البغدادي و”داعش”.. قصة الرجل والتنظيم الأكثر عنفا

في الهزيع الأخير من الليل، وبعد سنوات من الفتك والقتل والاختفاء والمطاردة، جاءت النهاية مفزعة عنيفة ومروعة.. يقول الأميركيون إن البغدادي فجر سترته الناسفة وقضى على نفسه بعد مطاردة عنيفة استمرت عدة ساعات، وإنه لم يمت وحده بل قتل معه ثلاثة من أبنائه، منهيا وبشكل مؤلم سيرة واحد من أكثر قادة التنظيمات المقاتلة في العالم الإسلامي إثارة ورعبا وعنفا.

من “مأمنه يؤتى الحذر”، وعلى نفسها تجني براقش دائما، و”البغي مرتعه وخيم”.. تلك أمثال عربية قديمة، تستحيل مع الزمن إلى أيقونات لمن يتحدث أو يكتب عن تنظيم الدولة الإسلامية أو البغدادي الخليفة العام للمسلمين كما يقول أنصار التنظيم وقادته.

مضى البغدادي وتناثرت أشلاؤه، تاركة قصة وأسئلة عديدة عن مستقبل التنظيم الذي سرعان ما أعلن عن خليفة جديد من المرجح أنه تم إدراجه هو الآخر سريعا في دائرة المطلوبين للولايات المتحدة التي تولت قتل البغدادي، وطالما وُجهت إليها هي وَجِهات أخرى أصابع الاتهام بأنها لم تكن بعيدة عن ميلاد التنظيم ضمن فلسفة الفوضى الخلاقة التي أطلقتها عقب احتلال العراق في 2003، وهي اتهامات يؤكدها البعض ويصنفها آخرون ضمن دائرة “نظرية المؤامرة”.

طفولة ودراسة

من العراق بدأت رحلة البغدادي مع الحياة، التقط صورها المتناقضة بين تاريخ يمتد في أعماق الأيام عمقا وطولا، حيث تترنح على ضفاف الزمن، وحيث قصص الدول والمماليك المتعاقبة وتاريخ الدم الدافق الذي نقش وشوما متعددة على جبين العراق.

انتهى البغدادي إلى أشلاء متناثرة تم جمعها وتحليل حمضها النووي قبل أن تعلن واشنطن أنها قامت بدفنه في البحر، ولكن وفق الشريعة الإسلامية.

ولعل من الطرافة أن كلا من البغدادي وتنظيمه والولايات المتحدة وسياساتها، متهمان من كل جهة بأنهما من أكثر من يجهل ويشوه التعاليم الدينية الإسلامية أو المسيحية.

انتمى البغدادي إلى دار السلام ذات الأسماء والتاريخ المتعدد، حمل اسمها أيقونة ورمزا يخفي هويته الحقيقية التي لم يطل الزمن حتى تكشفت للعيان.

إنه إبراهيم بن عواد بن إبراهيم السامرائي البدري نسبة إلى عشيرة البدري التي ينتهي نسبها وفق ما هو متداول ومنشور إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

في سنة 1971 ولد السامرائي لأسرة متدينة وفقيرة، وعاش طفولة غير واضحة المعالم مثل أغلب مراحل حياته التي قفزت إلى الضوء متأخرة منذ العام 2013 حينما أصبح أحد أبرز القيادات العسكرية للجماعات الإسلامية الموصوفة بالإرهاب والتطرف في العراق وسوريا والشرق الأوسط عموما، قبل أن تتمدد إلى العالم كله -وقبل ذلك لم يكن الرجل شيئا مذكورا- بكثير من الاهتمام في وسائل الإعلام المحلية أو الدولية.

في دفاتر الذكرى وصحائف المواقع نتف قليلة عن البغدادي، الذي أكمل دراسته الثانوية سنة 1991 متأخرا عن وقتها الطبيعي بسبب رسوب في إحدى السنوات.

ولم تسعفه درجاته المعرفية في دراسة القانون أو التربية واللغات اللتين كان يسعى لهما وفق ما هو متداول من سيرته ومسيرته.

