البحث عن فريدة.. هولندية تخبرها مِرْآتها أنها إيرانية

خاص-الوثائقية

على جدران منزلها تعلق صورا توثق مراحلها العمرية، وتقول “كلما نظرت في المرآة أردت أن أعرف من أين ورثت هذه الملامح، من أين ورثت هذه العيون، ومن أكون؟ عدم معرفة من أكون أو عدم البحث على الأقل يشعرني بالنقص”.

اسمها الرسمي “إيلين” وتعرف بفريدة، لكنها تخوض صراعا قويا من أجل أن تكون زهرة أو أقدس أو فاطمة أو أي فتاة أخرى ضاعت قبل أربعين عاما في بلد بعيد وفي ثقافة مختلفة، وعندما بدأت “إيلين” تعقل لاحظت أنها تختلف جذريا عن أبويها، فبشرتها سمراء وشعرها مجعد وعيناها سوداوان، بينما عيونهما زرقاء وشعرهما أشقر وبشرتهما بيضاء مثل غيرهما من الهولنديين والأوروبيين.

“البحث عن فريدة” فيلم بثته الجزيرة الوثائقية ويحكي قصة أربعينية من أمستردام الهولندية تبحث عن ذاتها وقدرها ووجودها في مدينة مشهد الإيرانية.

 

سمراء في أحضان عائلة بيضاء

في يوم ماطر بأمستردام تستقل فريدة قطارا يمر بجانب الحقول والحدائق الجميلة، وتلتقي بصديقات هولنديات فيتجاذبن أطراف الحديث وتبدو منسجمة مع الثقافة والمجتمع، لكنها مشتتة من الداخل ويسكنها وجع الغربة والحيرة والضياع، إذ تؤمن بأنها لا تنتمي لهذا المكان ويشغلها التنقيب في الماضي عن التركيز على الحاضر أو التطلع للمستقبل.

تقول فريدة: أنا وصديقاتي على وشك بلوغ الأربعين عاما، يعشن مع أزواجهن وينجبن الأطفال بينما كنت أنا مشغولة بماضيّ لسنوات. ذكرياتي الأولى عن طفولتي كانت في قرية “لورنسلوت”، والدي كان طبيبا ويحب الأثاث العتيق، أمي ذات أصول هولندية وبريطانية وتحب الاهتمام بالآخرين.

عندما كانت أمها حاملا بأخيها “راؤول” أوضحت لها كل شيء، فالطفل القادم سيخرج من أحشاء السيدة الهولندية، بينما فريدة جاءت من عالم آخر. وتذكر فريدة مولد أخيها “راؤول” ذي العينين الزرقاوين، ويعرض الفيلم مقطع فيديو قديم لها ولأخيها، ويظهر فيه التباين الواضح بين ملامحهما.

وفي أمستردام رجل يشاركها ذات المحنة، إنه قريبها “بيرتيان” الذي توفي عنه والده وهو ابن 5 سنوات، واكتشف حديثا أنه لم يكن والده البيولوجي، حيث يتحدثان عن العائلة كثيرا ويتشاركان الأفكار والمشاعر.

تقول فريدة عن أبويها الهولنديين: كان يؤلمني الشعور بأنهما ليسا سعيدين بوجودي، لم أشعر أنهما مبتهجين، ولكن يمكنني التحرر من ألمي وخيبتي، ولطالما شعرت بأنني لم أكن ابنة صالحة وأنه لا يمكنني تغيير طبيعتي، وقد فشلت في هذا الأمر. سأتخلص من هذا الشعور، من الآن فصاعدا سينصب تركيزي على قوتي ونفسيتي ولن أخرج عن طبيعتي، ولا داعي لأن أتصرف بشكل مختلف.

تتحدث فريدة عن طفولتها وعن مظهرها في المدرسة، حيث كان شكلها مختلفا عن باقي الفتيات، وكانت تتعرض للتنمر بسبب ذلك، وكانت تشعر بالوحدة في المنزل ولم تجرؤ على إخبار والديها بالتنمر الذي تتعرض له في المدرسة. وتروي: كنت أخجل من مظهري وأصبحت فتاة خجولة جدا، كانوا يقولون إنني لا أعرف من تكون أمي الحقيقية، وهذا كلام جارح حقا.

