“البابا “.. طريق الأب المقدس ووريث الحواريين إلى السلطة

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

في الحلقة الأولى من هذه السلسة التي تبثها الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “البابا.. الطريق إلى السلطة” تُعرض آثار لأول مرة من الأيام الأولى للمسيحية، وهي تظهر كيف شكلت مجموعة صغيرة من الثائرين نواة واحدة من أكبر الديانات في العالم، وكيف استطاعت الباباوية الصمود في وجه كل التحديات.

إنه حدث غير مسبوق على الإطلاق في الفاتيكان، ففي عام 2013 أظهر البابا فرانسيس -الذي يحمل الرقم 266 في التسلسل البابوي- بقايا من هيكل عظمي يعتقد أنه يعود لبطرس أحد الحواريين الـ12 للسيد المسيح عليه السلام، وهو يعد أول بابا للديانة المسيحية في التاريخ.

 

“سأعطيك مفاتيح مملكة السماء”.. بابا المسيحية الأول

لم يكن بطرس ورفاقه بداية أمرهم سوى مجموعة من الثائرين، وقد اعتبر من قبل الإمبراطورية الرومانية قائدا لحركة سرية وخارجا عن قانون الدولة، إذن فقد ظهرت الباباوية منذ العهد الأول للمسيحية وتطورت سلطتها، حتى غدا البابا أحد أقوى الرجال في العالم ورأس الكنيسة الكاثوليكية، ويتبعه 1.2 مليار إنسان، ويعتقدون أن للبابا حقا في التدخل في كل شؤون حياتهم، ويعتبر الكاردينال “دونالد وورل” رئيس أساقفة واشنطن أن البابا أسمى من الكنيسة الكاثوليكية، فهو ملاذ الأخلاق لديهم والهداية الروحية.

كان البابا الأول بطرس فيلسوفا، وبحسب الروايات المسيحية فقد كان مرافقا ليسوع، وفي إحدى المرات عندما كانا يصطادان في منطقة الجليل –شمال فلسطين الآن- قال له المسيح: أنت بطرس، أي الصخرة، وهي رمز الثبات أمام الناس في زمن الاضطراب.

وتابع المسيح قوله: على هذه الصخرة سوف أبني كنيستي، وسأعطيك مفاتيح مملكة السماء.

ثم سأله المسيح: قل لي من أنا؟

فأجابه بطرس: أنت المسيح، أنت ابن الرب.

تقول مؤلفة كتاب تاريخ العالم القديم “سوزان وايز باور”: بعد أن تحدث بطرس بهذا الاعتراف أصبح رمزا للإيمان المطلق بأن المسيح ابن الرب، وهي العقيدة المركزية للكنسية المسيحية.

كان العبيد في روما وقت ظهور المسيح يتعرضون لكل أنواع الإهانة والإذلال

 

عبيد روما.. تهديد بطرس للإمبراطورية في عقر دارها

مرت مئات السنين دون أن تستخدم مفردة البابا، لكن الإرث التي تركه بطرس بات أساسا لهذا المنصب المقدس، وبات يعتقد أن الباباوات هم الورثة الحقيقيون لجيل الحواريين. ويعتقد المسيحيون أن بطرس مات من أجل خطايا البشر، وهي المقولة الأساسية ومفتاح الخلاص، وبذلك يقدم الآخرون الصورة ذاتها في العهد الأول.

أما الرومان في المقابل فقد اعتبروه تهديدا حقيقيا للإمبراطورية، فلوحق بسبب معتقداته وتعرض أتباعه للحبس والتعذيب والقتل، وتوزعوا في منطقة حوض المتوسط لنشر تعاليمه، بينما اختار بطرس العيش في مدينة روما وقد ترأس هناك الكنيسة التي كانت تعمل سرا خوفا من بطش السلطات الرومانية.

تقول “آنثيا بتلر” أستاذة الدراسات الدينية في جامعة بنسلفانيا: إن كنت تؤمن بالمسيحية فإنك تؤمن برجل واحد هو المسيح ملك الملوك، وبذلك تضع نفسك بمواجهة الإمبراطورية الرومانية، وهو اختبار عسير للمسيحيين الأوائل.

