“البابا”.. نهضة في أوروبا وانحطاط في أروقة الكنيسة

إنه أحد أقوى الرجال في العالم، ويشغل منصبا قائما منذ نحو ألفي عام، ورغم أن العالم يتغير والإيمان يتطور فإن سلطته بقيت صامدة، لقد بدأ الأمر بحواري واحد للمسيح، واليوم يتبع شخصا واحدا نحو 1.2 مليار في كل أنحاء العالم، إنه البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، وهذه قصة صعوده إلى السلطة.

تتعمق هذه السلسلة المكونة من ستة أجزاء في تاريخ أحد أكثر الشخصيات احتراما وتكريما في العالم، وتستكشف كل حلقة فترة زمنية مختلفة وموضوعا شكل دور البابا والكنيسة الكاثوليكية في ما هو عليه اليوم.

 

خاص-الوثائقية

تأتي الحلقة الثالثة من سلسلة “البابا” تحت عنوان “ثمن الهيبة”، ونتعرف فيها على شخصية البابا في عصر النهضة الذي كان عنوانا للازدهار والتطور الهائل على الصعيدين العلمي والفني.

لقد شكل ذلك العصر قفزة هائلة في عالم الفنون والإبداع في شتى المجالات، لكن هذا الجمال الأخاذ الذي ظل حاضرا حتى يومنا في روما أخفى وراءه صورة قاتمة وقبيحة في تاريخ الفاتيكان، تجسد الفساد فيها بأسوأ صوره، فظهرت المحسوبيات والرشاوى والصراعات القاتلة، إضافة للتورط في شبكات الجنس والجريمة، وبذلك خالفت البابوية المفهوم الروحي والإيماني والأخلاقي الذي كان من المفترض أن تكون عليه، فقد أسقط تمتع الكنيسة بالسلطة والمال أعلى رجالات الكنيسة منصبا في عالم الفساد والرذيلة المغلف بالبذخ والرفاهية.

وبعد الانقسامات التي شهدتها الكنيسة بين روما وفرنسا وظهور مرض الطاعون الذي فتك بأوروبا عموما وروما على وجه الخصوص، وبعد القرار الذي اتخذه البابا أخيرا في العودة إلى روما حيث قبر القديس بطرس؛ بزغ فجر جديد في المدينة ارتبط بازدهارها طرديا مع وجود البابوية فيها، وبدأت المدينة تستعيد عافيتها، إذ ظهرت طبقة من التجار الأثرياء في المجتمع الإيطالي، وعاد البذخ إلى الواجهة من جديد.

جداريات كثيرة كلفت الكنيسة في عصورها الوسطى أموالا طائلة لتبقى تحفا فنية يرتادها السائحون اليوم

 

أموال الكنيسة.. فن روما الملطخ بالفساد

في فترة عصر النهضة بدأت الحملات الاستكشافية تزحف للعالم الجديد في الأمريكيتين، بالإضافة لما كانت تشهده أوروبا من حركة تطور على الصعيد العلمي والصناعي وظهور مجموعة من الاختراعات كالساعة الآلية والآلة الطابعة.

أما على صعيد الفن، فقد بزغ نجم عدد من عباقرة الفن في عصر النهضة أمثال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ورفاييل الذين أشبعوا العاصمة روما وأثروها فنا وإبداعا، وقد بدأ للمرة الأولى تصوير البشر بأحجام كبيرة في الرسوم الجدارية التي زينت جدران الكنائس، وظهر البشر فيها بمكانه قريبة من الرب (حسب المعتقد المسيحي).

كانت هذه القفزة الهائلة في المخيلة الغربية تحت رعاية سلسلة متتالية من باباوات عصر النهضة الذين وهبوا روما طابعا فيه الكثير من الإبداع والبذخ المترف، يتجلى في اللوحات والمباني ككنيسة سيستينا ومتاحف كابيتولين، وكان تمويل هذا الجمال والإبداع -الذي تجلى في منجزات عصر النهضة- غالبا من أموال الكنيسة الفاسدة التي كانت نتاج المحسوبيات والرشاوى، مما يعكس جانبا آخر من الوحشية.

