“البدلة الفضائية”.. حلة الإنسان النفيسة حين يرتقي إلى السماء

حسن العدم

يحتاج رائد الفضاء -أو من يريد التحليق على ارتفاعات شاهقة- إلى بدلة ذات مواصفات خاصة تزوده بالأكسجين، وتحميه من الفراغ خارج الغلاف الجوي، وتقيه البرودة والحرارة الشديدتين، ثم يجب أن تحتوي على وسائل تواصل مع العالم الخارجي، وتتيح له حرية الحركة.

وضمن سلسلتها عن رحلات الفضاء، أفردت قناة الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة عن بدلات الفضاء وتاريخ تطورها ومميزاتها والعيوب التي واجهتها، وعن الدراسات المستقبلية لجعلها أكثر ملاءمة لرحلات الفضاء القادمة.

 

انخفاض الضغط في السماء.. حاجة الإنسان إلى البدلة

في عام 1932 حلّق الطيار “أوغوست بيكارت” على ارتفاع 16,000 متر بواسطة منطاد، وكانت حجرة القيادة عبارة عن وعاء كروي مزود بهواء مضغوط، ومصنوع من الألمنيوم، وذلك لضمان ضغط منتظم حول جسمه.

وفي الولايات المتحدة عزز الطيار “ويلي بوست” طائرته التي تطير على ارتفاع 15,000 متر باستخدام التيار النفاث، وابتكر لذلك الارتفاع بدلة مضغوطة صالحة للاستخدام وحرية الحركة داخل المقصورة، وحتى ذلك الوقت كان قناع الأكسجين العادي كافيا لطياري المقاتلات الحربية التي كانت تطير على ارتفاعات أقل من ذلك بكثير.

مع تطور المحركات النفاثة، والرحلات المرتفعة طويلة المدة، صارت قاذفات القنابل من طراز (بي36) تستخدم حجرة قيادة مضغوطة بالكامل، إضافة إلى بدلة الضغط المغلقة تماما لأفراد الطاقم، والمزودة بخوذة مغلقة أيضا.

وفي خمسينيات القرن الماضي شاع استخدام البدلات المضغوطة جزئيا في الطائرات السريعة ذات الارتفاعات العالية، وكانت تلك البدلات مزودة بأجزاء مطاطية ضاغطة، لتحول دون حدوث نزيف في الأطراف السفلى للجسم نتيجة التسارع العالي.

طائرة “إكس 15″، وهي طائرة صاروخية تحلق على حافة الغلاف الجوي على ارتفاع 15,000 متر

 

الطائرة “إكس ١٥”.. دخول الإنسان عصر الفضاء

في عام 1955 حلّقت طائرة تجسس أمريكية من طراز “يو تو” لأول مرة على ارتفاع 21,000 متر، يومها ارتدى الطيارون بدلات ذات ضغط جزئي من طراز “إم سي 3″، وكانت مصممة لتقي دم الطيار من الغليان نتيجة الضغط المنخفض جدا، وبعدها أجريت دراسات معمقة على البدلات المناسبة للسرعات الفائقة والارتفاعات العالية.

تمثلت ذروة برامج الدراسات في طائرة “إكس 15″، وهي طائرة صاروخية تحلق على حافة الغلاف الجوي على ارتفاع 15,000 متر بسرعات فائقة جدا، ويجري نقلها إلى مسارها بواسطة القاذفة العملاقة “بي 52″، وتضغط مقصورتها المحكمة الإغلاق بغاز النيتروجين لمنع الاشتعال، ويرتدي الطيار البدلة “إكس إم سي2″، المضغوطة بالكامل بغاز النيتروجين أيضا، بينما خوذتها المنفصلة تماما عنها مضغوطة بغاز الأكسجين.

وقد سجلت الطائرة “إكس 15” أعلى سرعة لها بمقدار 7,000 كيلومتر في الساعة، وبارتفاع أقصى بلغ 107,000 متر. ومع دخول الإنسان عصر الفضاء والحاجة لإبقاء رائد الفضاء لفترات أطول خارج الغلاف الجوي، فقد طورت “ناسا” بدلات تعتبر سليلة الطراز “إكس إم سي2”.

يوري غاغارين.. أول من ارتدى بدلة فضاء حقيقية من طراز “إس كي1”

 

“يوري غاغارين”.. أول من ارتدى بدلة الفضاء

كان أول من ارتدى بدلة فضاء حقيقية من طراز “إس كي1” هو رائد الفضاء السوفياتي “يوري غاغارين”، وفي عام 1961 دار حول الأرض لأول مرة باستخدام مركبة الفضاء “فوستوك”، وكانت مهمة البدلة حمايته من انخفاض الضغط داخل الكبسولة والمحافظة عليه عندما يخرج من مركبته.

