتلر” بإصدار مجموعة من القوانين المعادية لليهود وفرض عليهم مقاطعة شاملة على أعمالهم، واستخدم القطارات في نقل أعداء الدولة من كاثوليك ويهود إلى معسكرات العمل، حتى وصف معسكر الاعتقال بأنه أكبر مدرسة دينية في العالم، إذ احتجز فيه آلاف الكهنة الكاثوليك وتوفي فيها نحو 2500 راهب كاثوليكي، عند تلك النقطة لم يعد بالإمكان الاتفاق بين الرايخ الثالث (النازية الألمانية) والكنيسة.

كتب الفاتيكان أكثر من خمسين شكوى للنازيين بشأن انتهاك المعاهدة، لكن البابا لم يذكر “هتلر” بسوء على العلن، وبدأ البابا بإعداد نفسه لمواجهة شبه مباشرة مع الأنظمة الديكتاتورية.

يرى “إيمون دافي” أستاذ تاريخ المسيحية أن البابا لم يكن يثق في “هتلر” وكان يعارض العنصرية مع أنه لم يكن يحب اليهود، ويعتقد مثل كثير من المسيحيين أنهم هم من قتل يسوع، لكن لم يعتبر ذلك مبررا للاعتداء على حقوقهم كبشر، وأصدر مرسوما بابويا يدين ذلك.

البابا “بيوس الحادي عشر” يصدر مرسوما بعنوان “للأهمية القصوى” أدان فيه العنصرية من منظور لاهوتي

 

مواجهة النازية.. أرفع وثيقة كنسية تدين العنصرية

في عام 1937 أعد البابا مرسوما بمساعدة “باتشيلي” حول وضع ألمانيا، ويعتبر المرسوم البابوي بشكل عام أرفع وثيقة كنسية تصدر عن الفاتيكان وأهم بيان قد يصدر عن البابا.

صدر المرسوم في الرابع عشر من آذار/مارس عام 1937 وكان المرسوم تحت عنوان للأهمية القصوى، وقد أدان فيه العنصرية من منظور لاهوتي، وتحدث عن تفاهة التفكير بأن الرب اختص جنسا واحد بكل ما يميز الإنسانية.

استخدم الفاتيكان شبكة سرية لتهريب المرسوم داخل ألمانيا، وتأهب النازيون لأي عمل تخريبي، وفي يوم أحد الشعانين تُلي المنشور على منابر الكنائس، ويرى “ديرميد مكالوخ” أن هذا العمل كانت في قمة الشجاعة، وكانت المرة الأولى التي تسمع فيها إدانة للنازية على منابر الكنائس.

أرسل “هتلر” شرطته السرية لمصادرة الوثيقة من جميع الكنائس وعاقب كل من قرأها أو رددها أو احتفظ بها بالسجن والضرب ومصادرة الممتلكات، وفي عام 1938 غزا النمسا واستمر في إصدار القوانين العنصرية، وتواصل تدمير بيوت اليهود وأعمالهم، وبقي الفاتيكان على الحياد.

دعيت ليلة التاسع من نوفمبر/تشرين ثاني 1939 بليلة البلور أو الزجاج المحطم، حيث قام النازيون بتحطيم محلات اليهود ودور عبادتهم

 

إدانة معاداة السامية.. مرسوم البابا الذي مات قبل إصداره

اندلعت أعمال عنف في ألمانيا في ليلة التاسع من نوفمبر/تشرين ثاني من عام 1939 التي سميت ليلة البلور أو الزجاج المحطم، فقد قام النازيون بتحطيم محلات اليهود ودور عبادتهم، وأعقبها إرسال ثلاثين ألفا منهم إلى معسكرات الاعتقال.

طلب الأساقفة في أوروبا من “باتشيلي” الرد على أعمال العنف، وكتب له رئيس أساقفة إنجلترا: يجب أن تعلن بوضوح أن النازيين يرتكبون أعمال إرهابية بحق اليهود هل تستطيع التصريح بذلك؟

رد عليه “باتشيلي”: إنها مسألة معقدة، سنكتفي بإصدار بيان عام عن المحبة والرحمة بجميع الناس.

