الثورة الفرنسية.. رسالة فرنسا التي كفرت بها واعتنقها العالم

في ساحة تروكاديرو في قلب العاصمة الفرنسية باريس ينتصب مبنى متحف الإنسان المشهور منذ بداية القرن العشرين، وقد ابتلع في جوفه ثمانية عشر ألف جمجمة لشهداء جزائريين قتلوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، وتكوموا تحت لافتات تحمل أرقاما هي هويتهم الوحيدة، لتكون جماجمهم شواهد على جرائم ارتكبتها الدولة الفرنسية في مستعمراتها طيلة عقود، في تناقض كبير مع مبادئ الثورة التي بنيت عليها هذه الدولة وتعتبر فخرا للفرنسيين.

لقد تعاملت فرنسا مع السكان الأصليين لمستعمراتها باستعلاء كبير، وكانت تراهم بصورة الهمج العبيد، ضاربة الحائط بكل فلسفة الأنوار ومبادئ الثورة التي قامت على الحرية والمساواة كما ذكر عرّابها “جان جاك روسو”.

وهنا لا يغيب السؤال عن ذهن كل من اطلع على المسار التاريخي للثورة الفرنسية، وهو كيف يمكن لتلك الثورة الملهمة -التي يعتبرها أغلب المؤرخين من أهم الأحداث التي شهدتها البشرية، وقد رمت بظلالها على أطراف الأرض، وألهمت شعوبا تفصل آلاف الأميال بينها وبين فرنسا- أن تفشل وأن تنجب من رحمها دولة يلاحقها العار بسبب الجرائم التي ارتكبتها في مستعمراتها؟

وفاة لويس الرابع عشر.. عصر التنوير الأول

في العام 1715 م توفي الملك الفرنسي “لويس الرابع عشر” صاحب المقولة الشهيرة “أنا الدولة والدولة أنا”، وهو العام الذي يعتبره المؤرخون الفرنسيون بداية عصر التنوير في فرنسا، حيث كان الفلاسفة التنويريون الفرنسيون مثل “فولتير” و”جان جاك روسو” عرابي تلك الفترة، وكانت مبادئهم تقوم على العقل والحرية والتسامح والمساواة والإخاء، ولم تكن رسالتهم موجهة إلى الفرنسيين فحسب، بل كانت أشمل وأعم.

دعا “روسو” في جزء محذوف من “رسالة إلى كريستوف دوبومون” أعيد نشرها في كتاب “القرن الثامن عشر” الذي ساهم في كتابته المؤرخ الفرنسي “برنارد غانيبان” قائلا: تعالوا إذن أيها اليهود والمسيحيون والمسلمون، ولنفحص طبيعة الإنسان حسب نظامكم، وأعدكم أنني سأتراجع بدوري إلى مجالي إذا ثبت خطئي، لكن أرجوكم دعونا نحاول أن نتجادل كأشخاص عقلاء.

يعتبر “جان جاك روسو” أن “الحرية صفة أساسية للإنسان، وحق غير قابل للتفويت، فإذا تخلى الإنسان عن حريته فقد تخلى عن إنسانيته وعن حقوقه كإنسان”.

لقد مهدت أفكار فلاسفة الأنوار طيلة أكثر من سبعين عاما الطريق لقيام ثورة قلبت علاقة الفرد والمجتمع بالكنيسة التي أحكمت قبضتها طيلة قرون على العروش في أغلب العالم المسيحي، واستعملت سلطتها الدينية لتسطير خرائط التعامل بين السلطة السياسية والاجتماعية وبين الفرد.

لوحة سقوط سجن الباستيل الشاهد على الاستبداد السياسي في فرنسا، وهي للرسام الفرنسي هويل

اقتحام سجن الباستيل.. اندلاع شرارة الثورة الفرنسية

اقتحم متظاهرون سجن الباستيل في الرابع عشر من شهر يوليو/تموز من العام1789، وهي القلعة الشاهدة منذ القرون الوسطى على الاستبداد السياسي في فرنسا، وكانت باريس في تلك الفترة قد شهدت ليالي من الرعب، ليكون يوم الرابع عشر من يوليو/تموز في ذلك العام الشرارة الفعلية لاندلاع الثورة الفرنسية.