المظهر المختلف لفريدة كان محط تنمر وازدراء من قبل التلاميذ

 

طفلة عند ضريح الإمام الرضا.. رحلة إلى الماضي

تقول فريدة: بدأت علاقتي بوالديّ تسوء حين بدأت أعبر عن أفكاري وأسألهما عن حياتهما وعن الماضي، وكانت جدتي تقول لي دائما إنني يجب أن أكون ممتنة لوجودي هنا، فلو بقيت هناك فمن يعلم ما كان سيحل بي.

الألم الذي تعيشه فريدة سببه قرار اتخذته عائلة إيرانية قبل 38 عاما، عندما رمت بطفلة أمام ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد الإيرانية. تقول: قبل 38 عاما تبنتني عائلتي وأنا في إيران، وقد جُبت العالم لكنني لم أعد لإيران لأن الخوف كان يرافقني، وحين بدأت البحث تعرفت إلى الجانب الإيراني من شخصيتي، فبدأت أحتفل بالأعياد الإيرانية، وأقرأ كتبا عن إيران، وأحضر حفلات موسيقية، وأشجع منتخب إيران في كأس العالم.

أصبحت فريدة ترتاد صالون تجميل إيراني، وفي أثناء الماكياج تتعلم كلمات من الفارسية، وتتحدث لمصففة الشعر عن توقها لزيارة إيران، وفي هذا المحور تكشف فريدة عن عزمها إجراء اتصال عبر سكايب مع رجل يدعى علي أكبر الذي لا يساوره أدنى شك في أنه والدها، إذ أنه تخلص من ابنته الرضيعة قبل 38 عاما أمام ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد الإيرانية، وعندما قرأ قصة فريدة في صحيفة محلية اعتبر أن الأقدار ساقت له ابنته التي فرط فيها.

لقد اختارت فريدة الدخول في مغامرة عاطفية ووجودية، وقررت زيارة إيران لتلتقي بعلي أكبر وعوائل أخرى سبق أن تخلصت من فتيات رضيعات أمام ذات الضريح.

أثناء محادثة سكايب، سألها: متى ستأتين؟ فردت: بعد أسبوعين، وعندما سألته عما إذا كان سيستقبلها عند محطة القطار في مشهد، رد بالقول: كل أفراد العائلة الـ15 يودون المشاركة في المحادثة، وسيحضر جيش من عائلتنا لاستقبالك في المحطة. وهنا دمعت عيناها.

تقول فريدة: قبل بضعة أعوام بدأت أنظر لنفسي من الداخل، وقررت البحث عن عائلتي البيولوجية لعلّي أجدها، فراسلت محاميا في طهران ووجد ملفي في الحضانة، ثم سمعت أنني تُركت في حضانة في مشهد عندما كان عمري ستة أشهر، وبعد 10 أشهر نقلت إلى حضانة في العاصمة في طهران، ورسمت لي الأقدار مسارا راقيا وآمنا، لكنه مشحون بالألم والبعد والتشظي.

فريدة تُطلع والديها الهولنديين على مكالمة عبر سكايب بينها وبين “علي أكبر” الذي تظن أنه والدها البيولوجي

 

قصة في الصحافة الإيرانية.. خيط البحث الأول

عندما أرسلت فريدة قصة حياتها إلى صحيفة محلية ونشرتها على الفور، ردت على المقال ثلاث عائلات تزعم كل منها أنها عائلتها البيولوجية، وبعد الحديث إلى الشائب الأسمر علي أكبر، التحقت فريدة بعائلتها في أحد أحياء أمستردام، وأثناء تناول العشاء خاطبتهم قائلة: أود أن أطلعكم على شيء إن كنتم لا تمانعون، إنها مكالمة عبر سكايب بيني وبين علي أكبر الذي تحدثت معه قبل فترة وجيزة.

وهنا تدخل والدها المسنّ الهولندي قائلا: أخبريني من هو علي أكبر رجاء.
فأجابت: علي أكبر رجل رد على المقال الذي نشرته في الصحيفة العام الماضي، وهو مقتنع أنني ابنته، ويقول إن قلبينا متصلان، لقد دعا طوال حياته من أجل أن يجد ابنته من جديد. لكننا لن نعرف الحقيقة الا بعد صدور نتيجة التحليل، ولذا دائما أقول له إنني لست ابنته أقدس، وهي ابنة علي أكبر المفقودة، وذلك حتى لا تصيبهم خيبة أمل كبيرة.

وعندما سأل والدها الهولندي: هل تتطابق الحقائق والمعلومات مع بعضها، ردت فريدة: نعم، حسب قوله.