لم يستطع البابا “بيوس الحادي عشر” أن يبقى صامتا، وكان يحضر لإدانة الفاشية بعبارات لا تقبل التأويل وشرع في كتابة مرسوم يدين فيه معاداة السامية، لكنه توفي قبل ذلك.

حينها توجب على الكرادلة انتخاب بابا جديد، وبينما كانت الحرب تقرع طبولها أقيم المجمع الكنسي في وقت حرج للغاية، وبعد أقل من 24 ساعة انتخب “يوجينيو باتشيلي” خليفة للبابا، وكان ذلك في الثالث من آذار/مارس عام 1939.

أطلق “باتشيلي” على نفسه اسم “بيوس الثاني عشر” تيمنا بأستاذه. يقول “مارك ريبلينغ” مؤلف كتاب “كنيسة الجواسيس.. الحرب السرية للبابا ضد هتلر”: إن من الأمور التي ساعدت في اختيار “باتشيلي” أن كل طرف من الأطراف كان يظنه في صفّه، فقد كان يعني كل شيء لكل الناس.

لقد شهد القاصي والداني بمهارته الدبلوماسية، وكان العالم يعيش في توتر، فكان الجميع يرى أن اختيار رجل دبلوماسي مثله لقيادة الكنيسة يخفف هذا التوتر.

في عام 1939 اختير “يوجينيو باتشيلي” خليفة للبابا، وأطلق على نفسه اسم “بيوس الثاني عشر”

 

البابا بيوس الثاني عشر.. فارس السياسة الممسك بجميع الأعنة

أصبحت مهمة البابا بيوس الثاني عشر تزداد صعوبة وتعقيدا مع تصاعد العلمانية في أوروبا، وبعد ستة أشهر من انتخابه اجتاح النازيون بولندا، وعلى إثر ذلك اندلعت الحرب العالمية الثانية، فهل سيبقى البابا على حياده؟

كانت بولندا كاثوليكية وقد عامل النازيون الكاثوليك البولنديين معاملة قاسية وعنيفة، ويروى أنهم قتلوا الكهنة دون محاكمة واغتصبوا النساء، تلقى الفاتيكان العديد من الاستغاثات، واستقبل تقارير عن الجرائم والفظائع الألمانية ضد الكاثوليك واليهود، وعلى الرغم من ضغط الحلفاء على البابا ومنهم الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” إلا أنه تمسك بدبلوماسيته وتصريحاته المحايدة والمتوازنة.

أطلق النازيون ما سمى بالحل النهائي، وهو برنامج للقضاء على ذوي الإعاقات الجسدية والعقلية، وشمل كذلك كل اليهود من نساء ورجال وأطفال في جميع أنحاء أوروبا، ملأ النازيون المعتقلات باليهود والكاثوليك والشيوعيين والمعاقين، وفي عام 1940 افتتح أول معسكر من معسكرات الموت الثمانية وهو “أوشفيتس بيركناو”، وقتل فيه –بحسب الروايات- أكثر من مليون يهودي.

تقول “سوزان براون”: تلقى الفاتيكان مئات الرسائل والبرقيات حول ما ارتكبه النازيون، ووصلت إلى البابا في عام 1942 برقية من أحد القادة العسكريين، وقد قال فيها إن اليهود وضعهم سيء للغاية.

في عام 1943 اجتاح هتلر روما واعتقل ألفي يهودي

 

اجتياح روما.. “هتلر” على عتبات الفاتيكان

لم تكن أي مؤسسة في أوروبا تعلم بما يحدث أكثر من الفاتيكان، وانتشرت صور مروعة من ألمانيا، فأخذ الكاثوليك يتطلعون إلى البابا لإرشادهم، لكن دبلوماسية البابا كانت تقوم على اعتبار أن اتخاذ أي إجراء ضد هتلر قد يزيد العنف ضد الكاثوليك.

يقول “روبرت فينترسكا”: كان البابا يقول أنا أتوخى الحذر فيما أقول وهذا أهون الشرين، لكنه سيفعل ما يتوجب عليه فعله، وظهر هذا جليا في الخطاب الذي ألقاه في عيد الميلاد لعام 1942 وبث عبر إذاعة الفاتيكان، حيث تحدث عن حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية، لكنه لم يذكر “هتلر” أو النازية ولا اليهود.