فرغم أن ذلك الحصن كان خاليا تقريبا من السجناء، فإن قطع سلاسل الجسر المتحرك الذي يؤدي إلى فناء السجن الداخلي، ثم اقتحامه بعد مواجهة دامية بين حشود المتظاهرين وحراس السجن؛ كان منعرجا حقيقيا لمسار الثورة في فرنسا لسببين:

– الأول: تحطيم رمز قبضة الملوك الذين تعاقبوا على حكم فرنسا.

– الثاني: الاستيلاء على عشرات الآلاف من قطع السلاح المخزّنة في قلعة الباستيل لتعزز قوة الثوار.

لم تكن الأحداث التي شهدتها باريس في منتصف شهر يوليو/تموز تنذر بخير، فقد قُتل الماركيز “دي لوني” محافظ السجن بطريقة بشعة بعد أن أعلن استسلام حراس قلعة الباستيل، وقطعت الجماهير رأسه وجابت به شوارع باريس، وقتل المتظاهرون رئيس البلدية عند توجههم إلى فندق دوفيل، ولم تفلح محاولات رئيس الجمعية الوطنية “سيلفان بايلي” في السابع عشر من يوليو/تموز في تهدئة الموقف، وامتدت الاحتجاجات العنيفة لمختلف أنحاء البلاد.

وفي فرساي حيث يوجد القصر الشهير الذي اتخذته العائلة المالكة في فرنسا لعدة قرون مقرا لها؛ أمر الملك لويس السادس عشر بإغلاق مكان اجتماع الجمعية الوطنية التي أعلن ممثلوها أنها البرلمان الفرنسي الممثل للشعب، لكن ممثلي البرلمان الجديد كانوا قد قرروا إدارة البلاد، وأقسم أعضاؤها في العشرين من يونيو/حزيران 1789 على الولاء خلال اجتماعهم في ملعب تنس قريب من القصر الملكي، وكانت من ضمن خططهم كتابة الدستور.

حصدت الجمعية الولاء من ثوار باريس ومدن فرنسية أخرى، كما استمال أعضاؤها رجال الدين وعددا من النبلاء الذين انضموا إلى الجمعية.

كان الخوف يطوّق بلاط الملك لويس السادس عشر الذي حشد الجيش لينتشر في باريس، ولم يفلح إبقاؤه وزير المالية “جاك نيكار” في منصبه -بعد نشر الوزير بيانات ديون فرنسا- في تهدئة الوضع، وعمّت الفوضى شوارع باريس، واشتعل حماس المتظاهرين الذين قرروا يوم الرابع عشر من يوليو/تموز التوجه نحو قلعة الباستيل واقتحامها بعد معارك دامت ساعات طويلة أدت إلى سقوط قرابة مئة قتيل.

“مراسيم أغسطس”.. تلاشي الامتيازات الملكية والإقطاعية

بدأت فرنسا تحصد ثمار الثورة بعد أن سالت دماء الفرنسيين في شوارع مدن كثيرة، فقد رجحت كفة القوة شيئا فشيئا للفرنسيين الذين عانوا من التفرقة على أساس النسب والمنصب الاجتماعي، وشكل الفلاحون في مناطق كثيرة مجموعات مسلحة تهاجم قصور النبلاء، وكانت بذلك انتفاضة ضد النظام الإقطاعي.

في الرابع من أغسطس/آب من العام 1789 تحقق مطلب الفلاحين وألغت الجمعية الوطنية نظام الإقطاع عن طريق “مراسيم أغسطس” التي قلبت وجه فرنسا الاقتصادي، فقد ألغيت الحقوق الإقطاعية في الأراضي الزراعية والعقارات، وبالتالي فقدت الكنيسة والشركات الخاصة والنبلاء جميع امتيازاتهم.

بدأ الخناق يضيق على الملك لويس السادس عشر، وكان عاجزا أمام سلطة الجمعية الوطنية التي اتخذت قرارا تاريخيا في السادس والعشرين من أغسطس/آب من العام ذاته بنشر “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، وهو أساس الانتقال من نظام الحكم الملكي المطلق إلى النظام الملكي الدستوري، وينص هذا الإعلان الذي صاغه الماركيز “دي لافاييت” على الحق في الحرية وحق الملكية والأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد والمساواة بين الرجال.