أبدى والداها الهولنديان تشجيعا لجهودها من أجل العثور على حقيقة ماضيها، بينما ربت أخوها على كتفها لتهدئتها عندما دمعت عيناها، ولاحقا استعادت فريدة حماسها وأخبرت زملاءها بأنها مسافرة إلى إيران، أولا إلى العاصمة طهران ومنها إلى مشهد عبر القطار. “إنه المكان الذي وجدتني فيه الشرطة عندما كنت رضيعة، وهناك ألتقي الناس الذين سأجري معهم تحليل الحمض النووي. لقد وجدتني الشرطة، تبنّاني والديّ وانتهى بي الحال جالسة هنا”.

أجرت فريدة اتصالا آخر بشابة إيرانية تدعى نيغار كانت راسلتها سابقا بعد أن قرأت قصتها في الصحيفة المحلية التي نشرت تحت عنوان “البحث عن فريدة”، وقد عرضت نيغار مساعدة فريدة حين تصل إلى إيران، وعندما أطلعتها على تاريخ سفرها، خاطبتها قائلة: ينتظرك الكثير من المغامرات هنا.

استفسرت فريدة عن وضع المرأة في إيران وعن ما إذا كانت ثمة أمور يجب أن تعرفها، فردت نيغار: عليك أن ترتدي الحجاب، لكن قانون الحجاب ليس صارما جدا.

ثلاث عائلات مختلفة في استقبال ابنتهم المفترضة؛ أقدس، فاطمة أو ربما زهرة

 

أمشي في طهران وأذوب في الحشود.. أنا واحدة منهم

في المطار بأمستردام بدت فريدة سعيدة جدا ومفعمة بالحيوية والأمل، وقد حضر والداها لوداعها، وتمنّيا لها رحلة مشوقة وأوصياها أن تعتني بنفسها، وحينها ودعت فريدة عائلتها وتابعت طريقها إلى البوابة، لتصعد طائرة الخطوط الإيرانية المتجهة إلى مطار الخميني الدولي في طهران، حيث تقول: حلمي الذي طال انتظاره سيتحقق اليوم، لا أصدق هذا، سأترك ألمي ورائي في هولندا، ألمي الذي سببه التبني وبعدي عن إيران. وحينما أُعلن عن بدء الهبوط التدريجي غمرتها السعادة، ومن الجو بدت سماء طهران مرصعة بالنجوم، فأومأت من النافذة وضحكت للمدينة التي أحبتها قبل أن تزورها.

كانت نيغار في الاستقبال في المطار وعلقت فريدة على اللحظة بالقول: أنا متحمسة جدا، فمن الغريب أن أمشي هنا وأفكر في أن هذا شعبي، ومنذ وصولي رأيت العديد من الوجوه الملفتة ذات العيون والتعابير المميزة. لقد كنت أفكر في هذه الخطوة منذ عشر سنوات، ولم يشجعني الكثير من الناس ولذلك ترددت كثيرا.

وبينما كانت تتعرف على معالم مدينة طهران، كانت تقول: علاقتي بإيران لم تتجاوز نشرات الأخبار، وحين كنت طفلة كنت أرى صور الحرب في العراق والنساء اللواتي يرتدين عباءات سوداء، وأعطتني تلك الصور انطباعا سيئا عن إيران. لطالما ظن والداي أن زيارة إيران خطيرة وكنت أصدقهما، ولكن منذ لحظة وصولي لإيران شعرت بالانتماء، فبدأت عيناي تبرقان وغمرت البهجة قلبي، وودت لو أنني أستطيع أن أرقص وأقفز، تعبيرا عن كل الحب الذي يسري في عروقي. إنني أمشي في طهران وأذوب في الحشود، أنا واحدة منهم.

زارت فريدة الحضانة ووقفت على ذات الدرج الذي التقطت لها فيه صورة وهي رضيعة بين ذراعي والدتها الهولندية لحظة إتمام إجراءات التبني، وفي هذا المحور تحدثت عن طفولتها وعن الظروف التي ساقت لها الزوجين الهولنديين عندما كانت في حضانة بالعاصمة طهران، وذلك بعد عانت أمها الهولندية من حالات إجهاض متتالية ليقرر الزوجان تبني طفل، وكانت خالتها في تلك الفترة تقيم في إيران حيث يعمل زوجها.

تقول فريدة: اقترحت خالتي عليهما تبني طفل من دار الأيتام في طهران، وهو مكان دخلتُ فيه كفريدة اليتيمة، وخرجت منه “إيلين” ابنة والدين هولنديين.