أما محاولات “ناسا” لاختراق الفضاء فقد بدأت مبكرة هي الأخرى عام 1959، وذلك من خلال برنامج “ميركوري”، وكانت أول محاولة تجريبية هي إرسال رواد فضاء إلى المدار خارج الغلاف الجوي، ولإجراء قفزات قصيرة خارج المركبة، حيث كانت البدلة “إكس إم سي2” هي الخيار الأمثل ذلك الوقت.

هذا بالإضافة إلى بدلة “مارك4” التي تستخدمها البحرية، وقد كانت مفضلة أكثر لخفة وزنها، هذا وقد أضيفت تعديلات على هاتين البدلتين، لجعلهما أكثر مواءمة للظروف خارج الغلاف الجوي، من قبيل النسيج العازل للحرارة، واستخدام تقنيات التبريد حول منطقة الرأس والجسد.

الرئيس الأمريكي “جون كندي” صرح بأن على أمريكا إرسال رائد فضاء إلى سطح القمر قبل انتهاء عقد الستينيات

 

غيرة الرئيس “كينيدي”.. طموحات الهبوط على سطح القمر

في بدايات الستينيات كان الاتحاد السوفياتي أكثر تقدما في مجال غزو الفضاء من الولايات المتحدة، الأمر الذي سبّب إحراجا وطنيا في أمريكا، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي “جون كندي” للتصريح بأن على أمريكا إرسال رائد فضاء إلى سطح القمر قبل انتهاء عقد الستينيات، ومنذ ذلك توقف برنامج “ميركوري”، وبدأ برنامج أكثر تعقيدا لإيصال الإنسان إلى القمر، وهو برنامج “جيميناي” الذي اعتمد على كبسولة تتسع لرجلين، وبدلات فضاء أكثر راحة وملاءمة لإنسان سوف يخطو خارج الكبسولة.

في مارس 1965 غادر السوفياتي “أليكسي ليونوف” كبسولة الفضاء “فوسكود2″، وكان يرتدي بدلة “بيركوت” التي انتفخت ذاتيا لحظة مغادرة الكبسولة، ولكنه واجه صعوبة في التحكم بزر الكاميرا الموجود على قدمه نتيجة انتفاخ البدلة الزائد، كما أنه واجه صعوبة شديدة في العودة إلى داخل الكبسولة.

وفي يونيو 1965 أطلقت “جيميناي” للمرة الثانية، وتمكن الرائد “إدوايت” من السير بسهولة أكثر من زميله السوفياتي، فلم يعانِ من مشكلة الانتفاخ الزائد بفضل منظم الضغط في بذلته، كما أنه لم يكن مضطرا لحمل أسطوانة أوكسجين على ظهره، وبدل ذلك كان يتزود بالأوكسجين عبر خرطوم موصول بالكبسولة.

بعد عدة محاولات وتجارب تبين أن البدلة المستخدمة في المركبات من طراز “جيميناي” تعاني من مشاكل تتعلق بالتبريد، فهي مناسبة للمكوث داخل الكبسولة، أما عند بذل مجهود أو المشي خارج الكبسولة، فإن درجة حرارة الإنسان ترتفع بشكل يعيقه عن أداء المهام بجدارة.

برنامج أبوللو القمري الذي انتهت به زيارات القمر بمشي 12 رائد فضاء على سطحه

 

تجربة محاكاة الفضاء.. خطأ بسيط يقتل كل أفراد الطاقم

على أثر المشاكل التي واجهتها البدلة المستخدمة في المركبات من طراز “جيميناي” بدأت برامج محاكاة لأعمال الفضاء في أحواض مائية كبيرة، من مثل التحام مركبتين أو إجراء أعمال صيانة خارج المركبة، وقد أمكن تطوير البدلة للتغلب على مشاكل التبريد، وأصبحت الظروف مهيأة لإطلاق برنامج أبولو لإيصال أول رجل إلى سطح القمر.

في عام 1966 تبين لعلماء ناسا أن برنامج أبولو متأخر عن الجدول المخطط له بمدة عام تقريبا، وصار هنالك شكوك حول الوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس الأمريكي على نفسه بإيصال إنسان إلى القمر عام 1969، ومع ذلك فقد استمرت فرق ناسا في العمل الجاد لتطوير المركبة ومستلزماتها من أجل تحقيق الالتزام.