وبسبب الأخطار التي واجهها المسيحيون كان بطرس يعقد اجتماعات سرية لنشر تعاليم المسيح، وكان العبيد في روما حينها يتعرضون لكل أنواع الإهانة والإذلال، رغم أنهم كانوا يشكلون 80% من تعدادها السكاني، وعندما ظهرت المسيحية نادت بالإنسانية والكرامة، لذا لقيت هذه الدعوة قبولا في الطبقات الدنيا للمجتمع، وتزايدت شعبية ما ينادي به بطرس.

دمر الإمبراطور نيرون الوثني ثلثي روما سنة 64 ميلادية نكاية بالمسيحيين

 

صلب مخالف لصلب المسيح.. نيرون يحرق روما

اعتبر الإمبراطور نيرون -الذي عرف ببطشه ووحشيته- انتشار المسيحية بين الطبقات الدنيا من المجتمع تهديدا لملكه، فقام بإشعال حريق ضخم تسبب بإتلاف ثلثي روما عام 64 ميلادية، لقد كان يريد أن يشيد المعابد والمباني ليخلد ذكراه، ثم وجدها فرصة مناسبة لاتهام المسيحيين بإشعال الحريق من أجل التخلص منهم، فأعمل فيهم السيف وقتل منهم أعدادا كبيرة حرقا وشنقا وصلبا على الأعمدة، وأحرقهم في أحياء المدينة وحدائقها ورمى بآخرين للحيوانات المفترسة.

ثم قبض على بطرس نفسه، واتهمه بالعصيان وصلبه مقلوبا، لأن بطرس لم يرد أن يموت كميتة سيده المسيح، وكان موته صفعة للمجتمع المسيحي كاملا، لكنه اعتبر أول قائد حقيقي للكنيسة، وقد أدرك المسيحيون بعدها أنه لا سبيل لهم من النجاة سوى توحيد صفوفهم. تقول “إيلين بيغلر” أستاذة الدراسات الدينية: كانت أفكارهم شبيهة بأفكار ثوار أميركا حين قالو إما أن نتحد لنعيش أو نموت متفرقين.

تضم مكتبة بطريركية الروم الأرثوذكس في مدينة القدس وثيقة عمرها ألفا عام تحوي تعاليم واضحة للمسيحية. يقول بطريرك القدس للروم الأرثوذكس ثيوفيلوس الثالث متحدثا عنها: “تستعرض الوثيقة تشكيل الكنيسة في مرحلتها المبكرة”. وقد عثر على ترجمتها اليونانية عام 1883، ولم تصور هذه الوثيقة خوفا من سرقتها أو تدنيس حرمتها، وقد دون فيها طريقة القداس والقواعد العامة التي يحتاجها المسيحيون.

كانت الكنائس في العهد القديم منازل متناثرة، وكان لا بد من مشرف على تلك الكاتدرائيات، وحاول المجتمع المسيحي إنشاء مجتمع منظم حتى يعرف الناس أعضاء كل كنيسة، وكان التسلسل هرميا على غرار الجيش الروماني، واعتبر الأسقف صاحب المرتبة الأعلى، وبما أن روما عاصمة الإمبراطورية، فقد أصبح أسقفها رئيس الأساقفة، وعرف فيما بعد بلقب البابا.

استهل قسطنطين حكمه كأول إمبراطور روماني مسيحي بـ”مرسوم ميلانو” الذي أضفى الشرعية على الديانة المسيحية

 

“مرسوم ميلانو”.. إمبراطور روما يعتنق الدين المسيحي

بقي التنكيل بالمسيحيين من قبل السلطات الرومانية قائما لأكثر من مئتي عام من صلب بطرس، حتى ظهر المنقذ في عام 312 ميلادية، وكان ذلك القائد هو الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي كان قائدا عسكريا فتيا، وعندما أصبح إمبراطورا كان على وثنيته، لكنه قرر أن يهزم منافسه قائد جيش روما الشرقي، فأعلن الحرب عليه ليظفر بلقب إمبراطور روما الأوحد، وقبل يوم من المعركة حدث له أمر غريب، فقد رأى في منامه أنه ينظر إلى السماء يشاهد الصليب، وقد أحدثت تلك الرؤيا في نفسه شيئا.

