الجيل الخامس.. حصان طروادة الصيني لاختراق الحصون الأمريكية

أيوب الريمي 

لم يكَد العالم يلتقط أنفاسه ويضع خلفه صفحات الحرب الباردة ومخلفاتها، حتى اندلعت حرب جديدة عنوانها العريض “التجارة”، وفي ثناياها سباق محموم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين لامتلاك المستقبل، وبين الحربين فرق شاسع في الوسائل والأساليب والتقنيات، فالحرب الباردة كانت حرب سباق نحو التسلح والردع النووي، أما الحرب الحالية التي تحبس أنفاس الاقتصاد العالمي، فأسلحتها التكنولوجيا، وأهدافها السيطرة على البنية التحتية للإنترنت والحصول على المعلومات وقواعد البيانات.

فلا عجب إذن أن تكون شركة “هواوي” الصينية على رأس قائمة الشركات التي تضعها واشنطن كخطر على أمنها القومي، وتفرض عليها عقوبات بلغت حد المقاطعة والحصار، كل ذلك تحت مبرر أن الشركة تقوم بأنشطة تجسس لصالح الحكومة الصينية.

 

التنين الصيني.. كيف فعلها؟

فرضت شركة “هواوي” نفسها كرقم صعب في عالم الهواتف الذكية والإنترنت، ونجحت في هز عرش العملاقين في هذا المجال، “آبل” و”سامسونغ”.

استثمرت “هواوي” ميزانية ضخمة لتطوير تقنية الجيل الخامس من الإنترنت، لدرجة أن الدول الأوروبية وجدت نفسها في حرج، وهي تعترف بعدم قدرتها على الاستغناء عن خدمات الشركة الصينية رغم كل التحذيرات الأمريكية.

يطرح هذا الأمر أكثر من سؤال حول أسباب الصعود الصاروخي لهذا التنين الصيني الذي يكسر الاحتكار الأمريكي لتكنولوجيا الاتصال، ولماذا باتت الدول الأوروبية عاجزة عن مقاطعة منتجات “هواوي” رغم كل المخاوف الأمنية من استغلال هذه المنتجات للتجسس على الصين، وعن الأسباب الحقيقية التي تجعل الولايات المتحدة تتوجس من كل ما يحمل علامة “هواوي”؟

 

شينزن.. وادي السيليكون الصيني

تتبع مسار الشركة الصينية، يوحي بأنها تحاول تقليد النموذج الأمريكي في كل شيء، بداية من العمل على تأسيس منطقة للتكنولوجيا العالية، على شاكلة منطقة “وادي السيليكون”، فعلى امتداد مساحة شاسعة يوجد مجمع تكنولوجي داخل المنطقة الصناعية لمدينة “شينزن” الصينية التي تعتبر مركز البحث العلمي جنوبي البلاد، وفي قلب هذا المجمع التكنولوجي الخاضع لإجراءات أمنية مشددة، توجد المئات من الخوادم الرقمية الضخمة، هي الموكلة بمهمة تطوير الذكاء الصناعي للشركة.

ورغم السرية العالية التي تلف هذا المجمع استطاع عدد قليل من التحقيقات الصحفية الوصول لهذا المختبر العلمي، منها تحقيق تابع لصحيفة “لوموند” الفرنسية التي تقول إن هذه الخوادم موجودة في غرف مظلمة وخاضعة لمراقبة صارمة تجعل الوصول إليها أو اختراقها أمرا مستحيلا، مضيفة بأن هذا المختبر يعتبر غرفة العمليات المركزية للشركة الصينية في تطوير هواتفها، وهو الذي مكنها من تصدر الشركات القادرة على تجهيز البنية التحتية الخاصة بالجيل الخامس للإنترنت.

 

كسر الاحتكار.. شركة هزت عرش “آبل”

تشغل الشركة الصينية “هواوي” مساحة واسعة في عالم الاتصال والتقنيات الحديثة، فهي من جهة تُطور قدراتها لتشييد شبكة الجيل الخامس من الإنترنت في العالم، ومن جهة ثانية تدخل في منافسة شرسة مع الشركات الأمريكية والكورية الجنوبية لتطوير الهواتف وكل ما هو مرتبط بها.