وقد أثار غياب التنصيص على حق المساواة بين الرجال والنساء احتجاج الفرنسيات بعد أن قادت قرابة سبعة آلاف امرأة مسيرة نحو قصر فرساي في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، لدعم الجمعية الوطنية ومطالبة الملك بالانتقال إلى باريس، ولكن لم تنل المرأة الفرنسية مطلبها بالمساواة إلا في القرن العشرين، ورغم ذلك يرى البعض إلى حد الساعة أنها مساواة منقوصة.

كان كل شيء داخل أسوار الجمعية الوطنية تحت سيطرة بناة فرنسا الجدد، غير أن سقوط فرنسا إلى هاوية الإفلاس بدأ يلوح بعد تفاقم الأزمة المالية وانشغال الجمعية الوطنية بتنظيم البيت الدستوري على حساب إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية، وبدا وزير مالية لويس السادس عشر “نيكار” منقذا، وأعطته الجمعية الوطنية حق التصرف كاملا في إدارة الشؤون المالية للبلاد.

تقلصت سلطة الملك لويس السادس عشر وأصبح حكمه صوريا، فخلال مسار العمل على صياغة دستور للبلاد نصبت الجمعية الوطنية هيئة قضائية مؤقتة، وسحبت بذلك السلطة القضائية من يدي الملك الذي بقي له حق اقتراح الحرب على السلطة التشريعية التي من حقها رفض ذلك القرار، رغم أنه احتفظ ببعض الامتيازات التي أعطتها له الجمعية الوطنية مثل قيادة الجيوش الفرنسية وتحصينه ضد النقد.

قصر التويلري الذي حدثت فيه مجزرة عام 1972، حيث ذبح الشارع الفرنسي الحراس الذين كانوا يحمون الملك لويس السادس عشر

مجزرة قصر التويلري.. قيام الجمهورية الفرنسية

وقع الملك لويس السادس عشر على الدستور الفرنسي في 30 سبتمبر/أيلول من العام 1791، وبموجب هذا الدستور تحول نظام الحكم إلى ملكي دستوري إذ يتقاسم الملك السلطة مع مجلس تشريعي منتخب، وترك تعيين الحكومة بيد الملك.

لم ينتظر الفرنسيون كثيرا قبل الاحتجاج مرة أخرى، فبعد أقل من عام ظهرت ملامح أزمة اقتصادية وسياسية جديدة، ولم تستطع الجمعية التشريعية تسيير البلاد، واستعمل لويس السادس عشر سلطته في حق نقض القوانين التي منحها له الدستور، وعطل مشاريع بعض القوانين وهو ما خلق خلافا سرعان ما تحول إلى أزمة نظام حكم.

تحرك الشارع الفرنسي في باريس مرة أخرى، وحاصرت حشود من المتظاهرين في العاشر من أغسطس/آب 1792 قصر التويلري، وذبحوا الحراس الذين كانوا يقومون بحماية الملك، وحاصروا العائلة الملكية.

حينها أرادت الجمعية التشريعية تطويق الأزمة وطالبت بتعليق النظام الملكي، ومن الغد وقع الاتفاق على كتابة دستور جديد واختيار جمعية تأسيسية منتخبة عن طريق الانتخاب المباشر من قبل الفرنسيين الذكور، وذلك بعد مجزرة أدت إلى مقتل قرابة 1400 مواطن، ثم ألغي النظام الملكي وأقر النظام الجمهوري، وكان يوم الثاني والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 1792 هو بداية الجمهورية الجديدة.

الملك لويس السادس عشر الذي تمرد الفرنسيون ضده خلال طيلة ما يقرب 10 سنوات من عمر الثورة الفرنسية

“حكم الإرهاب”.. حين فاض الكأس عنفا ودموية

فتحت السلطة الجديدة في فرنسا جبهتي حرب، الأولى خارجية بعد دخولها في حروب مع دول أوروبية تخشى تصدير الثورة إليها وقلب نظام الحكم فيها، مثل النمسا التي أعلنت فرنسا الحرب ضدها في أبريل/نسيان 1792، وروسيا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا، وانضمت إسبانيا إلى هذه الدول بعد إعدام الملك لويس السادس عشر في شهر يناير/كانون الثاني عام 1793، أما الجبهة الثانية فهي داخلية بعد أن تمردت مناطق كثيرة في الجنوب دعما للنظام الملكي.