وعندما انتصر قسطنطين في معركته ظن أن لتلك الرؤيا فضلا في انتصاره، فقرر اعتناق المسيحية، وبذلك أصبح أول إمبراطور روماني مسيحي، واستهل حكمه بإصدار “مرسوم ميلانو” الذي أضفى فيه الشرعية على الديانة المسيحية، وأمر رعاياه باتباعها دينا، ومنح أتباع هذه الديانة ميزات سياسية ومالية، وبذلك عقد تحالفا وثيقا مع الكنيسة.

أصبح العالم منذ ذلك الوقت تحت تصرف الكنيسة، وفي عهد قسطنطين تحولت المسيحية من الإقصاء الى الصدارة. ويرى “إيمون دافي” صاحب كتاب “قديسون وآثمون” أن قسطنطين وجد في المسيحية فرصة لتوحيد الإمبراطورية، إذ تقدم هذه للناس إلها واحدا وتضمن قيما أخلاقية موحدة.

بذلك أصبح أسقف روما بالغ التأثير في المشهد الديني والسياسي، وعامل قسطنطين رجال الدين كأعضاء في حكومته، حتى أنه مارس سلطته الإدارية من خلال الأساقفة، ومنهم أسقف مصر وأسقف القدس وأسقف اليونان، وصار الأساقفة أعيانا في المجتمع المحلي، فعند نشوب الخصومات والخلافات بين الأفراد كانوا يتوجهون للأساقفة للبحث عن الحل بينهم، كما أشرف الأساقفة على توزيع الإمدادات الغذائية، وبذلك تمتعوا بالنفوذ والثروة.

وقد حصل المسيحيون على تسهيلات ضريبية وأعفيت الكنيسة من الضرائب، وترى “سوزان وايز باور” أن الكنائس في الولايات المتحدة معفاة اليوم من الضرائب بفضل قسطنطين.

وقد باشر قسطنطين بناء صروح ضخمة، ومنها كنيسة القيامة في القدس، التي يعتبرها المسيحيون أقدس الكنائس، ويقال أن المسيح دفن في البداية أسفل بلاطها.

أقام قسطنطين “مجمع نيقية” لتوحيد الكنيسة في عام 325م وخرج بـ”قانون نيقية”

 

“قانون نيقية”.. مؤتمر الوحدة الذي منع الحرب

بعد أن ازدهرت أحوال المسيحيين دب الخلاف بينهم، وكانت العقيدة محور الخلاف، فقال بعضهم إن المسيح ولدته أمه وبالتالي لن يكون إلها، وتساءل آخرون هل هو إله أم إنسان أم كلاهما؟ يقول الكاهن المعمداني وعالم اللاهوت “إلين كالاهان”: قد يرى البعض ذلك خلافا سطحيا، لكنهم كانوا على استعداد أن يقتتلوا بسببه.

كان لا بد لقسطنطين من التدخل حتى لا تتفكك الإمبراطورية، فهو رأس الدولة ورأس الكنيسة معا، وكان غاضبا جدا، وقال لهم إنكم تتصارعون على أمور هامشية بعد أن كنت ملاحقين ومضطهدين. ثم ما لبث أن أقام “مجمع نيقية” لتوحيد الكنيسة في عام 325م، وهو أول اجتماع للأساقفة، وقد ألزمهم بالخروج ببيان ديني جامع وهو “قانون نيقية” الذي ينص على “أننا نؤمن باليسوع المسيح الأب القدير خالق السماء والأرض”، وقرر المجمع أن يسوع بشر كامل وإله كامل.

ثم قال لهم قسطنطين إذا وقّعتم عليه فأنتم مسيحيون وجزء منا، وإلا فسوف تنبذون وتطردون ولعلكم تذهبون إلى الجحيم، وأصبحت هذه الكلمات صيحة حرب لدى الكاثوليك، وبذلك ثبّت قسطنطين الأساس الديني لإمبراطوريته، وأنشأ معقلا آخر لها في الشرق وسماها باسمه، مدينة القسطنطينية.

تأرجحت العلاقة بين مسيحيي الشرق والغرب، فقد كان مسيحيو الشرق ينظرون إلى مسيحيي الغرب بأنهم برابرة. يقول أستاذ التاريخ في جامعة “سانت لويس” وزعيم مسيحيي الشرق “توماس مادين: يعمّد مسيحيو الغرب أبناءهم بلعاب الذئاب، وينظر الغرب إلى الشرق أنه معقل القوة والصلابة.