العائلات الثلاث ينتظرون على أحر من جمر نتائج تحليل الـ”دي إن إيه” للكشف عن انتماء فريدة

 

“أقسم إنها ابنتي”.. لقاء حار بين أم وابنتها

توجهت فريدة من دار الأيتام إلى محطة القطار لتبدأ رحلتها إلى مشهد حيث كتبت قصة المأساة قبل 38 عاما، وحين استيقظت في الصباح وهي في القطار كانت غير بعيدة من مشهد المدينة التي ولدت فيها. تقول: حين نهضت كان قلبي يخفق، إذ لا تفصلني عن المدينة التي ولدت فيها سوى ساعات قليلة، أصبحت أقرب إلى ماضيّ أكثر من أي وقت مضى، وأنا على استعداد تام لمواجهته.

كان علي أكبر في الانتظار، ولكنه لم يكن وحيدا، فهناك عائلتان أخريان تدعي كل منهما أن فريدة ابنتها، وجميعهم استقبلوها بالورود والعناق والبكاء، حتى أن إحدى السيدات اللواتي استقبلن فريدة عند محطة القطار صرخت: أقسم إنها ابنتي، يا إلهي لقد أعدت إلي فلذة كبدي التي أضعتها، لقد تركت علامة على يد ابنتي، لقد استجاب إلهي لدعائي، شعرها مجعد مثل شعري.

في الصباح الموالي اعتبرت الصحافة المحلية أن فريدة تعرفت فعلا على عائلتها وكتبت إحدى الجرائد خبرا تحت عنوان “لقاء حار بين أم وابنتها بعد فراق دام 37 عاما”، لكن الصحافة استعجلت، فنتائج الحمض النووي لن تظهر قبل أربعة أشهر، وخلال هذه المدة تجولت فريدة في مشهد وحضرت ولائم أقامتها على شرفها العوائل المتنازعة عليها، وعندما زارت حرم الإمام الرضا في مشهد، علقت قائلة: تركت في هذا المكان -أي في حرم الإمام الرضا في مشهد- في صيف عام 1976 حين كان عمري 6 أشهر، لكن من الذي تركني هنا؟

علي أكبر في جلسة ذكريات مع ابنته المفترضة “أقدس” التي تركها يوما ما أمام الضريح

 

أقدس.. ضحية اختفاء أم فاجرة

قام علي أكبر باصطحاب فريدة إلى بيته وقدمها لوالده وعائلته قائلا: هذه ابنتي “أقدس” التي كانت مفقودة، وكانت تقول إنها لن تتزوج حتى تعثر على والدها، انظروا، يملك كلانا شامة في نفس المكان، لقد قالت إنها تريد أن تقابل جدها ليخبرها كيف تُركت في حرم الإمام الرضا، أخبرتها أن جدتها هي من تركتها هناك.

تدخّل والد علي أكبر (الجد) ليروي لفريدة قصة رمي أقدس عند الضريح: عندما لا تكون الزوجة مخلصة لزوجها يستحسن أن ترحل ولا يبقى لها أثر في حياته، كانت زوجة علي أكبر امرأة فاجرة وسمعت عنها الكثير من الأمور المخزية، فقلت لابني أن ينفصل عن تلك المرأة الخبيثة وأن يطلقها، وبعد أن أنجبت الطفلة تركتها عندنا، وبعد فترة قصيرة تزوجت وانتقلت من مشهد.

ويتابع حديثه عن ما بعد رحيل أم أقدس عن مشهد: ليس من صالح الطفل أن يبقى وحده في المنزل بلا أم ترعاه فيضعف ويهزل، ويعتبر حرم الإمام الرضا ملجأ للجميع، فقد قال الإمام إنه معنا أينما كنا، حتى لو كنا في أرض بعيدة كاليمن التي تعيش حالة حرب ويشتد فيها القتال الآن.

ثم ختم العجوز حديثه بالقول: أحمد الله أننا التقينا مجددا.

الرواية المعتمدة هي أن أقدس ولدت بعد انفصال والديها فتكفلت أمها برعايتها لثلاثة أشهر، ثم تركتها في منزل والدها علي أكبر واختفت في دجى الليل ولم تعد قط، وقد اعتنى بها علي أكبر لمدة ثلاثة أشهر، ثم أجبره والداه على التخلي عن الطفلة وهي في شهرها السادس، من أجل العودة لعمله كمزارع حتى يكسب المال.