يقول “جيف فورتنبيري” رئيس جمعية المؤتمر الكاثوليكي في نبراسكا بالولايات المتحدة: كانت الكنيسة مؤسسة بشرية ضخمة تضم أشخاصا غارقين بالإثم يحاولون العيش وفق مقاييس الإيمان، لكنهم يسقطون دائما مهما كانت ألقابهم.

لم يكن تاريخ البابوية ناصعا على الدوام، فلقد شهد القرن الخامس عشر والذي يليه سلسلة كبيرة من الفضائح والعنف والفسق البابوي الذي لا حدود له. وكانت الكنيسة الكاثوليكية الكنيسة الوحيدة الفاعلة في تلك الحقبة، وكان يزداد نفوذ العضو في هذه المؤسسة المتعددة الجنسيات كلما ارتفع منصبه، بينما كان يشغل البابا منصب الرئيس التنفيذي لهذه المؤسسة.

اعتبرت إيطاليا في ذلك الوقت مكانا خطرا لأصحاب النفوذ، وقد تمتعت الكنيسة بثراء هائل بسبب ممتلكاتها من العقارات ومارست دور البنوك، وكانت تقدم القروض وتجمع الضرائب وتملك احتياطات ضخمة من الذهب والفضة، كونتها من تحالفاتها السياسية، واقترنت الثروة فيها مع النفوذ وبات الأوروبيون يتنافسون على إرضائها.

يقول “نيل جوردان” مؤلف مسلسل “آل بورجا” (The Borgias): عندما نقرأ أعمال شكسبير والمسرح اليعقوبي سنجد أن إيطاليا في ذلك الوقت، كانت مرتعا للشر والتعاملات المشبوهة والمؤامرات.

البابا يعيش مع زوجته وأولاده في كنف الكنيسة وينالون منها المناصب الرفيعة

 

إيطاليا النهضة.. مدن الثراء والدم وصراع العائلات

لم تكن إيطاليا في ذلك الوقت دولة بمفهوم الدول المعروف، لقد كانت مجموعة من الدول المدن وكانت الأسر الثرية حجر الزاوية للولاءات، وهذا ما يفسر وجود المافيات فيها، فقد كانت الأسر التي تحكم المدن في تنافس مستمر على الأراضي والأموال والنفوذ، وكان من أهمها مدينة ميلانو التي كانت تحكمها عائلة سفورزا، ومدينة فلورنسا التي حكمتها عائلة ميديتشي، أما روما فكانت مملكة البابا.

كان وجود أولاد للبابا أمرا شائعا في القرن الخامس عشر، أي أنه رب أسرة بعكس صورة البابا اليوم. تقول “سارة دونانت” مؤلفة كتاب “الدم والجمال”: سبقت هذه المرحلة العصر الفيكتوري، ورغم أن جميع الأشخاص الذين يديرون هذه المؤسسة الكبيرة يدركون أنهم لا يستطيعون الزواج، إلا أنهم لم يبدوا انزعاجا من ذلك لأن البابا سينجب أطفالا.

كان البابا يملأ مجمع الكرادلة بأبنائه وأبناء إخوته ليضمن بقاء السلطة في أسرته، ومن أبلغ الأمثلة على مدى الجنون الذي بلغته إيطاليا في عصر النهضة مؤامرة باتزي خلال سبعينيات القرن الخامس عشر، إبان عصر البابا سيكستوس الرابع، فقد كانت الأسر الإيطالية غارقة في الصراعات، وكان أحد أبناء أخوة البابا شريرا غريب الأطوار، يجد الخلاص من المشكلات في القضاء على عائلة ميديتشي في مدينة فلورنسا.

ترى “سوزان وايز باور” مؤلفة كتاب “تاريخ العالم في عصر النهضة” أن فكرة التخلص من هذه العائلة كانت فكرة مجنونة وغبية، لأنها عائلة كبيرة جدا.