كان الترتيب الهرمي للأسقف في روما ناجحا، لكن ظهر منافس آخر في الشرق يجد نفسه أحق بالزعامة ونشأت خلافات بين أسقف روما وأسقف القسطنطينية، فقد كان كل منهما يرى نفسه زعيما قويا، ولم تفلح جهود قسطنطين بتوحيد الشرق والغرب، وبعد سبع سنوات من مجمع نيقية مات قسطنطين مخلفا وراءه كنيسة منقسمة، وتاركا روما دون قائد عسكري.

البرابرة يجتاحون روما في عام 437م ويحرقونها ويطيحون بآخر الأباطرة الرومان

 

مصرع الإمبراطور الأخير.. هجمات الشمال التي أغرقت روما

تعرضت روما بعد موت قسطنطين لهجمات البرابرة من الشمال، وفي عام 437م تمكن البرابرة بعد سلسلة من الهجمات الشرسة من الإطاحة بآخر الأباطرة الرومان، وقتلوا الكثير من أهل روما، ويكفي أن نعلم أن عدد السكان انخفض من مليونين في عهد قسطنطين إلى نحو 30 ألفا، وأصبحت المدينة أثرا بعد عين.

بقيت روما على هذا الحال مئتي عام انتشرت فيها القاذورات والفوضى، وفي عام 604 انتقلت الكنيسة إلى القسطنطينية لكون روما لم تعد صالحة للحياة، واستبدلت المصطلحات الدينية اللاتينية وحلت محلها اليونانية، وأصبح أسقف روما يحمل الاسم اليوناني بابا أو بوب.

لم تترك الهجمات البربرية مجالا لقيام حكومة مركزية، وباتت الكنيسة تلبي احتياجات الناس وأصبح البابا حاكم روما، وبذلك لم يعد دور الكنيسة روحيا فقط، بل اعتمد السكان عليها لتصريف شؤون حياتهم، لذا فقد أشرفت على الأمن والغذاء والماء.

حاولت العائلات الوثنية السيطرة على المدينة، ولم تكن البابوية تتمتع بالحماية الرسمية، فتعرضت للهجوم المباشر، ولم يبق لديهم عائق سوى البابا.

شارلمان العظيم إمبراطور فرنسا

 

شارلمان العظيم.. إمبراطور روما المقدس يحمي الكنيسة

في عام 799 حاول المبارديون -وهم من القبائل الهمجية التي غزت إيطاليا- السيطرة على روما والأماكن الخاضعة للبابوية، وفي عيد الفصح باغتوا البابا ليو الثالث وطرحوه أرضا وقطعوا لسانه، لكنه نجا من الموت.

أدرك البابا ليو الثالث بعد نجاته أنه بحاجة للحماية فقام بعقد تحالف مع أقوى الأباطرة الغربيين شارلمان العظيم إمبراطور فرنسا، فقد استدعاه البابا عام 800 ومنحه لقب إمبراطور روما المقدس، وهكذا أخذ شارلمان على عاتقه حماية الدين المسيحي، وبهذا منح سلطات دينية ودنيوية، وتخلى البابا عن الكنيسة الشرقية، فلم تكن العلاقة بين الكنيستين طيبة، فقد كانت علاقة شارلمان مع الكنيسة الأرثوذكسية توصف بالمواجهة والتحدي، ومن هنا جاء الشقاق بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية.

تحالفت أوروبا الغربية تحت ظل الكنيسة وانفصل الجزء الشرقي للإمبراطورية وأصبحت كنيسة الروم الأرثوذكس خاضعة لبطريرك القسطنطينية، وقد ظل مفهوم الكاثوليكية عالميا حتى القرن الحادي عشر عندما كانت الكنيسة موحدة، لكن حين انفصلت القسطنطينية عن ولاء البابا بدأت الكاثوليكية تفقد مدلولها العالمي وأضحت مقتصرة على روما.

