هضبة “الجِلف الكبير” .. رحلةٌ في عمق الصحراء المصرية

مهدي أمين المبروك

هنا الصحراء حيث الدروب الصعبة والمسالك الوعرة والأخطار الكثيرة، تتحرك فيها الرمال بناء على رغبة الرياح التي تنقلها من مكان إلى آخر بإذن ربها صانعة الكثبان الرملية، يشعر الإنسان في الصحراء بعزلة عن حياة البشر، فحدود الصحراء غير معروفة لمن أصبح في وسطها ولم يمتلك وسيلة للخروج منها.

في القديم استخدم المسافرون النجوم في السماء كعلامات يهتدون بها إلى طريق سفرهم، واستعملوا الإبل التي أطلقوا عليها “سفينة الصحراء”؛ كي تجري بهم في وديانها وقفارها بأمان، ففي الصحراء لا وجود للأشجار الجميلة، بل لا يوجد غير الوحشة والبعد عن الأنس والحياة البشرية.

بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية بعنوان “الجلف الكبير” يسرد لنا قصة رحلة قام بها محمد السنوسي الشهير بـ”كوسا” قائد الرحلة، وشقيقه الأكبر حسن، وعلي القناوي الشهير بـ”عليوة”، رحلة امتدت عبر الصحراء المصرية الغربية متجهة نحو هضبة “الجلف الكبير”.

 

رحلة طويلة تحيطها المخاطر من كل مكان، فلا أحد يمد لهم يد العون إذا وقعوا في أية مشكلة إلا الله تعالى، وإذا غضبت الصحراء أثناء رحلتهم وهاجمتهم برمالها وعواصفها، فلن يكون في أيديهم سوى انتظار القدر الذي كتبه الله عليهم، ولحسن حظهم فقد كان وجهها جميلا عليهم، وإن عكّر صفاءه بعض وعثاء السفر بين الحين والآخر إلا أنه كان رفيقا طيبا لهم على مدار الرحلة.

سفينة الصحراء.. مسيرة 10 أيام في المفازات

يبدأ الفيلم بعرض مشاهد اجتماع الرحَّالة المسافرين حول خارطة تبين مسار الرحلة، يتحدثون عن “وادي حمرة” الذي يبعد 365 كم جنوبي الجيزة، تنطلق الرحلة من قرية “باويطي” وتستغرق 1500 كم للوصول إلى هضبة الجلف الكبير، وتحتاج إلى مدة 10 أيام أو أكثر في عمق الصحراء.

يظهر الرحَّالة وهم يحزمون أمتعتهم من طعام وشراب ووقود للسيارات وكافة المعدات التي تُعينهم على قضاء تلك المغامرة الصعبة، يستخدمون سيارات الدفع الرباعي التي تُعد في العصر الحالي بمثابة سفينة الصحراء لخوض غمار هذه الرحلة، وأمَّا السائقون الثلاثة فهم بمثابة الأدلاء المرشدين إلى الطريق الصحيح.

بئر السبعة.. الاستحمام الأخير

بدأ الرحالة الثلاثة بقيادة مركباتهم على طريق معبدة ثم بدت لهم جبال ذات ألوان سوداء في منطقة “الحيز” وأخرى حمراء أكسبتها البراكين التي اجتاحت المنطقة قديما تلك الألوان. يقول على قناوي “عليوة”: هذه البراكين غيَّرت شكل الأرض وألوان الصخور. وعلى الرغم من وصولهم إلى محمية الصحراء البيضاء إلا أنَّ الجبال ما زالت ذات لون أسود، يعلل “كوسا” ذلك قائلا: نحن ما زلنا في حدود منطقة الجبل الكيرستالي.

السيارات كأنها تتزلج فوق رمال الصحراء الناعمة المتحركة

 

أثناء المسير وقبل أن ينتهي اليوم الأول من الرحلة تعطلت سيارة حسن، الأمر الذي اعتبروه رسالة لما يمكن أن يواجههم في قابل الأيام، ثم قاموا بتصليحها بما امتلكوا من أدوات، وبعد صيانتها واصلوا المسير، وظهرت لهم بداية الصحراء البيضاء التي تبعد عن منطقة “الفرافرة” حوالي 40 كم، كانت هذه المنطقة قديما إحدى قيعان البحار، وما زالت الحجارة الجيرية والقواقع البحرية المنتشرة في المكان تشير إلى تاريخها المائي.