وبسرعة مثيرة تمكنت “هواوي” من تعويض شركة “آبل” التي كانت في المركز الثاني عالميا في مبيعات الهواتف الذكية، وتقول الشركة إن إستراتيجيتها أن تتصدر المبيعات العالمية بحلول العام 2020، وتتفوق على شركة “سامسونغ” صاحبة المركز الأول.

كسْر الاحتكار الكوري الأمريكي لسوق الهواتف الذكية، تفسره الكثير من التحليلات المتخصصة بنجاح المؤسسة الصينية في تصنيع هواتف تتوفر فيها كل المميزات التقنية التي تمتاز بها الهواتف المصنعة من طرف منافسيها، بينما تتفوق عليها في الأسعار المنخفضة.

وقد اقتحمت الشركة الدول الغربية والولايات المتحدة بالاعتماد على حملة إعلانية غير مسبوقة، وذلك عبر عقود خيالية مع أندية رياضية، وحملات دعائية مع أشهر الأسماء في عالم كرة القدم والفن والسينما.

 

ربط كل العالم بالإنترنت.. التحدي الكبير

استطاعت “هواوي” حجز مراكز متقدمة في مجالات متعددة، أما المجال الذي احتلت فيه الشركة الصينية الصدارة منذ 2017 فهو نشاطها التاريخي الكبير المتمثل في التجهيزات الخاصة بشبكات المحمول، وتوفير مراكز الاتصال واللواقط الهوائية التي يتم بيعها لشركات الاتصال عبر العالم.

وقد رفعت الشركة سقف التحدي عاليا عندما أعلنت أن خطتها في السنوات القليلة المقبلة هي ربط كل العالم بالإنترنت، ولبلوغ هذا الهدف استثمرت الشركة ما يفوق 14 مليار دولار في البحث العلمي، وأصبحت أكبر مؤسسة تمتلك براءات اختراع في العالم، متفوقة على كل الشركات الأمريكية.

وتحاول الشركة جمع مجال الاتصالات تحت يدها، بحيث تصبح قادرة على إنتاج كل ما يتعلق به دون الحاجة لأي مساعدة أو شريك خارجي، وهي الآن تصنع رقاقات الهواتف، إضافة لتطويرها لنماذج في القيادة الآلية، وهي النماذج التي أقنعت كبار مصنعي السيارات بالاعتماد على التقنية الصينية بدلا من الأمريكية، كما هو الحال بالنسبة لشركة “أودي” الألمانية، و”بيجو ستروين” الفرنسية التي تعتبر ثاني أكبر مصنع للسيارات في العالم.

 

سباق لامتلاك المستقبل.. إشعال فتيل الحرب

يترقب العالم باهتمام شديد خروج الجيل الخامس من الإنترنت للنور، وتعميمه سواء للاستعمال الشخصي أو المؤسساتي.

ويكفي أن شركة “سامسونغ” أطلقت حملتها الإعلانية بربط الجيل الجديد من الإنترنت بأنه نقلة نحو المستقبل، بل إن الجيل الخامس (5G) كفيل بأن يجعل السيارات آلية القيادة في متناول الجميع، وبأن يصبح الرجل الآلي قادرا على القيام بمهام الإنسان في المنازل والمرافق العمومية، مما يعني أن البشرية مقبلة على نقلة حقيقية نحو العالم “الآلي” حيث سيتجلى الذكاء الصناعي بشكل أكثر وضوحا ويصبح متحكما في كل جوانب حياتنا اليومية.

ومن يمتلك ناصية هذه التقنية لا شك أنه سيمتلك العالم، وهذا منطلق الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة التي لا يريد أحد الطرفين فيها التنازل لغريمه أو منحه فرصة قيادة مستقبل العالم لوحده.

 

“إنترنت الأشياء”.. العالم الآلي

حسب تقرير لشركة “أورانج” الفرنسية التي تتصدر مجال الاتصالات في فرنسا، فإن الجيل الخامس من الإنترنت سيتمكن من ربط كل شيء بالإنترنت في أي مكان باستمرار ودون انقطاع.