في 29 مايو/أيار 1453 وعلى يد القائد المسلم محمد الفاتح فتحت القسطنطينية أعظم قلاع أوروبا المسيحية

 

عهد ألكسيوس الأول.. زحف الجيوش الإسلامية إلى القسطنطينية

بعد مئتي عام من تحالف شارلمان والبابا ليو الثالث جاء البابا أوربانوس الثاني عام 1094 ميلادية وحكم الإمبراطورية الرومانية، وفي المقابل كان البطريرك يحكم القسطنطينية التي كانت هدفا للفتوحات الإسلامية. يقول “جوناثان فيليبس” صاحب كتاب الجنود المقدسون: كان الإسلام هو القوة العظمى في القرون الوسطى، وكان المسلمون هم الأكثر ثراء وتقدما، ولو كنت أستشرف المستقبل في ذلك الوقت لكنت على يقين أن المستقبل سيكون حتما للإسلام والدولة الإسلامية.

تقدمت الجيوش الإسلامية من شبه الجزيرة العربية وفتحت بلادا جديدة ووحدتها تحت راية الإسلام، فتحوا القدس وبدأوا بالزحف نحو القسطنطينية، واجتاحوا ما يعرف بتركيا اليوم وباتوا على مقربة من القسطنطينية (إسطنبول حاليا).

استنجد إمبراطور القسطنطينية ألكسيوس الأول بالبابا أوربانوس الثاني لحمايته من المسلمين، وطلب منه توفير مئات من الفرسان للدفاع عنها أمام المسلمين، لكن ما حصل شيء مختلف، فقد كانت استجابة البابا جزئية مع الاستغاثة، لكنه وجد الفرصة سانحة لتوحيد مسيحيي الشرق والغرب، فقد كان أوربانوس بالإضافة لمنصبه الروحي رجل سياسة، وكانت تلك الفرصة مناسبة لتعزيز مكانته في قيادتهم، فدعا لتجمع طارئ لرجال الدين والفرسان والأهالي.

يرى “جوناثان فيليبس” أن خطبة البابا كانت من أشهر الخطابات في القرون الوسطى، فقد تحدث بدهاء عن معاناة المسيحيين في الشرق، وزعم أن أراضيهم سلبت، وأن المسلمين يقطعون أطراف الراهبات ورجال الدين والحجاج المسيحيين، لكنه لم يطالبهم بالدفاع عن الشرق فحسب، بل حثهم بالذهاب إلى القدس واستعادة الأراضي المقدسة، وكانت الاستجابة مذهلة وأخذ الناس يصيحون بإرادة الرب.

البابا هو رأس الهرم الأكبر في الديانة المسيحية يتبعه اليوم قرابة 1200 مليون إنسان

 

البابا أوربانوس الثاني.. حرب باسم الصليب لتحرير أرض المسيح

انطلقت الحروب الصليبية من الغرب بعد خطاب البابا أوربانوس الثاني الشهير، فقد كان البابا نوعا جديدا من البابوات، وشكل شخصية البابا الصارم القوي القادر على الحشد وتأليب الناس للقيام بأعمال باسم الرب، وبذلك أصبح البابا هو من يقود الحروب.

يعتبر “توماس مادين” أن الثقافة الجمعية لعبت دورا في تلك الحرب وتحشيد الناس، إذ ذهب ما يقرب من أربعين ألف مقاتل باتجاه الشرق باسم الصليب، وتوغلت أميالا في أراضي المسلمين، لكن دون استراتيجية محددة.

انطلقت الحملة من مقاطعة الراين ألمانيا حاليا، وقام الجنود بتدمير كل ما مروا به، وهاجموا اليهود في مقاطعة الراين، واعتبروهم مسؤولين عن قتل المسيح، وبذلك بدأوا بأعداء الكنيسة في أوطانهم، وقد شكلت مذابح مقاطعة الراين بداية لسلسلة حروب دينية دموية تحت قيادة البابا.

وصلت الحملة إلى آسيا الصغرى الخاضعة لسيطرة المسلمين، وتمكنوا من احتلال بلدة نيقية، ثم استولوا على أنطاكية بعد معركة عنيفة مع المسلمين، ومع انتصاراتهم المتلاحقة غير المتوقعة شعروا بالزهو ووضعوا هدفهم الأعظم نحو المدينة المقدسة وجوهرة التاج للديانة المسيحية مدينة القدس. يقول توماس مادين: كان يعتقدون أن مسقط رأس المسيح يرزح تحت الاحتلال، وهم مسؤولون عن تحريرها.