وافق البابا على قتل لورانزوا ميديتشي وشقيقه، وجندت أسرة ديلا روفيري أفرادا من عائلة باتزي، وهي إمبراطورية مصرفية تعد ثاني أكبر الأسر ثراء في فلورنسا، وكان أعضاؤها ناقمين على أسرة ميديتشي لحصولها على مزايا غير عادلة، وفي قداس الأحد السادس والعشرين من أبريل/نيسان من عام 1478 تعرض الشقيقان ميديتشي للهجوم، فقتل شقيق لورانزو بينما تمكن هو من الفرار، وسرعان ما حشد قواته وقبض على القتلة وأعدمهم.

الكردينال الإسباني “رودريغو بورجا” الذي أصبح فيما بعد البابا الدكتاتور “ألكسندر السادس”

 

ألكسندر السادس.. بغال الفضة تحمل الإسباني إلى العرش

بعيد إبحار كريستوفر كولومبوس عام 1492 إلى العالم الجديد بأيام، وبينما انشغلت الأسر الإيطالية بالثأر من بعضها عقد 23 كردينالا واحدا من أكثر المجامع قسوة في تاريخ الفاتيكان.

فقد اجتمعوا لانتخاب البابا الذي سيقود أعدادا غير مسبوقة من الكاثوليك، ودارت نقاشات حادة في كنيسة سيستينا، إذ كان لكل أسرة كردينال في المجمع الكنسي، وتنافس فصيلان في المجمع على تولي عرش البابوية، كان أحدهما يقوده الكردينال اسكانيو سفورزا ومنافسه يدعى جوليانو ديلا روفيري، وهو ابن أخ البابا سيكستوس الرابع، وقد ورث عن عمه طموحا غير محدود، وتميز بالدهاء والقسوة وصمم على الوصول إلى السلطة عن طريق دفع الرشا، فعلى الرغم من أن الكنيسة مؤسسة دينية فإنها في الوقت نفسه دنيوية يقودها البشر، وكثيرا ما تقترن السلطة بالفساد.

بينما كانت الأسرتان تتعاركان على السطح، كان هناك من يعمل بالخفاء، إنه الكردينال الإسباني رودريغو بورجا الذي ارتقى في سلم الكنيسة بثبات ودخل المعترك الكنسي منذ نعومة أظفاره، لقد كان هو الحصان الأسود، وكان مطلعا على أسرار الكنيسة الداخلية، وعاصر خمسة بابوات، ورغم أنه كان أقوى الأعضاء فإنه كان خارج دائرة المنافسة لكونه إسبانيا.

تمتع بورجا بخبرات سياسية داخل الفاتيكان، وفي اليوم الرابع من اجتماعات المجمع الكنسي، بدأ في تنفيذ خطته إذ انطلقت ستة بغال محملة بالفضة من قصر بورجا إلى قصر أحد منافسيه، وهو الكاردينال اسكانيو سفورزا، ومن خلال اتفاق وقع بينهما اشترى رودريغو بورجا البابوية واتخذ اسم البابا ألكسندر السادس، كان ذلك في عام 1492.

أحاط البابا الجديد نفسه بمجموعة من الرجال الأوفياء ووضع أبناءه في أعلى المراكز، وزوج أبناءه لبنات الأمراء ذوي السلطة في المقاطعات المجاورة، وعين ابنه كردينالا وزوده بالمال من الكنيسة، لقد كان البابا ألكسندر السادس يخطط لتصبح عائلة بورجا سلالة حاكمة.

حصلت الكنيسة في إسبانيا على حصة الأسد من البرازيل بمرسوم بابوي أصدره “ألكسندر السادس” في عام 1493

 

تقسيم المستعمرات الأمريكية.. بابا برتبة زعيم عصابة

مع تعزيز سلطة البابا أصبحت البابوية مؤسسة متعددة الجنسيات، وبذلك احتاجت لإدارة واسعة، ويعد البابا ألكسندر السادس مؤسس الدبلوماسية الحديثة، فهو الذي ابتكر تعيين سفراء في “المدن الدول”، كما أنه بدأ بتطبيق ذلك في الدول الكبرى شمال أوروبا.

كان سفراء البابا يعيشون مع رجال الدين في البلاد التي يرسلون إليها، لكنهم كانوا يتبعون للفاتيكان، كما أنه طلب من كولومبوس أن يكتب له رسائل يتحدث فيها عن عجائب وأسرار البلاد المكتشفة وعن السكان وتفاصيل حياتهم.