تقديرات الشركات الفرنسية تخبر المستعمل العادي أن هذا الجيل الجديد سيمنحه تدفقا للإنترنت أسرع عشر مرات من الجيل الرابع (4G)، وهو ما يعني قدرة أكثر على تحميل المحتوى السمعي البصري، وهو أيضا خبر سعيد لصناعة الألعاب الإلكترونية المباشرة، فهذا السوق يعيش خلال الفترة الأخيرة أيامه الذهبية ويحتاج لمنصة تجعل المستخدمين قادرين على اللعب دون انقطاع.

أما بالنسبة للمؤسسات والشركات، فهذا الجيل الجديد من الإنترنت سيمنحها قدرة على تمرير المليارات من المعطيات دون توقف، وفي وقت وجيز.

ولعل التطور الأكثر إثارة في ما سيحدثه هذا النمط من التطور هو ما يسمى “إنترنت الأشياء”، بمعنى أن هذه التقنية الحديثة ستُمكّن جميع الأجهزة الإلكترونية من الاتصال فيما بينها والتواصل دون أي تدخل بشري.

 

البنية التحتية.. سباق عمالقة التكنولوجيا

على الرغم من الفرص الاقتصادية والتقنية التي سيوفرها الجيل الخامس، فإن الاستثمار فيها يتطلب ميزانيات ضخمة وجيوشا من المهندسين والخبراء، مما جعل هذه التقنية محتكرة لحد الآن من طرف ثلاث شركات، وهي التي تزود كل شركات الاتصالات عبر العالم بإنترنت الجيل الخامس.

وتدور معركة الحصول على أكبر عدد من صفقات تشييد البنية التحتية لهذه التكنولوجيا الحديثة بين شركتين أوروبيتين وشركة صينية، ويتعلق الأمر بكل من المجموعة السويدية “إريكسون”، والشركة الفنلندية “نوكيا”، وأخيرا شركة “هواوي” الصينية، ورغم محاولات الشركة الكورية الجنوبية “سامسونغ” اللحاق بالركب فإنها مازالت متأخرة مقارنة بمنافسيها.

 

كوريا الجنوبية.. الأولى في العالم

وقد بدأت بالفعل بعض دول العالم في اختبار هذه التقنية الجديدة، وخلقت كوريا الجنوبية المفاجأة بإعلانها تغطية كل مناطق البلاد بالإنترنت الجديد كأول دولة في العالم تقوم بهذا الإجراء، أما الصين فقد بدأت بمنح رخص استعمال الجيل الخامس من الإنترنت لعدد من الشركات وفي مقدمتها “اتصالات الصين” التي تعتبر أكبر شركة اتصال في العالم، وقد وعدت بتغطية أربعين مدينة صينية بهذه التكنولوجيا الجديدة كمرحلة أولى.

وفي الولايات المتحدة يتم اختبار سرعة الجيل الخامس منذ سنة 2018 في الهاتف الثابت بداية، ويتم حاليا تجهيز نحو 20 ولاية أمريكية بالبنية التحتية الخاصة بإنترنت الجيل الخامس، وقد شهدت هذه السنة الانطلاق بسرعة قصوى لتوفير هذه الخدمة لأكبر عدد من المستخدمين.

وتتوقع الحكومة الأمريكية أن حجم الاستثمارات التي يحتاجها وضع التجهيزات التقنية الخاصة بهذه التكنولوجيا سيصل إلى 20 مليار دولار، وسيتم في البداية التركيز على الولايات المأهولة أكثر بالسكان، كما تعهدت الحكومة بأنها ستقدم دعما للولايات التي تشهد كثافة سكانية ضعيفة حتى تستغل هي الأخرى هذه التقنية.

 

أوروبا تدير ظهرها لأمريكا.. إذا عُرف السبب بطل العجب

وجدت الولايات المتحدة نفسها في حرج كبير وهي ترى حلفاءها الأوروبيين لا يستجيبون لمطالبها بسد أبوابهم في وجه شركة “هواوي” الصينية.