ويرى “إيمون دافي” أن حديث البابا كان شديد العمومية، كما ترى “سوزان براون” أن الخطاب كان من الفرص الضائعة في وقت حرج للغاية، واكتفى بتمني الخير للناس.

لكن التزام الصمت لم يمنع هتلر من الزحف إلى عتبات البابا، ففي عام 1943 اجتاح روما واعتقل ألفي يهودي، وقد صرح البابا أنه لا يريد أن يضطر للخروج ويدين اعتقالات النازيين أمام الملأ. ويرى “روبرت فينترسكا” أن البابا لوح بالإدانة، وهذا تهديد مبطن ويظهر مدى النفوذ الذي تحظى به كلمات البابا أمام الناس.

مع دخول هتلر روما، أعلن البابا بيوس نفي البابوية عن نفسه إن هو اعتقل

 

حذر تحت رحمة النازيين.. “إن اعتقلت فلست البابا”

تزايدت الاعتقالات يوما بعد يوم وأشيع أن النازيين يخططون لاختطاف البابا، إذ طلب “هتلر” من أحد جنرالاته إعداد خطة لاقتحام الفاتيكان، وقد جمع البابا رجاله وسمح لمن يشاء منهم بالمغادرة، ثم قدم خطابا تضمن استقالته على النحو التالي، أنه إذا ما تعرض للاعتقال فسوف يكون مستقيلا من البابوية، وبهذا يعتقل النازيون “يوجينيو باتشيلي” وليس البابا.

سيق اليهود للكلية العسكرية في روما قرب كاتدرائية القديس بطرس، وباءت الجهود الدبلوماسية بالفشل، وبات الفاتيكان تحت رحمة النازية.

يقول “روبرت فينترسكا”: اختار البابا الحذر، لكن هذا لا يعني أنه لم يفعل شيئا، ويقال إنه كان يعمل من وراء الكواليس لوقف حملة الاعتقالات، وتشير بعض الأدلة أن الخطة نجحت.

استطاعت الكنيسة إطلاق سراح الكثير من اليهود ممن كانوا متزوجين من كاثوليكيات، وتذرعت الكنيسة بنصوص المعاهدة للحؤول دون ترحيل بعضهم، وقال البابا لنفعل ما بوسعنا لتخفيف المعاناة على الأرض. يقول “رونالد رايتشاك”: قامت شاحنة تابعة للفاتيكان بوضع الأغذية والبطانيات، وهذه محاولة لنقل الإمدادات للمحتاجين.

في المقابل يعتقد البعض أن صمت البابا كان للتغطية على أفعاله، وأنه كان يعمل بالسر إلى جانب الحلفاء، يقول “مارك ريبلينغ”: سجل البابا محادثاته سرا، وكان يريد من العامة التعايش مع النازيين، وفي نفس الوقت يؤكد ضرورة مقاومتهم، وكان يتلقى المعلومات من جاسوس في ألمانيا ويرسلها إلى الحلفاء الغربيين.

بعد اجتياح هتلر لروما، حاول البابا اغتيال “هتلر” أكثر من مرة

 

اغتيال “هتلر”.. صلة الوصل بين المتآمرين

يقول بعض المؤرخين إن البابا وضع خطة لاغتيال هتلر، وكان مدير المخابرات الألمانية الأب “ميرال فلهن كارنيس” يتزعم المقاومة الألمانية ضد “هتلر” وقد التقى به باتشيلي أثناء إقامته في ألمانيا، واتصل بعد ذلك البابا بصديقه القديم “كارنيس” الذي كان يملك السلاح.

فشلت ثلاث محاولات لاغتيال “هتلر” بين عامي 1940-1944، لكن المعلومات شحيحة ولا يوجد دليل موثق بأن للبابا يدا في ذلك. يقول “رونالد رايتشاك”: لم يحتفظ البابا بالوثائق، لأنه كان يدرك أن احتفاظه بها سيؤدي إلى قتل كثيرين.