وفعلا التزم كولومبوس بذلك فكان يكتب للبابا كل شيء لاستمالته نحو الموقف الإسباني، فقد كان الإسبان والبرتغاليون يتنازعون على تقسيم تلك البلاد الجديدة، وكادت الحرب تشتعل بينهم، لكنهم لجأوا للبابا وهو من قام  بترسيم الحدود ووضع خطا أعطى شرقه للبرتغال، وهكذا أصبحت البرازيل مستعمرة برتغالية، بينما حصلت إسبانيا على حصة الأسد ومنحها معظم الأراضي من خلال مرسوم بابوي أصدره في الثاني عشر من مايو/ أيار عام 1493، وفي مقابل ذلك تلقى رشوة لابنه الثاني، وهذا المرسوم وضع أراضي بلاد العالم الجديد لمئات السنين تحت وطأة النهب والسلب وتدمير سكانها الأصليين.

استطاع البابا ألكسندر السادس تخويف الناس وترهيبهم، فقد تمتع بذكاء حاد، ويرى “نيل جوردان” بأنه تصرف مثل زعماء المافيا أمثال “مارلين براندو” في فيلم “العراب”، وكان يستمتع بالمزايا التي توفرها له السلطة، وعرف بأنه إداري فذ سعى لإثراء نفسه.

عشيقة البابا “ألكسندر السادس” الجميلة “جوليا فارنيز” ابنة الخامسة عشرة وهبها أخوها للبابا مقابل منصب كاردينال

 

حفلة الكستناء.. عشاء المومسات في حضرة البابا

لم تقتصر مظاهر الفساد لدى البابا ألكسندر السادس على الجانب المادي، بل تعداها إلى الجانب الجنسي، وشكلت واقعة مأدبة الكستناء مثالا صارخا على الشهوانية في عهده، حين دعيت عشرات المومسات إلى حفل عشاء، ثم تجرد الجميع من ملابسهم وأكلوا الكستناء بأوضاع مختلفة، وكان البابا حاضرا.

كما أن البابا كانت له عشيقة في القصر البابوي، وهي الشابة الجميلة جوليا فارنيز، وهي ابنة لأسرة ثرية منح أخوها صفة كاردينال مقابل أن تكون عشيقة للبابا، كان عمرها في ذلك الوقت خمسة عشر عاما، أما هو فكان في الستين من عمره، وقد أنجب منها طفلا.

يقول “إيمون دافي” أستاذ تاريخ المسيحية: قد يكون هذا الأمر بالنسبة لنا حزمة من التناقضات، كيف يكون لرجال من المفترض أن يكونوا على درجة من التقوى، وهم في الوقت نفسه يعيشون هذه الدرجة من التناقض، وهو نوع من التقليد اللاتيني في التفريق بين الرجل ومنصبه، فالناس يميلون لاحترام المنصب، حتى على الرغم من علمهم أن من يشغله ليس معصوما من الخطأ.

أما “جيف فورتنبيري” فيرى أن “لدى الإنسان الحديث مشكلة، لأن يسوع كان إلها وإنسانا في الوقت نفسه، والإنسان مكون من جسد وروح، والكنيسة تجمع بين العدالة والقانون والرحمة والغفران”. وتشاركه “سارة دونانت” هذا الرأي بقولها: الخطايا من طبع البشر، ولولا وجودها ما كانت هناك كنيسة لتخلصه من الخطايا.

مولت الكنيسة بذخها وإسرافها في رسم الجداريات من أموال صكوك الغفران التي كان يجمعها البابا

 

صكوك الغفران.. تكاليف كنوز الفن الآثمة

كان البابا يحصل على التمويل لآثامه من خلال بيع صكوك الغفران التي كانت تقدمها الكنيسة مقابل الخلاص، فإذا نوى المرء على فعل خطيئة، فلا مانع من شراء صك المغفرة مقدما.