كان لتلك الحروب أثر سلبي على الاقتصاد الفرنسي، إذ ارتفعت الأسعار وأدى ذلك إلى زيادة الأنشطة المعادية للثورة في فرنسا، وشجعت هذه الظروف المنتمين إلى جمعية أصدقاء الدستور، أو ما يعرف بنادي اليعاقبة المعادي للحكم الملكي -وهو أكثر النوادي السياسية نفوذا وحضورا في البرلمان عن طريق الجيرونديون وحزب الجبل- على القيام بانقلاب على البرلمان والاستيلاء على السلطة، ولقي هذا الانقلاب دعما شعبيا وبدأت مرحلة جديدة سماها المؤرخون “حكم الإرهاب”.

حكم العنف والدموية -طيلة ما يقارب 10 سنوات من عمر الثورة الفرنسية- مسار الثورة في الشوارع حين تمرد الفرنسيون ضد الملك لويس السادس عشر من جهة، وخلال حكم اليعاقبة والمديرين الذين طاردوا معارضيهم، وقطعوا رؤوس أغلبهم من جهة أخرى.

يقول المؤرخ الإنجليزي ديفيس هانسون “إن الإرهاب ليس متأصلا في فكر الثورة الفرنسية، لكن الظروف في تلك الفترة جعلته ضروريا”، لكن لم يجد المؤرخون أي معنى للعنف الذي مارسته حكومة اليعاقبة بين العامين 1793 و1794 بقيادة “دي روبيسبيار” أكثر الثوريين تشددا وتعطشا للعنف، قبل أن ينتهي به المطاف تحت المقصلة.

بورتريه لـ”ماكسيميليان دي روبيسبيار” الذي عُرفت فترة حكمه بأنها دامية جدا

سيطرة حزب الجبل.. ديكتاتورية في رداء الثورة

بدأت فترة حكم الإرهاب حين سيطر حزب الجبل الذي كان يقوده “ماكسيميليان دي روبيسبيار” على السلطة في شهر مايو/أيار 1793، وبقي في الحكم إلى غاية شهر يوليو/تموز من العام 1794، وكانت تلك الفترة دامية جدا، حيث وقع الفرنسيون تحت طائل ديكتاتورية جديدة هي ديكتاتورية الثورة.

كانت المقصلة بطلة تلك الفترة حيث قطعت رأس أكثر من ستة عشر ألف شخص بتهمة القيام بأنشطة معادية للثورة، فقد كانت الأفكار المضادة للثورة في عهد ما يعرف بحكم الإرهاب تقود أصحابها إلى الإعدام، وكان المتهمون يقادون إلى المقصلة في عربات خشبية مكشوفة حتى يشاهدهم الناس، وليكونوا عبرة لمن يعارضون من هم في الحكم.

قامت الحكومة بالانتقام من معارضيها ومن كل من يتمرد عليها بالاعتماد على قانون التجنيد العام الإجباري، حيث قامت بتعبئة إجبارية للمواطنين حتى تعزز إمكاناتها لمواجهة المزارعين المتمردين، وشكلت تنظيمات شبه عسكرية، ومررت الحكومة قانون “المشتبه بهم”، فتمكنت من خلاله من إعدام من أسمتهم بمرتكبي الجرائم ضد الحرية.

عهد الإرهاب الأبيض.. أفكار تنوير لم تختمر

قاد “دي روبيسبيار” أيضا حربا ضد الكنيسة وأراد نشر عبادة الطبيعة وقام بطقوسها في كاتدرائية نوتردام في العاشر من أكتوبر/ تشرين الثاني من العام 1793، وقد يكون ذلك ما عجل بإضعاف الحكومة الثورية التي انتهت باعتقال “دي روبيسبيار” وإعدامه في السابع والعشرين من يوليو/تموز من العام 1794، وحظر نادي اليعاقبة، وتشكيل حكومة جديدة ضمن ما سمي بعهد الإرهاب الأبيض الذي شهد انتقاما من رموز الحكم في فترة حكم الإرهاب، وسن دستور جديد في شهر سبتمبر/أيلول من العام 1795.