ويرى “روبرت فينترسكا” أن البابا كان صلة وصل بين المتآمرين على “هتلر”، وهذا شيء مهم، وقد اضطر لإخفاء ذلك عن أقرب مستشاريه، وبقدر ما توخى الحذر كان يقدم تصرفات تنطوي على الجرأة والمجازفة.

ليس معروفا على وجه التحديد دور البابا في اغتيال “هتلر”، لكن إيواء الكنيسة لليهود أثناء الحرب لا شك فيه، كان اليهود يختبئون في عقارات الكنيسة وينامون في الممرات وعلى السلالم، وهو ما أسفر عن نجاة 80% من اليهود.

تتساءل “سوزان براون”: هل هذا كان فعلا بأمر من البابا؟ وهل كان يلتزم الصمت أثناء اعتقالهم بينما يصدر أمرا سريا بإيواء الجزء الأكبر؟ لم نعثر قط على أمر من بيوس الثاني عشر بإيواء يهود إيطاليا، بل إنه في بعض الأحيان كان يبدي استياءه من تعريض بعض المؤسسات الدينية للخطر.

بدخوله عالم السياسة، حقق البابا فرانسيس نجاحات وفتح أبوابا موصدة واهتم بالجوانب الإنسانية

 

لقب القديس.. غموض يلف حياة البابا بيوس الثاني عشر

ما زال عهد بيوس الثاني عشر غامضا رغم مرور الكثير من الوقت على وفاته، فمن هو هذا الرجل وهل يستحق لقب قديس؟ من يحمل هذا اللقب في الكاثوليكية ينال حياة أبدية مع الرب في السماء.

لقد امتد عهده أكثر من عشرين عاما شهدت الكثير من الأحداث التاريخية، وقد ساهم في صياغة الكنيسة الحديثة، لكن قبل منحه اللقب لا بد من الحكم على أفعاله، لمعرفة ما إن كانت تستحق لقب قديس أم لا.

يرى “روبرت فينترسكا” أن ديبلوماسيته الحذرة ساهمت في إنقاذ حياة الناس، وهذا ما يراه المدافعون عنه ويرفعه إلى مرتبة قديس، بينما يرى البعض أن تردده كان نابعا من إحساسه بمعاناة اليهود، ويراه البعض الآخر معاديا للسامية، بينما يعتقد “إيمون دافي” أن تصرف البابا ينطوي على فشل أخلاقي معين.

وتقول “سوزان براون” إن الخبرة التي اكتسبها في ألمانيا ساهمت في صياغة تفكيره حول ألمانيا والألمان وربما موقفه من اليهود، وقد تحدث عن لقائه بمسؤولين يهود ووصفه الشيوعيين بالقذرين وذوي العيون الضيقة، ونظرته لليهود واضحة في كتاباته، وهذه ظلت تلازمه طوال حياته.

من وجهة نظر “ديرميد مكالوخ” أننا لا نستطيع القول ببساطة إن الناس إما أن يكونوا خيرين أو أشرارا، نحن خلقنا خليطا بين الخير والشر، والأمر معقد جدا، ما زلنا نجهل الكثير عن حياة بيوس الثاني عشر وما فعله وما لم يفعله.

ليس هناك وثائق تثبت أي شيء عن دور البابا بيوس الثاني عشر، وتقول “سوزان براون” عندما تصبح هذا الوثائق متاحة يستطيع الباحثون تحديد هذا بالفعل، وأما قبل ذلك فسيكون من السابق لأوانه أن أمنحه لقب قديس، لو كان هدفه حماية الكنيسة وأتباعه من المحرقة فلا شك أن لهذا القرار تبعاته، لم يكن معصوما عن الخطأ وربما لم يتخذ القرار الصحيح، وهذا درس للكنيسة، يجب التكفير عن أخطاءنا وتصحيح مساراتنا.

دخل الباباوات المتأخرون عالم السياسة بقوة، فهم يجتمعون مع قادة العالم، ويتخذون القرارات والمواقف الواضحة ضد الظلم والإجرام، وقد عمل البابا يوحنا بولس الثاني للقضاء على الشيوعية ومساعدة أفريقيا في التخلص من الاستعمار والتمييز العنصري، وحقق البابا فرانسيس نجاحات وفتح أبوابا موصدة واهتم بالجوانب الإنسانية.