ورغم التشكيك في أخلاقيتها، فقد مولت صكوك الغفران تكاليف الكنوز التي ارتبطت بالكنيسة الحديثة وجها مشرقا ووجها مذلا، جسدا سمات عصر النهضة، فبالرغم من أنه كان بابا فاسدا، فإنه كان راعيا كبيرا للفن، فقد رمم كنيسة سانت أنجلو وبنى مركزا لجامعة روما، ورسم له مايكل أنجلو مخططات لإعادة بناء كنيسة القديس بطرس.

ويرى “إيمون دافي” أن “علينا تقبل أن هذه الإبداعات كانت نتيجة خطيئة، لكنها بحد ذاتها ليست إثما، إنها أعمال رائعة والعالم أفضل حالا بوجودها”.

رعى البابا الكثير من الأعمال باسم الرب وباسم أسرته، بل يقال إن صورة المسيح كما جسدتها الكنيسة الحديثة ما كانت إلا صورة سيزار الابن الأكبر للبابا.

الملك الفرنسي شارل الثامن يقبل دعوة البابا ألكسندر السادس للإقامة معه في الفاتيكان مقابل عدم غزو روما

 

“أنا لن أخلعه”.. شارل الثامن يغزو بلاد الفاتيكان

بينما كان البابا يجمع الرشا لتزيين زخرفة الفاتيكان، كان أحد ألد أعدائه القدامى يتحضر لإسقاطه، ألا وهو جوليانو ديلا روفيري الذي كان رجلا عصبي المزاج وعدوانيا، بخلاف ألكسندر السادس الذي تمتع لشخصية دبلوماسية آسرة.

كان ديلا روفيري ساخطا جدا بعد خسارته التصويت في مجمع الكرادلة لمنصب البابوية، وقرر تدمير عدوه، فرحل إلى فرنسا وأقام علاقات مع ملكها شارل الثامن، وأقنعه باحتلال نابولي والزحف باتجاه روما لخلع البابا.

بعد عامين من تسلم البابا منصبه تدفقت الجيوش الفرنسية إلى نابولي ثم إلى روما، وقد استعد البلاط البابوي للفرار لأن البابا لم يكن لديه جيش يوقف به 25 ألف جندي فرنسي، لكنه عدل عن رأيه وصمم الدفاع عن روما والكنيسة، ووجه دعوة للملك شارل الثامن للإقامة معه في الفاتيكان، وهناك أثار البابا إعجاب الملك لدرجة أن شارل قال: “إذن هذه هي الحقيقة، أنا لن أخلعه”، وبهذا نجح بدبلوماسيته الفائقة في الحفاظ على الكنيسة وروما.

الراهب الأصولي “جيرلامو سافونارولا” الذي ثار ضد البابا “ألكسندر السادس” بسبب فساده، لكن الأخير اتهمه بالهرطقة ومن ثم أعدمه

 

“حريق الغرور”.. ثورة الراهب التي أزعجت الكنيسة

لم يكن “جوليانو ديلا روفيري” العدو الوحيد للبابا “ألكسندر السادس”، ففي حين كانت البابوية مزدهرة وتغرق في الفساد، ظهر في فلورنسا الراهب الأصولي “جيرلامو سافونارولا” الذي تعهد بالفقر والزهد والطاعة، وكان متمسكا بالتعاليم المقدسة، وكان واعظا موهوبا يحفظ الإنجيل، ورأى أن النهضة هي بداية الجحيم على الأرض، وقد انجذب إليه الآلاف وحمّل البابا مسؤولية الزحف الفرنسي، وادعى أن الرب يعاقب الإيطاليين على مذهب المتعة.

يقول “ديرميد مكالوخ” مؤلف كتاب “تاريخ فرنسا”: أثناء الغزو الفرنسي لإيطاليا لأول مرة منذ عقود، بدأ العالم يقترب من النهاية، وأخذ سافونارولا يحذر العالم من وقوع المحظور، فقد نجح في إخافة الناس، وكان يقول لهم انظروا إلى تلك الجدران من حولنا لم نكن نرى في الماضي سوى صور القديسين ومريم العذراء ويسوع، اليوم أصبحنا نرى أناسا من لحم ودم، ونرى من أجسادهم أكثر من اللازم، هذا جسد وليس روحا، إننا نبتعد عن الصراط السوي، والرب يعاقبنا.