في النسخة المطورة من كبسولة الفضاء “أبولو1″، أمكن ضغطها بأوكسجين صافٍ بدل النيتروجين، مما خفف الوزن كثيرا ومنع مشاكل في الدم كان النيتروجين يتسبب بها، ولكن لم يتنبه أحد لمخاطر احتراق الأوكسجين إذا وجدت شرارة نتيجة خطأ ما، وهذا ما حدث فعلا في تجربة محاكاة أجريت في يناير/كانون ثاني 1967، حيث انفجرت الكبسولة ومات كل أفراد الطاقم اختناقا نتيجة شرارة خاطئة، وتبينت من التحقيقات أخطاء أخرى في صناعة البدلة من مواد قابلة للاشتعال.

بدلة الفضاء “A7-L” ذات المفاصل المطاطية والحجم المناسب وتكنولوجيا التبريد بواسطة الماء، بوزن على الأرض يبلغ 35 كغم

 

بدلة A7-L””.. أزياء السفر إلى القمر

في البدلة القادمة المخصصة للهبوط على سطح القمر قام العلماء بمراعاة أن تكون مصنوعة من مواد غير مشتعلة، فاستخدم فيها قماش “بيتا” وهو خليط من خيوط السيليكون ومادة التيفلون. كما أجريت عدة تجارب تتعلق بجاذبية القمر القليلة، وكذلك الجوانب الحيوية من توفير الأكسجين وبطاريات الشحن وأجهزة الاتصال ووزن حقيبة الظهر.

وأخيرا ظهرت بدلة “A7-L” ذات المفاصل المطاطية والحجم المناسب وتكنولوجيا التبريد بواسطة الماء، وقد بلغ وزن البدلة على الأرض 35 كغم، بينما كان وزن حقيبة الظهر 60 كغم.

لاحقا بعد دخول المكوك الفضائي إلى الخدمة وزيادة المهمات المدارية لرواد الفضاء، جاءت بدلة “EMU”، وهي سليلة تلك البدلة التي استخدمت في رحلات أبولو11 إلى القمر، ولكنها كانت أثقل في الوزن، لأنها ستُستخدَم في حالات انعدام الجاذبية التام، كما أنها صممت لقياسات محددة، إذ يمتد عمر هذه البدلة إلى 15 عاما في الخدمة.

في عام 1990 أطلق تلسكوب “هابل” الفضائي، وعلى مدى 16 عاما جرت زيارة هابل خمس مرات من أجل الصيانة والتطوير

 

وحدة المناورة المأهولة.. حادثة غيرت قوانين الفضاء

في عام 1984 أمكن التحليق بالبدلة -أو ما سمّي بوحدة المناورة المأهولة- خارج المكوك لمدة أربع ساعات والعودة بأمان، ولكن بعد حادثة انفجار المكوك “تشالينجر” تغير كل شيء وزادت إجراءات السلامة على كل رحلات ناسا، واستُغني عن وحدة المناورة المأهولة تماما.

في عام 1990 أطلق تلسكوب “هابل” الفضائي، وعلى مدى 16 عاما جرت زيارة هابل خمس مرات من أجل الصيانة والتطوير، وصارت أذرع المكوك المتحركة التي توفر الدعم لرائد الفضاء للقيام بالمهام خارج المكوك بديلا جيدا عن وحدة المناورة المأهولة.

وفي العام 1998 بدأ العمل في محطة الفضاء الدولية، ضمن برنامج دولي عظيم، شاركت فيه الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا واليابان، بالإضافة إلى كندا، وكانت ناسا ما تزال تستخدم البدلة “EMU”، مع إجراء تحسينات مستمرة عليها.

في العام 1998 أطلقت محطة الفضاء الدولية إلى الفضاء وكان رواد الفضاء يرتدون بدلة المناورات الخارجية “EMU”

 

بدلة المستقبل.. استعدادات السفر إلى المريخ

مع انتهاء العمل في المحطة الدولية عام 2011 أحيل المكوك الفضائي إلى التقاعد، وأصبح الوصول للمحطة الدولية ممكنا عن طريق مركبة “سويوز” الروسية، وأصبح الروس والأمريكان يرتدون بدلات “سوكول” الروسية، وكذلك بدلة “أورلان”.

وأخيرا يعمل مهندسو ناسا على تطوير بدلة جديدة من طراز “PXS” أو النموذج الأول لبدلة الاستكشاف، وذلك من أجل مهمات ناسا المستقبلية، ويدخل الرائد في هذه البدلة من فتحة في الخلف، وهي مزودة بأنظمة دعم الحياة، والوزن الخفيف.

أما رحلات المريخ المستقبلية فتطور من أجلها بدلة “زي 2″، لملاءمة المهمات الخاصة بالمريخ، وهي مزودة بأنظمة أكثر تعقيدا لدعم الحياة وسهولة الحركة.