اختار السامرائي -أو البغدادي- لاحقا التوجه لدراسة علوم القرآن الكريم، فحصل فيها على شهادات متواصلة وفق ما هو متداول ابتداء من البكالوريوس وانتهاء بالماجستير.

ولم يُعرف عن البغدادي أداؤه لأي وظيفة عمومية في العراق باستثناء الخدمة العسكرية الإجبارية، إضافة إلى توليه إمامة أحد المساجد في بغداد لأكثر من 14 عاما، وانتهت بخصام وقطيعة بين الإمام وجماعته، لتبدأ من تلك الفترة مسيرة أخرى ومنعرج واسع الانعطافة في حياة الرجل الذي صار بعد ذلك أكثر مطلوب للاستخبارات المحلية والإقليمية والدولية.

أمير الجماعات

سلخ البغدادي أربع سنوات من عمره في سجن بوكا العراقي الشهير الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية ورمت فيه بآلاف العراقيين من مختلف التوجهات وبمختلف التهم، وقد نال البغدادي في ذلك السجن نصيبا وافرا من التعذيب على الطريقة الأميركية حسب وسائل الإعلام عديدة.

انخرط البغدادي وفق ما هو متداول من سيرته البغدادية في جماعات إسلامية عراقية متعددة، فمنذ أن سقط الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين انفرط عقد العراق وتنادت كل طائفة إلى راياتها، قبل أن تتمزق الرايات إلى مجموعات هائلة من الأسترة والألوية والشعارات.

تولى البغدادي مسؤوليات قيادية في تنظيم القاعدة في العراق تحت لواء أبي مصعب الزرقاوي؛ ذلك الأردني الجهادي الشهير الذي أقض مضاجع كثير من الأنظمة في المنقطة قبل أن تتمكن القوات الأمريكية من قتله، ليتولى خليفته أبو عمر البغدادي في المسار العنيف قبل أن يلتحق به ويموت، ويخلو الطريق أمام أبي بكر البغدادي لتولي زعامة القاعدة.

برزت طموحات ومطامع الاستقلال عن التنظيم الأم سريعا بعد مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، حيث رفض أداء البيعة لخليفته المصري أيمن الظواهري، وأعلن استقلال تنظيمه ودولته الخاصة بعد أن أصبح يتحرك في فضاء مفتوح وواسع من شمال العراق إلى شمال وشرقي سوريا، وبدأ الحرب المفتوحة في أكثر من جبهة وضد أكثر من هدف وفي وقت واحد.

ارتبطت مسيرة تنظيم الدولة -والبغدادي من ورائه- بمستوى عال من الوحشية والعنف، تناسى الناس فيه أعمال القاعدة والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر سابقا، وأصبح كل أولئك مثالا لـ”النعومة والوداعة” في المقارنة مع تنظيم “داعش” الذي استثمر جزءا كبيرا من دعايته في النشر الإعلامي المروع لفيديوهات قطع الرؤوس وحرق الأسرى، ثم عرض النساء السبايا وتوزيعهن على جنود التنظيم في ممارسة تم إلباسها لبوس الإسلام وتبرأ منها كبار علمائه وأثارت غضب العالم.

اتُّهم البغدادي بشكل خاص باصطفاء كثير من النساء الأسيرات من جنسيات مختلفة، وقيل إن بعضهن تعرضن للاغتصاب على يد الزعيم ورفاقه، وهي تهم لم يعترف بها التنظيم وإن رددها خصومه كثيرا.

حمل البغدادي لقب أمير الجماعات الإسلامية، وهي وحدات قتالية متباينة الأعداد والآراء توحدت تحت أمرة البغدادي وحملت لاحقا اسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهو اسم سرعان ما أصبح علامة مميزة للرعب والعنف في المنطقة بل وفي العالم كله، ثم أُعلن لاحقا عن تحول التنظيم إلى خلافة.