ويعتبر جمال إلياس أستاذ الدراسات الدينية والآسيوية أن الصلبيين كانوا عنيفين للغاية، فقد اعتدوا على الناس وبيوتهم ومارسوا الاغتصاب الجماعي وقتلوا الأطفال وأحرقوا أحياء بأكملها.

سقط بيت المقدس في أيدي الصليبيين سنة 1099 وبقيت تحت حكمهم 90 عاما حتى حررها صلاح الدين في عام 1187

 

سقوط بيت المقدس.. تسعون عاما من العنف في زهرة البلدان

تمكن الصليبيون من السيطرة على القدس في عام 1099، فأزالوا الهلال عن قبة الصخرة ووضعوا بدلا منه صليبا، وحولوها إلى كنيسة، ويعتبر جمال إلياس أن المسيحيين تحركوا بدافع السيطرة، وكانوا إقصائيين ومنعوا المسلمين من العيش في مناطقهم.

خضعت القدس لحكم الصليبين حتى عام 1187 عندما حررها صلاح الدين الأيوبي واسترد الأراضي المقدسة، وأدرك أوربانوس الثالث أن محاولة البابا السابق لحماية المسيحية كانت سببا في فنائها.

عندما استعاد صلاح الدين القدس رفض هدم كنيسة القيامة وأصر على الإبقاء عليها وفضل التسامح مع الأديان، وتعليقا على هذا يقول جمال إلياس: كان حكم صلاح الدين مختلفا عن حكم الصليبين، وكان يؤمن بالسلام والعيش المشترك بين الأديان الثلاثة.

وكرمز للشراكة بين الإسلام والمسيحية، أوكل صلاح الدين بمفاتيح كنيسة القيامة لعائلة مسلمة للقيام بإغلاق وفتح الكنيسة، ليس لهدف منع الناس من دخولها بل لحماية حق المسيحيين، ومنذ ثمانية قرون وحتى هذا اليوم تتولى عائلة الحسيني فتح وإغلاق أبواب أقدس الأماكن لدى المسيحيين.

يقول أديب الحسيني أمين مفتاح كنيسة القيامة: عندما آتي في الصباح أرى والدي وجدي وصلاح الدين ينتظرون فتح الباب، إنه لشرف عظيم تعجز عنه الكلمات، هذا المكان مقدس للجميع ونحن نحاول العيش فيه بسلام.

 

“نطلب الصفح عن استخدامنا العنف باسم الحق”

يقارن المتحدثون في الفيلم بين ما قام به صلاح الدين وبين دور البابوية اليوم في مواجهة الحروب الدينية، فبعد ألف عام من الحروب الصليبية الأولى ما زالت القدس من أكثر المناطق إثارة للنزاعات في العالم كله، ويقول جمال إلياس: يجد الناس تحديا كبيرا في الانسجام مع أناس يختلفون عنهم، وهذا ما نراه على مدار التاريخ.

يعتبر المسيحيون البابا صوت الضمير وصوت الحق، لأنه لا يتحدث باسم حزب أو مصلحة أو وطن، ففي عام 2000 قدم البابا يوحنا بطرس الثاني اعتذارا عن الحملات الصليبية والعنف الذي قام به الأسلاف، وقال: إننا نطلب الصفح عن استخدامنا العنف باسم الحق، وعن السلوك غير المبالي، وعن التصرفات العدوانية تجاه الديانات الأخرى.

اختار البابوات في العصر الحديث الاقتداء بصلاح الدين في دعوة للتعايش بسلام. تقول “آنثيا بتلر”: البابا هو القدوة للكاثوليكي ليعيش حياته كاثوليكيا.

وترى “سوزان وايز باور” أن سر البابوية في أنها تخاطب الحاجات الأكثر عمقا لدى الإنسان، فالناس يحتاجون لمن يعتني بهم، لاسيما مع القصور الذي يلازم المؤسسات، وهم بحاجة لمؤسسة تكرس نفسها لرعاية أبوية تخفف عن المكروبين وتقوم مسير الضالين، وهي حاجة لن تختفي أبدا.