يقول علي أكبر إنه لا يتذكر شيئا عن الطفلة في تلك المدة القصيرة، ولم تكن لديه كاميرا كي يلتقط صورة لها، لكنه يتحدث عن والدة الطفلة بطريقة أقل قسوة من تلك التي تحدث بها والده قائلا: كانت عدائية بعض الشيء، وهي من نفس قريتنا، كنت عائدا من الحقول يوما ورأيتها على قارعة الطريق، ثم أخبرت عمي أنني أريد أن أتزوجها، فسألني إن كنت واثقا من قراري، فأجبته بنعم، فتزوجنا.

تقول فريدة بعد لقاء عائلة علي أكبر: لقد تعرفت على أربعة أجيال متعاقبة من العائلة ولمس ذلك روحي، ويا لها من عائلة رائعة ولطيفة، لاحظت أن الإيرانيين يعشقون الضحك، إنني أحب هذه العائلة التي لم أحظ بمثلها في بلادي قط.

لكن فريدة رفضت تفضيل عائلة على أخرى، “فكل عائلة تعاني الفقد، ولكل منهم قصة، وأنا أتواصل معهم لأني وجدت في نفس المكان الذي تركت فيه بناتهم، وننتظر صدور نتائج تحليل الحمض النووي.

ذكريات الطفلة المسكينة “فاطمة” التي تركتها أمها وخالتها عند الحرم المقدس

 

فاطمة.. مولودة في حالة طقس سيئة

تحكي عائلة “نيشابودي” أن فاطمة ولدت في حالة طقس سيئة وفارقت والدتها الحياة لحظة الولادة، لأنها لم تحصل على المساعدة اللازمة، ولها ستة أشقاء، وتوفي والدها بعد شهر من ولادتها، فما كان من عائلتها إلا أن تركتها في “الحرم المقدس”.

أهدت فريدة لهذه العائلة تمثال بوذا لجلب الحظ، وكانت هذه مناسبة ليسألوها عن دينها، فردت بأنها لا تتبع دينا، ولكنها تؤمن بوجود إله تشمل محبته الجميع، وبأنها تصلي للملائكة كل ليلة قبل أن تنام. وقد انضمت خالة فاطمة لاحقا للعائلة، وروت طريقة التخلص منها قائلة: أخذت أنا وابنة أختي الطفلة إلى الحرم عند الظهر فصلينا وجلسنا للاستراحة، أرادتني أن أترك الطفلة فطلبت منها أن تتكفل هي بذلك، إذ أن قلبي لم يطاوعني على أن أقوم بذلك، فسألتني ما الذي علينا فعله؟

وتتابع: في النهاية وضعنا الطفلة على الأرض، ومشينا مبتعدتين وكنا نسمعها تبكي، ورأينا النساء يتحلقن حولها ويسألن عن أمها، إلى أن أتت إحدى الحارسات وحملت الصغيرة، ولم نرها بعد ذلك.

تأثرت فريدة التي تعاني من التشتت والضياع جدا بحال هذه العائلات التي أضاعت بناتها، وتألمت لاحقا للفقد، وتقول: أشعر بالمسؤولية لأنني أطرح هذا الموضوع وأذكركم بأناس قد فقدتموهم وأعيد الأمل لقلوبكم، لكنني آمل أن نعيش جميعا بسلام يوما ما.

“زهرة” الطفلة التي وهبها أبوها لأم غير أمها عند الضريح المقدس

 

زهرة.. وأد من أب مدمن

زارت فرديدة العائلة الثالثة واستقبلتها عجوز قائلة “أنا عمتك”، وهنا استمعت لقصة زهرة التي كانت سادس مولود لطيبة وزوجها، وبعد مرور ستة أشهر تخلى والدها عنها وتركها في حرم الإمام الرضا، فقد كان مريضا ومدمنا على المخدرات، وقد انفصلت طيبة فورا عن زوجها بعد هذه الحادثة، ولم تسامحه قط على التخلي عن طفلتها دون علمها.

حضرت طيبة ذاتها اللقاء وروت القصة قائلة: ذهبت إلى والدي وتركت الطفلة في المهد في المنزل، وعندما عدت لم أجدها هناك، وسألت عمتها إن كان زوجي قد أحضر إليها الطفلة، فأجابت بالنفي.

ذهب أبي إلى مشهد ليبحث عن زوجي، فوجده وسأله عن الطفلة، فأجابه بأنه أعطاها لامرأة أخرى، لكنه كان يكذب إذ قال لنا لاحقا إنه تركها في الحرم، وإنه كذب لأنه لم يكن يريدنا أن نبحث عن الطفلة، وبعد ذلك دُمّرت حياتي وانفصلت عنه.