حرب مفتوحة

خاض تنظيم الدولة الإسلامية حروبا مفتوحة تحت قيادة البغدادي، فتمكن من السيطرة على الموصل بالكامل، وظهر البغدادي وهو يخطب من أعلى منبر جامع الموصل العتيق.

تحدث يومها وخطب وهدد ووعد وتوعد، اهتم العالم بتفاصيل شكله وبخطابه وبهندامه، وجرى حديث كثير عن ساعته الغالية التي قُدرت يومها بعشرات الآلاف من الدولارات. ولكن عقارب ساعات البغدادي كانت تسيطر في اتجاهات متعاكسة ارتفاعا وهبوطا هزيمة وانتصارا.

لم يكن البغدادي يرى أي حل جزئي دون السيطرة التامة، وأمام انتصاراته المتتالية في معاركه الأولى اتسعت دائرة المطامع من جديد.

أحرق البغدادي وتنظيمه الأرض والإنسان والتاريخ في العراق وسوريا، وأعاد المدن التي سيطر عليها إلى أزمنة غابرة من ممارسات الغزاة.

فتح تنظيم البغدادي النار على القوات العراقية واستطاع قتل الكثير من عناصرها، ثم دخل في حرب مفتوحة مع الإزيديين في مدن عراقية عديدة، في واحدة من أبشع المواجهات التي دنست التعايش الديني بين مكونات العراق.

ونالت مكونات أخرى من الشعبين العراقي والسوري نصيبا غير منقوص من الحرب “الداعشية”، ثم دخل التنظيم أيضا حربا مع دائرة حلفائه الأقربين بالأمس، وذلك من خلال المواجهة الدامية مع جماعة النصرة في سوريا التي تحولت لاحقا إلى هيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمد الجولاني الذي رفض الانصياع لخلافة البغدادي وإمارته للمسلمين في كل مكان.

ولا تزال مواقع التواصل الاجتماعي حافلة بمقاطع خلد فيها التنظيم بوحشية غير مسبوقة عمليات قتل مروعة ضد ضحايا التنظيم، ومن أشهر تلك الأيقونات عملية حرق الطيار الأردني الذي أسره التنظيم وأضرم فيه النار حيا، في إحدى أبرز وأشهر عمليات التنظيم التي هزت كيان العالم وأحرقت أفئدة الكثيرين، هذا فضلا عن عمليات قطع رؤوس عدد كبير من الأسرى الآخرين في سوريا والعراق وليبيا ومناطق متعددة من العالم.

عصر السبايا

مثلت قيادة أبي بكر البغدادي عودة إلى عهد السبايا والجواري من خلال سوق نخاسة يعرض فيه التنظيم أسيراته اللواتي يتحولن بعد ذلك إلى سلع معروضة للبيع، بينما يختص قادة التنظيم –وفقا لمصادر إعلامية عديدة- بالحسناوات من بين الأسيرات الداميات القلوب الدامعات المحاجر.

جرى الكثير من الحديث المؤلم عن معاملة الأسيرات، واستطاعت أسيرة إزيدية أن توثق تجربتها بعد أسرها وبيعها لدى التنظيم في كتاب حمل اسم “ليلى وليالي الألم”.

وقد أشاد تنظيم الدولة الإسلامية مرارا باستعباده نساء وأطفالا من طائفة الأقلية الإزيدية بشمالي العراق، وقال إن ذلك يتفق مع تعاليم الدين الإسلامي.

وفي مقال نشرته مجلة “دابق” الإلكترونية التي يصدرها التنظيم باللغة الإنجليزية، طرحت الجماعة ما تقول إنه مسوغها الديني لاستعباد من أسمتهم بالكفرة المنهزمين.

وبحسب المقال المنشور في العام 2014، فإنه “بعد الأسر يجري وفقا لأحكام الشريعة تقسيم النساء والأطفال الإزيديين بين مقاتلي الدولة الإسلامية الذين شاركوا في عمليات سنجار، بعد تجنيب خُمس عدد الأسرى وتسليمهم لسلطة الدولة الإسلامية”.

ويَعتبر المقال “أن استعباد أسر المشركين على نطاق واسع ربما يكون الأول من نوعه منذ التخلي عن أحكام الشريعة”.

