الجلابة.. حلة المغاربة في أعيادهم وأفراحهم وطقوسهم الدينية

يرتبط بشهر رمضان المبارك في المغرب فيض من العادات والطقوس التي تختلف من منطقة إلى أخرى ومن مدينة لمدينة، مما يجعل هذه المزايا الأصيلة أحد روافد الهوية والوطنية، ومكونات التنوع التراثي والثقافي الحضاري الذي ما يزال يحافظ عليه المغاربة منذ قرون.

تتنوع هذه الطقوس والعادات، سواء في الثقافة المطبخية الغنية بحلاوتها وملوحتها، أو في المعيش اليومي للناس، فضلا عن علاقاتهم الإنسانية وقيمهم الروحية والدينية التي تحظى بكثير من الوجاهة والتقديس، احتراما وتقديرا لشهر العبادات والكرامات والقرآن الكريم.

ويشكل الزي المغربي في رمضان خاصية متميزة أخرى، يحافظ عليها المغاربة كبارا وصغارا، كشكل من أشكال صيانة رموز الثقافة الروحية المحلية، والحفاظ على أصالة التاريخ، والاعتناء بشعائر الله تعالى في هذا الشهر العظيم.

ويحظى الجلباب المغربي -الذي يطلق عليه بالدارجة المحلية اسم “الجلابة”- باهتمام الصائمين في هذا الشهر الكريم، إذ يولونه قيمة كبيرة، وذلك من خلال اتخاذ الكثيرين لها زيا رسميا أثناء الصلاة في المسجد أو في المنزل، أو حتى خلال زيارة الأهل والأحباب.

“لمعلمين”.. أصابع تصنع القيمة التاريخية والدينية

يتفنن الحرفيون في صناعة الجلابة بطريقة متقنة، فهي تعد مفخرة للنساء والرجال من جميع الفئات والطبقات الاجتماعية، لما لها من قيمة ورمزية تاريخية ودينية ووجدانية، وهناك من يقتنيها جاهزة من الأسواق، وآخرون يقومون بخياطتها لدى خياط محترف في هذا المجال، ويطلق عليم اسم “لمعلم”.

وتختلف الجلابة المغربية حسب المناطق والمدن، لكن أشهر أنواعها الجلابة الفاسية والرباطية المخزنية والمراكشية، وكذلك الأمازيغية والشمالية الجبلية، نسبة إلى أهالي وسكان مناطق جبال الريف.

تختلف قيمة الجلابة من حيث الأثواب والقماش الذي تصنع منه، لكن أشهر تلك الأنواع وأحبها إلى الناس هو قماش الصوف الذي يمر بمراحل كثيرة قبل أن يصل إلى يد (الخياط)، ثم يبدأ مع الخياط طقوسا أخرى خاصة به، وتحدد من خلالها نوعية التفصيل والخياطة بحسب اختيارات ورغبة الزبون.

الجلابة التقليدية المغربية المصنوعة بطريقة يدوية مئة بالمئة، والتي تشتهر بها الكثير من المدن والقرى المغربية

هناك نوعان من خياطة الجلابة، النوع الأول عصري، حيث تصنع الجلابة بطريقة سريعة في المعامل، وهناك الثاني والمفضل لدى معظم الناس، وهو الصنف الذي يصنع بطريقة تقليدية يدوية ما تزال قائمة حتى الآن.

وادي زم.. تصنيع يدوي في وكر الصناعة التقليدية

يشتهر كثير من المدن والقرى بخياطة الجلابة التقليدية بطريقة يدوية تقليدية 100%، ومنها فاس ومراكش والرباط وسلا ووزان وبني ملال وأولاد عياد والجديدة وأبي الجعد، كما تعتبر مدينة وادي زم -التي تبعد عن الرباط بنحو 170 كيلومتر جنوبا- من أبرز المدن المغربية العريقة التي ما تزال تحافظ على خياطة الجلابة بطريقة يدوية وتقليدية.

ويجتمع هؤلاء الخياطون مع مساعديهم في محلات ودكاكين قديمة تعود إلى عهد الاستعمار، حيث ينكبون على خياطة طلبات زبنائهم من الصباح الباكر وحتى وقت صلاة المغرب، وبعضهم من حفظة القرآن يخيطون وهم يقرأون الذكر الحكيم، في مشهد مهيب للغاية.

تصنع أقمشة الجلابة التقليدية عادة من صوف الضأن، حيث يجز صوف الغنم في البداية ليمر بمراحل الغسل والتنشيف، ثم يبدأ تمشيطه وتسريحه بمشط حديدي كبير، وبعدها تأتي عملية غزله من قبل نساء محترفات ورثن الحرفة من الأمهات والجدات.

يصنع قماش الصوف على منسج خشبي تقليدي، وتقوم نساء بارعات وكبيرات في السن بهذه العملية التي تمتد إلى شهر، ثم يبعن منسوجاتهن ومنتوجهن في الأسواق الأسبوعية، وغالبا ما يعشن في البوادي والقرى والأرياف النائية.