فريدة تلقي على السامعين قصيدة من تأليفها

 

“إنه صوت ابنتك”.. شعر على الورق ودموع على الخدين

بعد أن استمعت فريدة لسرد القصة الحزينة في منزل عائلة زهرة أنشدت الحاضرين قصيدة كتبتها في عام 2008، وتقول فيها:

أتسمعينني؟
هل لي أن أكون بجانبك لبرهة أو أكثر؟
أنا أهمس في أذنك، أتسمعينني؟
أريد أن أبقى معك، أترغبين في ذلك أيضا
جعلتني أبصر النور وعن دنياي رحلت
وحللت رباط الأمومة بيننا إلى الأبد
هل لي أن أبقى معك ولو للحظة
لأختبر شعوري حين تضعين يدك في يدي
رغبتي تشتد
أتسمعين الصوت الذي يهمس في قلبك
إنه صوت ابنتك
أيمر طيفي على بالك أيضا

وفي مقطع بالفيلم ظهرت فريدة تتابع عروض فرقة فنية في وسط مدينة مشهد، لكنها بدت حزينة وتحدثت بحرقة ووجع قائلة: أفكر في جميع القصص التي سمعتها هنا.

لقد نكأت جراح الماضي مطلقة العنان للألم والدموع، وصحيح أن الأهل لا يتخلون عن الأطفال إلا إذا كان ذلك هو السبيل الوحيد للحفاظ على حياتهم، لكن ندوب تلك الجراح تبقى محفورة إلى الأبد، لا يمكننا أن نغير قرار اتخذ قبل أربعين عاما.

جينات فريدة لم تتطابق مع أي من العائلات الثلاث، فكانت لحظات مأساوية

 

“آسفة لأنني لست أقدس”.. نتائج الحمض النووي

ناول مسؤول المختبر فريدة ملفا وخاطبها: هذا أسرع اختبار أبوة على الإطلاق، هذا هو الاختبار، إنه مكتوب باللغتين الانجليزية والفارسية.

لكن العينات لم تتطابق مع حمض العائلة الأولى، وقد خرجت من المنافسة على فريدة، وردت بالقول: فاجأني هذا الخبر وأود أن نبقى أصدقاء مدى الحياة.

جاء دور العائلة الثانية وكانت نتائج التحليل سلبية أيضا، إذ تؤكد أنها ليست ابنتهم، فبكت وبكوا وسيطرت أجواء الخيبة والحسرة على المكان.

وأخيرا استُدعي علي أكبر وخاطبه الطبيب قائلا: نتائج التحليل أظهرت أن جينات الآنسة فريدة لا تتطابق مع جيناتكم، وبالتالي فهي ليست ابنتكم، وهنا كانت الصدمة أقوى، وتحدثت فريدة قائلة: سيبقون في قلبي إلى الأبد، وأود أن أراهم مجددا في المستقبل، آسفة لأنني لست أقدس، ورد علي أكبر: ستبقين بمثابة ابنتي وإذا زرت المدينة فبيتي مفتوح لك.

انفضت العوائل من المختبر، وقالت فريدة لرفيقتها: لنرحل.

في مطار طهران.. فريدة تعود إلى أمستردام مكسورة الجناح

 

مطار طهران الدولي.. “كي أجد إلى داري سبيلا”

في مطار طهران الدولي ظهرت فريدة تخطو نحو بوابة الطائرة المتجهة إلى أمستردام، تجر حقيبتها وأحمالا من الخيبة فقد عادت لأهلها دون أن تكون أقدس أو فاطمة أو زهرة، ولكنها لم تندم على الرحلة، فقد أحيت جزءا من قلبها بزيارتها لإيران، حيث تقول: لقد تعرفتُ إلى وطني والطريقة التي يتعامل بها الإيرانيون مع بعضهم وقد تعرفت إلى نفسي من خلالهم.

أثناء هذه الرحلة ودعت خوفي ووحدتي والنبذ الذي كنت أعيشه منذ تبنيَّ، لقد وجدت فريدة في داخلي.

وكان ختام الفيلم شعرا:

قضيت النهار مسافرا
قضيت العام مسافرا
قضيت عمري مسافرا
كي أجد إلى داري سبيلا
فالدار موطن الفؤاد
الدار موطن الفؤاد
وفؤادي معك أنت