ويضيف أن استعباد النساء وإجبارهن على الزواج من رجال الجماعة يحد من الخطايا عن طريق حماية الرجال من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة.

وفيما يبدو ردا على الرفض والاستنكار الواسع لهذه الممارسة، يقول كاتب المقال: على المرء أن يتذكر أن استعباد أسر الكفرة واتخاذ نسائهم سبايا هو أحد الأركان الراسخة للشريعة، ومن ينكر ذلك أو يسخر منه فإنما ينكر أو يسخر من آيات القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم).

وكان من غرائب الأقدار أن عملية قتل البغدادي حملت اسم إحدى ضحاياه، وهي كايلا مولر التي اعتُقلت في حلب عام 2013، ويقول مسؤولون أمريكيون إن البغدادي اختص بها نفسه ضمن فضاء السبايا والجواري الذي أقامه التنظيم في علاقته مع ضحاياه.

ماتت مولر بعد سنتين في جوار البغدادي وفقا لمصادر أمريكية، وانتقم لها الأمريكيون بوحشية من البغدادي، الذي اختار في النهاية تطبيق المثل العربي الشهير “بيدي لا بيد عمرو”، وفتح نفسه لتتطاير أشلاؤه منهية قصة مروعة من قصص الألم والعنف والتفسير الغريب للنصوص المقدسة.

تنظيم عابر للحدود

أقام التنظيم الذي أشرف عليه البغدادي وحدات لا مركزية في أنحاء متعددة من العالم، وذلك وفق تقطيع جغرافي اعتمد فيه مصطلح الولايات ليكون بديلا عن الدولة القُطرية، وذلك ضمن الخلافة العامة التي أعلنها البغدادي وجعلها عامة وشاملة للمسلمين في كل أنحاء العالم.

واستطاعت ولايات التنظيم وفروعه في سيناء المصرية وفي ليبيا وفي شرق آسيا، أن توجه ضربات موجعة ومؤلمة للأمن والسلام في تلك البلدان.

وفي أفريقيا استطاع التنظيم بناء قوة عابرة وصارمة أذاقت بلدانا أفريقية متعددة صنوفا من الألم وأنواعا من المآسي، وذلك بعد التكامل بين التنظيم وحركات أفريقية مسلحة مثل بوكو حرام، بل وإقامة فروع له في مالي التي جاءت منها أولى ضربات الانتقام لمقتل البغدادي وذلك بقتل 53 جنديا ماليا بدم بادر ظهر الجمعة الأولى من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

الانحسار

قبل ثلاث سنوات بدأ تنظيم الدولة في الانحسار بعد قيام تحالف دولي هدفه الأساسي كشر شوكته التي غُرست في أجسام كثيرة من دول المنطقة واستطاعت توجيه ضربات مؤلمة في دول متعددة حول العالم.

تمكن هذا التحالف مدعوما بقوى محلية إلحاق هزائم قوية بالتنظيم، وإرغام قيادته في العراق وسوريا على تعديل برامجها وخططها، قبل أن تدخل مرحلة المطاردة والفرار والتخفي.

ماذا بعد البغدادي؟

تكشف دفاتر الأيام أن الحركات المسلحة ذات البعد الديني تتحول مع كل انتكاسة، وأن كل جيل جديد من تلك الحركات يخرج محملا بأكثر قدر من الحنق والعنف مقارنة مع سلفه.

والآن وقد تحول البغدادي إلى أشلاء متناثرة وتاريخ دام من العنف والألم، فإن التنظيم لن يسلم هو الآخر من التفكك الذي ميّز بنيته الإدارية والتنظيمية ومكّنه من التمدد والانتشار، حيث اعتمد العنف كعلامة مسجلة، وترك لأنصاره -الذين يتم اكتتاب غالبيتهم عبر الإنترنت- الحرية في اختيار النوعية والهدف والوسيلة، ما دامت الضربة عنيفة ومؤلمة وتحمل اسم “تنظيم الدولة”.