تجاهل البابا هذا كله باعتباره ظاهرة عابرة، لكن الراهب بدأ يحشد الدعم في فلورنسا وينشر كتابات صادمة عن البابا في روما، ورغم ذلك فقد قلل البابا من شأنه، وفي عام 1497 قدم عرضا صاخبا لتمرده، حيث جمع الكثير من الأقمشة واللوحات على أنها من لوازم الترف وقام بإضرام النار فيها كناية على نهاية العالم.

تعرف هذه الواقعة باسم “حريق الغرور”، لقد كان ذكيا وكانت ضربة قوية على الملأ استطاع أن يحشد لها الناس، وكانت لحظة تاريخية تجسد المفارقات بين الترف والتطرف، وحينها أدرك البابا أنه لم يعد بوسعه التغاضي عن أفعال “سافونارولا” فأعلن أن الحريق حرب على الكنيسة، وأتهمه بالهرطقة وحرمه من الغفران لتخويف الناس، لأن البابا رأس السلطة وهو من يمنح المغفرة، لذا سيذهب إلى الجحيم، ثم قام بإعدامه حرقا في 23 مايو/أيار عام 1498.

البابا يوليوس الثاني يخلف “ألكسندر السادس” بعد موته بداء الملاريا

 

مصرع البابا.. بعوضة تكتب السطر الأخير

بعد الإمبراطورية التي أقامها البابا “ألكسندر السادس” وتأسيسه للدبلوماسية ورعاية الأعمال الفنية وقيادته لإحدى أكثر البابويات انحرافا في تاريخ الفاتيكان؛ أصيب بالملاريا عام 1503 وتوفي مباشرة، كان ذلك سقوطا مدويا فقد أنهت لسعة بعوضة طموحاته كلها، ليرثه عدوه “جوليانو ديلا روفيري” بعد ثلاثة شهور من وفاته، وليصبح البابا يوليوس الثاني.

يقول “جيرالد ماير” مؤلف كتاب “عائلة بورجا.. التاريخ الخفي”: لم يصل يوليوس الثاني إلى البابوية عن طريق التصويت لكونه رجلا متدينا، لكنه استطاع أن ينزع عرش البابوية عن طريق ترهيب الآخرين، وأصبح مهوسا بالسلطة، ودفعه حقده لتدمير خصمه وكل ما بناه.

كان سيزار ابن ألكسندر السادس يمسك بمفاتيح المملكة، ومنح السلطة والسيطرة على الجيش، لكن عندما وصل البابا يوليوس الثاني إلى العرش البابوي قام بسجنه وتجريده من لقبه ثم قتله.

تولى “يوليوس الثاني” التشهير بعائلة “ألكسندر السادس” واتهم ابنته “لوكريسيا” بممارسة الرذيلة

 

يوليوس الثاني.. بذخ وانتقام وفن في أكناف البابا المحارب

بدأ البابا الجديد بترويج الشائعات السيئة عن عائلة سلفه بورجا، ومن ذلك قوله إن لوكريسيا ابنة ألكسندر السادس كانت مومسا، ومارست الرذيلة مع أبيها وأخيها. تقول “سارة دونانت”: ليس هناك إثبات تاريخي على تلك الممارسات في عائلة بورجا، لكن هذا لا يعني أن التهمة غير صحيحة، رغم أنها أشبه بمبالغة الصحف الصفراء في يومنا الحاضر.

استمر البابا يوليوس الثاني بالتشهير بعائلة بورجا، فوسم سلوكهم بالرذيلة وقرر إغلاق المكان الذي عاشوا فيه في الفاتيكان بحجة أنها منازل ملوثة بالشرور، وبقيت شقق عائلة “بورجا” مغلقة حتى القرن التاسع عشر، وهي مفتوحة اليوم للسياح ويؤمها خمسة ملايين إنسان سنويا، وهي من أكثر الأماكن جاذبية في الفاتيكان.