“جلابة خيدوسة”.. كساء دافئ يغطي سكان الأرياف

تختلف الجلابة المصنوعة من الصوف باختلاف ثوبها، فالثقيلة نوعا ما تسمى بالعامية المغربية “خيدوسة”، ويفضلها سكان البوادي والأرياف، إذ تكون لهم كساء مفضلا في فصل الشتاء، تقيهم شدة البرد والصقيع، وتكون لهم حشمة ووقارا وحفاظا على تراث الأجداد أثناء الصلاة.

جلابية الخيدوسة التي يفضلها سكان البوادي والأرياف

في البوادي والأرياف يفضل الرجال لبس الجلابة مع قلنسوة بألوان مختلفة يطلق عليها اسم “الطاقية”، وهناك من يلبسها مع العمامة “الرزة” التي أصبحت تنقرض شيئا فشيئا، وذلك بفعل عوامل التمدن والحضارة، لكن أهالي وسكان المناطق الجبلية والأمازيغية ما يزالون يحافظون عليها حتى الآن.

“جلابة السوسدي”.. أزياء المدينة البيضاء الراقية

أما الجلابة ذات الخيوط الرقيقة والخفيفة، فتسمى “جلابة السوسدي”، وتبرع في صناعتها النساء من حيث اللون والزخرفة، وغالبا ما يضاف إليها الحرير لتبدو زاهية ولامعة وأكثر أناقة وجمالا، ويقبل عليها علية القوم والأغنياء والميسورون.

تبقى الجلابة ذات اللون الأبيض من الأزياء التقليدية الراقية التي يفضل الناس لباسها في هذا الشهر الفضيل، لتماشيها مع القيم الدينية، وصيانتها لقيم الهوية الوطنية والثقافة العربية الإسلامية والأصيلة وأصول العفة والجاه والوقار.

“جلابة السوسدي” التي تبرع في صناعتها النساء من حيث اللون والزخرفة

يشكل رمضان المبارك مناسبة عظيمة تنتعش فيها تجارة الجلابة سواء لدى الرجال أو النساء وحتى الأطفال، حيث يفضل البعض التوجه إلى الخياط، لأخذ المقاس وتتبع مراحل خياطتها، حتى ينتهي منها “لمعلم”، فتكون غاية في الدقة والحسن والأناقة والجمال، لكن هناك من يفضل أن يشتريها جاهزة من محلات بيع الأزياء التقليدية المنتشرة، أولا لربح الوقت، وثانيا لسعرها المناسب والرخيص، مقارنة مع سعر الخياط اليدوي، إذ غالبا ما يكون مرتفعا وباهظا.

طربوش الرجال وشريبل النساء.. طقوس الجلابة

تخاط الجلابة التقليدية بخيوط تسمى “الحرير”، وهي خيوط أنيقة ملمسها رطب، وتزين من الأمام بقطع من القماش الحريري تسمى “سفيفة”، وهذه القطع الحريرية تخاط على الكمين وغطاء الرأس الذي يسمى “القب”، وتضيف لهذا الزي لمسات كلها أناقة وجمال.

تكتمل زينة الجلابة لدى الرجال بطقوس أخرى ترتبط بلباس “فوقية” تحت الجلابة، ووضع قلنسوة بلون أحمر تسمى “طربوش”، بينما يعتمر آخرون قلانس بيضاء أو مطرزة بالحرير، وغالبا ما تقدم لهم كهدايا غالية يجلبها الحجاج والمعتمرون من الحرمين الشرفين خلال زيارة المقام الشريف.

النعل الذي يطلق عليه اسم “بلغة”، وهو أحد المتعلقات المهمة والضرورية، وهي ترافق طقوس لبس الجلابة التقليدية

كما يشكل النعل الذي يطلق عليه اسم “بلغة” أحد المتعلقات المهمة والضرورية، وغالبا ما يكون لون البلغة أصفر أو أبيض، وهي ترافق طقوس لبس الجلابة التقليدية للذهاب إلى صلاة التراويح والعيدين وزيارة الأهل والأحباب خلال المناسبات الدينية، وكذا الحفلات والأعراس.

تشتهر مدينة فاس العريقة بالخف الذي يلبس مع الجلابة، فقد برع حرفيو فاس منذ قرون خلت في صناعة هذا النعل المتفرد الذي يصنع من جلود الأبقار بألوان مختلفة، لكن أكثرها اقتناء يكون باللون الأصفر والأبيض.

كما ترافق لبس الجلابة النسائي طقوس ترتبط باختيار الوشاح والمناديل والنقاب، إضافة إلى الخف الذي يطلق عليه اسم “بلغة” أو “شريبل”، وأرقاه الخف المطرز بعقد بلورية زاهية ولامعة، ويسمى “شربيل بالموزون”.

عصرنة الجلابة.. تأثيرات السياحة والمعارض الدولية

تتعدد أشكال موضة لباس الجلابة، فقد أصبح كثير من الشباب يلبسونها دون احترام طقوسها، فكثيرا ما نرى من يلبسها مع الأحذية الرياضية أو مع سروال من الجينز، ومنهم من يرى في ذلك تمردا على العادات والتقاليد، وآخرون يرون فيها صورة للانفتاح والعصرنة والتحرر.