ولم تختلف حقبة الإرهاب عما يسمى بعهد الإرهاب الأبيض التي كانت في عهد حكم مجلس تنفيذي عرف باسم “المديرين” الذي سيطر على الحكم في فرنسا في العام 1795، ففي تلك الفترة عُلقت الانتخابات وطورد رجال الدين وفتحت جبهات عسكرية أدت إلى توسع فرنسي خارج حدودها.

لم تكن عشر سنوات كافية لنضج معاني الإخاء والإنسانية التي نادى بها “مونتيسكيو” و”روسو” وهما من أهم مفكري فلسفة التنوير، لذلك رافق العنف والقمع الذي ثار ضده الفرنسيون كامل مسار الثورة الفرنسية، وشرّعت الحكومات خلال العشر سنوات من الثورة للقتل وملاحقة المعارضين باسم حماية مبادئ الحرية، وهي سياسة مناقضة لروح فلسفة الأنوار التي مهّدت للثورة.

انقلاب “نابليون بونابرت”.. وأد مبادئ الثورة الوليدة

كان من السهل وأد الثورة قبل أن تتغلغل مبادئها المحضة، لا في عقول المواطنين الفرنسيين البسطاء فحسب، بل في رؤوس قادة تلك الثورة أنفسهم، لذلك حين انقلب “نابليون بونابرت” على حكم المديرين وقضى على مسار الثورة بإنشاء ديكتاتورية جديدة لقي ترحيبا شعبيا كبيرا، وكان في صورة البطل القومي لأنه تمكن من قيادة حروب في جبهات خارجية ضد الحلفاء الأوروبيين من جهة، وكان أيضا بطلا لأنه ساهم في قمع ما يسمى بالثورة المضادة.

كان ذلك الموقف متناقضا عند الفرنسيين الذين عاشوا فترة الثورة، فأيدوا ديكتاتورا سيطر على الحكم لأنه قاد ثورة ضد أعداء الثورة، وكان “بونابرت” ذاته مناقضا لما تشبع به من مبادئ استلهمها من مؤلفات “مونتيسكيو” و”روسو”، حيث آمن بمبادئ الحرية والإخاء التي روج لها فلاسفة الأنوار، في حين أنه قاد أكثر من عشر حروب خلال فترة حكمه التي دامت ستة عشر سنة.

فقد قام “نابليون” بحملات في الشرق الأوسط، ونصب نفسه ملكا على إيطاليا بعد حملته عليها، كما ألغى قانون الرابع من فبراير/شباط للعام 1794 الذي ألغى العبودية في المستعمرات، وأقر جواز الاتجار بالعبيد حين سن قانون عشرين مايو/أيار سنة 1802.

نابليون بونابرت الذي ظهر بصورة البطل القومي لأنه تمكن من قيادة حروب في جبهات خارجية ضد الحلفاء الأوروبيين

احتلال العالم باسم الثورة.. مفارقات فرنسية سارت بها الركبان

ما زال الفرنسيون يفخرون بالثورة الفرنسية باعتبارها جزء مقدسا من تاريخهم وأنها ألهمت شعوب العالم من أجل التحرر، وما زال بعضهم يصنف منتقدي مسار تلك الثورة باعتبارهم أعداء الحرية، لكأنهم يستبطنون موقف اليعاقبة الذين لاحقوا معارضيهم بقبضة من حديد.

لقد احتلت فرنسا خلال فترة الثورة أجزاء من الأراضي الهولندية والنمساوية، وتعاملت مع بقية سكان العالم بغرور لا يتناهى، باعتبارها وصية على ما يجب أن يكون عليه وجه العالم باسم الثورة، وأرادت التوسع باسم حماية الثورة الفرنسية من جهة وتصدير مبادئها من جهة أخرى، غير أن الواقع هو أنها أرادت حل الأزمات الاقتصادية التي لم تستطع الحكومات المتعاقبة حلها من خلال التوسع والبحث عن مستعمرات جديدة.