ورغم ما أشاعه يوليوس الثاني عن عائلة بورجا فإن حياته كانت أشد بذخا، فقد كان راعيا لمايكل أنجلو، وطلب منه إنجاز قبة كنيسة القديس بطرس، وقد رعى أشهر عمل في تاريخ الفاتيكان الحديث، وهو سقف كنيسة “سيستينا”، لقد كانت لديه دوافع شخصية لتخليد اسمه، وطلب من مايكل أنجلو أيضا البدء بضريح يوليوس لكنه لم يكتمل.

ازدهرت البابوية في عهد يوليوس الثاني أكثر من أي وقت مضى، وقد كان محاربا يذهب مع جنوده للقتال وهو يرتدي درعا فضيا، وظل متفانيا في عمله حتى وفاته عام 1513.

الفتى المطلي بالذهب، في حفل أقامه البابا الجديد “ليو العاشر” الذي عرف ببذخه الذي فاق كل الحدود

 

ليو العاشر.. نبوءة مقتل الصبي المطلي بالذهب

حين هوى نجم يوليوس الثاني بوفاته بدأت أسرة إيطالية أخرى تحضر نفسها للاستيلاء على العرش البابوي، وهي عائلة ميديتشي، وقد اختير منها جيوفاني دي ميديتشي البابا الشاب الذي أخذ لقب ليو العاشر.

عرف “ليو العاشر” ببذخه الذي فاق كل الحدود وإسرافه الذي لا حدود له، فقد كان مولعا بالملذات ويحب المسرح والموسيقى والفنون. يرى “إيمون دافي” أن البابا ليو العاشر وعائلة ميديتشي يمثلون الجانب المجيد من البابوية في القرن السادس عشر، وكذلك كانوا ألد أعدائها، وهم من الذين عقدوا تحالفا بين البابوية والفنون وفساد المسيحية الحديثة.

أقام ليو العاشر احتفالية لتوليه منصبه في فلورنسا، وقد اشتملت المراسم على طلاء فتى صغير بالذهب، لكن الفتى توفي أثناء الاحتفال نتيجة تسممه بالطلاء، ورأي كثيرون أن موت الصبي الذهبي رمز لنبوءة مروعة حذر منها سافونارولا، إنها تجسيد للموت بسبب إسراف الكنيسة الكاثوليكية.

بابا الفاتيكان “فرانسيس” حاز على لقب بابا الشعب لأنه كان يركب الحافلة ويدفع الفواتير بنفسه

 

فرانسيس الأول.. بابا الشعب في الحافلة

اكتسب البابا “فرانسيس” لقب بابا الشعب لأنه كان يركب الحافلة ويدفع الفواتير بنفسه، فهو لا يريد سلطة أو نفوذا، إذ يستيقظ في الخامسة صباحا ويعمل حتى العاشرة ليلا. ويرى “إيمون دافي” في سلوكه الكثير من التركيز الذي يحترمه، لكن لو تصرف الجميع بهذه الطريقة فسيصبح العالم مروعا.

مارس باباوات عصر النهضة حياتهم بطريقة مغايرة تماما، فكانوا يأخذون إجازات ويقيمون الحفلات ويصنعون الجمال الذي كان ثمنه الخطيئة، ووصلت الكنيسة حافة الانهيار بسبب الجرائم التي اقترفتها الأسر الإيطالية المسرفة المتعطشة للسلطة، حتى وصلت في نهاية القرن السادس عشر إلى الإفلاس الروحي والمادي، وبذلك شوهت الكنيسة صورة المسيح.

لكن السؤال المتناقض هو أننا عندما تقف أمام تلك الأعمال الخالدة لعباقرة الفن في عصر النهضة نتساءل هل سنعجب بتلك الأعمال وهل تجسد تلك الأعمال المسيحية؟ لقد اختلط الفساد المالي مع الإبداع بعلاقة غير بريئة، لكن لا يمكن الفصل بينهما بأي حال.

ما تتمتع به الفاتيكان اليوم من قوة هو إرث خلفته عائلات بورجا وميديتشي وديلا روفيري الفاسدة، إلى أن أضحت الفاتيكان مستودعا للنفائس من الأعمال الفنية العظيمة.