وعلى الرغم من كل التحذيرات الأمريكية بأن الشركة قد تكون نافذة للتجسس على الدول الأوروبية والمصالح الأمريكية فيها، فإن تلك التحذيرات لم تجد أي آذان صاغية، بل على العكس دخلت العديد من الدول الأوروبية التي تُعتبر العمود الفقري للقارة العجوز في مفاوضات سرية مع شركة “هواوي” لوضع خطط لتشييد البنية التحتية الخاصة بالجيل الخامس من الإنترنت.

موقف قد يستغربه البعض، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب، فبحسب دراسة لجمعية مجموعات الاتصالات الأكبر في أوروبا فإنه لو قرر الاتحاد الأوروبي الاستجابة للضغوط الأمريكية وعدم الاعتماد على الصين في إطلاق الجيل الخامس، فسيكون على دول الاتحاد تحمل كلفة إضافية قيمتها 60 مليار دولار تقريبا، وذلك رقم لا طاقة للاتحاد به، فالكثير من دوله تعاني أزمات اقتصادية حقيقية.

 

نفسي نفسي.. الاقتصاد أولا

تؤكد الدراسة التي أجرتها جمعية مجموعات الاتصالات الأكبر أنه من دون “هواوي” ستتأخر أوروبا بحوالي سنة ونصف حتى تكون قادرة على إطلاق هذه الخدمة، وسيكون لهذا التأخير نتائج سلبية وخسائر بالمليارات لشركات الاتصالات.

ومن الخلاصات التي توصلت إليها الدراسة أنه بات من شبه المستحيل الاستغناء عن التقنية الصينية، فهي إلى جانب “إريكسون” و”نوكيا” يستحوذون على 80% من سوق إنترنت الجيل الخامس، وتبقى الشركة الصينية هي صاحبة الأفضلية بالنظر للأسعار التفضيلية التي تقدمها مقارنة بالشركتين الأوروبيتين.

إكراه آخر سيواجه الدول التي تفكر في التخلي عن التقنية الصينية، وهو التأثير على أسعار الخدمة المقدمة للعملاء، سواء تعلق الأمر بشخصيات عادية أو بشركات ومؤسسات.

وتذهب نفس الدراسة إلى أبعد من ذلك؛ فتتوقع أن يكون لأي تأخير في إطلاق هذه الخدمة تأثير مباشر على الاقتصاد الأوروبي، وتكبد خسائر بقيمة 15 مليار دولار في أفق سنة 2025.

هذا الوضع المعقد جعل الأوروبيين يتقبلون الأمر الواقع، ويدخلون على مضض في محادثات مع شركة “هواوي”.

 

المفاوضات السرية.. فضيحة سياسية في بريطانيا

اختارت دولة مثل ألمانيا الطريقة المباشرة والإعلان صراحة أنها دخلت في مفاوضات مع الصينيين، وتحذيرهم من أي محاولات للتجسس على مصالح البلاد، في حين لجأت المملكة المتحدة للمباحثات السرية، وذلك قبل أن يفتضح الموضوع ويتحول إلى أزمة سياسية انتهت بإقالة وزير الدفاع البريطاني في شهر مايو/أيار الماضي، بعد اتهامه من طرف رئيسة الوزراء البريطانية السابقة “تيريزا ماي” بتسريب معلومات للصحافة تفيد بإجراءات مفاوضات مع شركة “هواوي” لتجهيز البلاد بتقنية الجيل الخامس، على الرغم من التحذيرات الأمريكية.

رد الشركة الصينية على اتهامات التجسس هو أن مكونات كل أجهزتها يتم استقدامها من كل أنحاء العالم، وبأن رغبتها في الانتشار له أسباب اقتصادية وتجارية محضة وليست هناك أي أغراض أمنية لكل معداتها.

مبررات تبدو غير مقنعة للأمريكيين الذين ما زالوا يفرضون عددا من القيود على الشركة التي تعتبر النقطة الأكثر تعقيدا في المفاوضات التجارية الجارية حاليا بين واشنطن وبكين.