من المفارقات العجيبة أن فرنسا التي تفخر بأنها قننت مبادئ ترجع للفرد إنسانيته قامت إلى غاية منتصف القرن العشرين باحتلال أكثر من 8% من مساحة الكرة الأرضية، وما زالت تحتفظ إلى غاية الآن بمستعمرات في بعض الجزر في المحيط الهادئ والهندي والأطلسي والبحر الكاريبي، ولا تتمتع تلك المستعمرات بحكم كامل.

قرون الاستعمار الأربعة.. مكافحة فرنسا بمبادئ ثورتها

امتلكت فرنسا طيلة أربعة قرون أكثر من ثلاثين مستعمرة في الجهات الأربع من الكرة الأرضية، ولم تستطع تلك المدة طمس جرائم ارتكبتها في حق سكان تلك المستعمرات وخاصة في أفريقيا، إذ قتلت قواتها العسكرية قرابة مليوني مواطن أفريقي، واتخذت من بعض المدن الأفريقية مراكز للاتجار بالعبيد.

وقد بدأ الوعي ينمو في العقد الأول من القرن العشرين لدى سكان المستعمرات الفرنسية، ومن المفارقات أن أساس هذا الوعي أفكار مستلهمة من الثورة الفرنسية نفسها، وكبر ذلك الوعي لتتكون حركات تحررية طالبت باستقلال أوطانها مرتكزة على تذكير الحكومات الفرنسية بالمبادئ التي نص عليها دستورها وبشّر بها فلاسفتها الذين تفخر بهم.

استعملت فرنسا عند اندلاع الحرب العالمية الثانية أبناء مستعمراتها ذخيرة للحرب مقابل وعود بمنحها الاستقلال، وقتل خلال الحرب العالمية الأولى 71 ألف جندي أفريقي حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي، وذلك بحسب تقرير أصدره مركز روبرت شومان للأبحاث في العام 2011، وأغلبهم من تونس والجزائر والمغرب ومدغشقر والسنغال.

صندوق فرنسا الأسود.. جرائم إبادة ضد الإنسانية

ارتكبت فرنسا في الثامن من مارس/آذار من العام 1945 مجازر في مناطق في الجزائر في سطيف وقالمة والمسيلة وخراطة وسوق أهراس، وخلال أكثر من قرن من الاستعمار سقط أكثر من مليون مواطن جزائري برصاص المستعمر الفرنسي خلال مطالبتهم بالاستقلال.

تسعى الحكومات الفرنسية المتعاقبة التي تحتفل بفخر بذكرى اندلاع الثورة الفرنسية؛ إلى إغلاق أرشيفها الأسود بخصوص الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها، ليس في مستعمراتها فحسب بل في وقت قريب خلال اندلاع الحرب الأهلية في رواندا بين الهوتو والتوتسي في العام 1994، وهي الحرب التي أسفرت فيها الإبادة الجماعية عن سقوط قرابة ثماني مائة ألف مواطن من التوتسي، حيث اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش فرنسا بالتورط في أكبر عمليات الإبادة التي شهدها التاريخ الحديث، حيث تقول المنظمة إن الجنود الفرنسيين تجاهلوا تقارير استخباراتية وردت إليهم بخصوص التحضير للقيام بعمليات إبادة جماعية، وإن عددا من الجنود الفرنسيين شاركوا في تلك المجازر.

أحد أسرى الثورة الجزائرية، حيث ارتكبت فرنسا في الثامن من مارس/آذار من العام 1945 مجازر في العدي من المناطق الجزائرية

“يا فرنسا إن ذا يوم الحساب”.. رؤوس شامخة وأيادٍ قذرة

في شهر سبتمبر/ أيلول من العام 2017 رفضت المحكمة الدستورية الفرنسية طلب باحث للوصول إلى الوثائق الخاصة بفترة ارتكاب مجازر رواندا التي تحتفظ بها الرئاسة الفرنسية، خشية كشف جريمة ستضاف إلى عشرات الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في مستعمراتها.

ما زالت تتكشف جرائم فرنسا التاريخية والآنية في الوقت الذي يقف فيه رؤساء فرنسا مرفوعي الرأس حين ينشد نشيد “لامارساييز” رمز الثورة الفرنسية، وكما خلد هذا النشيد شعارات الثورة الفرنسية خلدت الجزائر التاريخ الفرنسي الأسود في نشيدها الوطني:

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا… فاشهدوا… فاشهدوا