وشكل اقتراب المغرب من أوروبا ومشاركة الكثير من الحرفيين والصناع التقليديين في معارض دولية، مناسبة لهجرة الجلابة المغربية إلى الخارج، كما ساهمت الجالية المغربية المقيمة في أوروبا في إيصال هذا الزي إلى هناك والتعريف به والحفاظ عليه، حتى أصبح رمزا لرائحة البلاد وللهوية الإسلامية والتاريخ.

بهذا السبب أدخلت على الجلابة وكذا القفطان المغربي تحسينات عدة، ليتناسب مع رغبات الزبناء، فأصبح يزين بلمسة عصرية لا تفقده أصالته وهويته، سواء من حيث نوع القماش أو الشكل أو التصميم، مما يساهم في الحفاظ على حرمته وجماله وقيمته.

وتحظى الجلابة التقليدية باهتمام كثير من السياح الأجانب الذين يزورون البلاد، حيث أصبح من المألوف مشاهدة السياح -خاصة الأوروبيين- يلبسونها رجالا ونساء وأطفالا على طريقتهم الخاصة، ويتجولون في الشارع العام دون أدنى حرج أو خجل.

مرونة الإدارة.. عودة المرأة العاملة إلى تراث الجدات

تقبل النساء المغربيات كبارا وصغارا على الجلابة التقليدية في هذا الشهر المبارك، سواء من خلال اقتنائها أو خياطتها عند (لمعلم)، وغالبا ما يلبسنها يوم الجمعة، ولا مانع من الذهاب بها إلى العمل وفي أوقات الدوام.

وتوضع مع الجلابة النسائية -التي تصنع من الحرير والأثواب الناعمة الزاهية محلية الصنع أو المستوردة- وشاحات تناسب لونها، وهناك من تضع النقاب كشكل من الأشكال الراقية للزينة الأصيلة والوقار، وحفاظا على موروث تركته بركات الجدات منذ زمان.

ألوان مختلفة للخف الفاسي الذي يُسمى “بلغة”

بهذه الطقوس والتقاليد يتجدد الوصال والدفء مع الجلابة كل عام في هذا الشهر المبارك، حيث يفضلها أغلب الرجال، خاصة للذهاب إلى المسجد للصلاة، كما ترى فيها الفتيات لباسا محتشما وساترا، خاصة أثناء الخروج إلى الشارع، سواء للعمل أو الدراسة وغيرهما.

وتتساهل الإدارة المغربية وباقي المؤسسات مع الموظفات بهذا الشهر المبارك في لبس الجلالة أثناء الدوام، وهو ما يجعل النساء يرتحن كثيرا في هذه المزية الفضلى، ويطرحن عناء اللباس الرسمي كل يوم، فيمر يوم صيامهن مباركا معطرا بأريج الثواب والغفران.

شهر رمضان.. موسم تجاري يجدد البيعة للجلابة

تشكل الجلابة في رمضان وباقي أيام السنة إلى جانب زي آخر يطلق عليه اسم “السلهام”، وهو لباس يوضع فوق الجلابة، ويكون مفتوحا من الأمام وبلا كمين؛ زيا رسميا لخطباء الجمعة وأئمة المساجد، وهو ما يمنح أولئك العلماء والفقهاء وحفظة القران الكريم فيضا من الهيبة والإجلال والوقار.

يحافظ المغاربة إلى جانب الجلابة والسلهام على أزياء تقليدية أخرى تختلف حسب المناطق، ولعل أبرزها “جبادور”، و”الكندورة”، و”الفراجية”، و”التشامير”، فضلا عن “القشابة”، و”الملحفة” الصحراوية، و”القميص” وغير ذلك.

جلابة “الجبادور” المغربية التي تُصنع خصيصا للأطفال والصبيان

مع كل حلول لشهر رمضان يتجدد بريق الجلابة بأشكال وتصاميم جديدة، فتنتعش الحركة التجارية والاقتصادية، كما يقبل عليها المواطنون مع اقتراب عيد الفطر، لتكون لباسهم المفضل أثناء الصلاة وزيارة الأهل والأحباب.

بكل هذا الاهتمام الكبير بهذا الزي التقليدي المغربي العريق الذي يعود تاريخه إلى قرون، تبقى الجلابة صامدة بأناقتها وهبتها، متحدية كل مظاهر العصرنة والموضة الجديدة، وحاضرة بقوة في المناسبات الدينية والرسمية، وزينة في مواسم الفروسية والأضرحة والأولياء والمزارات.

كما ستبقى رمزا باذخا من رموز الهوية الوطنية، والتراث الشعبي العريق، وصورة مشرقة من صور الأناقة والنبل والوجاهة والوقار، وتمجيد القيم الروحية الأصيلة والطقوس والعادات العربية والإسلامية النفيسة.