وبعد قيادة طويلة للسيارات قرر السائقون الاستراحة فنصبوا خيمتهم، وأشعلوا النار بما أحضروه معهم من حطب ثم صنعوا طعامهم وخلدوا للنوم حتى الصباح ثم ارتحلوا من المكان، وقد شاهدوا أحجارا جيرية صنعت منها الطبيعة أشكالا متنوعة، منها ما يشبه الحصان وأخرى كالدجاج وغيرها مثل الأرنب، وعندما وصلوا منطقة “الفرافرة” تحديدا عند بئر السبعة استحموا بالماء الساخن الخارج من البئر.

هذا الماء الخارج من بطن الأرض شكل فرصة أخيرة لهم للاستحمام قبل أن يدخلوا الصحراء التي ماؤها رمال وهواؤها حار والحياة فيها مجهولة المصير، تجاوزوا قرية “أبي منقار” وما زالوا على الطريق المعبد الذي بقي منه كيلومتران فقط قبل دخول بحر الرمال.

رمال الصحراء الجائعة.. شبح الوقت ينتصر على الرحلة

أطلق العرب قديما على الصحراء “المفازة”؛ لأن من يعبرها سالما يصبح من الفائزين بحياته، الآن دخل الرحالة رمال الصحراء التي ليست فيها طرق معبدة، تسير بهم السيارات وسط بحر من الرمال حتى خيَّم الليل عليهم ولم يعد لهم مجال في الاستمرار بسبب الظلمة، فنصبوا خيمتهم وأشعلوا نيرانهم، لم يمنهعهم ليل الصحراء الموحش من أن يتأملوا جمال النجوم المنيرة في وسط السماء، هنا في الصحراء يعيشون ليلا جميلا ومتعة خاصة بهم.

جزء من الطريق الذي سلكته الرحلة نحو وادي الجلف الكبير

 

 

في اليوم التالي واصلوا المسير نحو منطقة “أبو بلاص”، يحاولون الابتعاد عن الصخور، يقوم الدليل “كوسا” بفحص الطريق الصالحة للسير ثم تمضي بقية السيارات من بعده، وقد غاصت سيارة حسن في الرمال 3 مرات، وأما سيارة “كوسا” فمرتين، وفي كل حالة كانوا يستخدمون سكة حديد خاصة لحمل السيارة عليها للخروج من الرمل.

هذه الغرسات جعلت شبح الوقت ينتصر على الرحلة، لا شيء في الصحراء مؤكد، فربما تهب عاصفة رملية تمنعهم من مواصلة المسير، وكذلك عندما تكون الشمس عمودية فإنه يصعب تحديد الرمال العالية والمنخفضة من بعيد. كل ذلك لا يخشاه “كوسا” بل الشيء الوحيد الذي يخاف منه هو نقص المياه.

وادي الأسود.. مفترسات عملاقة على قارعة الطريق

بسبب تأخرهم في الوصول إلى منطقة “أبو بلاص” وقبل غروب الشمس نصبوا خيمتهم واستراحوا فيها، فالمسافر في الصحراء يبني خيمته إذا حل الليل لا ينازعه عليها أحد، وعندما يأتي الصباح يهدمها ويواصل المسير.

يقفون في مكان ينظرون إلى الصخور وآثار شجرة هالكة، هم الآن متأخرون نصف يوم عن وقت الرحلة، يستمرون في السير على شكل قافلة، يتحدثون عن قصة الغزاة القادمين من ليبيا وتشاد لسرقة أموال الناس في منطقة الداخلة إحدى واحات الصحراء الكبرى، التي وضع أهلها خطة لحماية القرية من الغزاة.

السير في الصحراء يحتاج إلى خبرة كبيرة لأنها جمعا متشابهة ويمكن للمرء أن يضيع فيها دون رجعة

 

يقول عليوة: كان الناس يضعون كل 100 متر “بلاليص” (أوان فخارية لحفظ المياه بداخلها)، وكان الغزاة يستعينون بها أثناء مسيرتهم باتجاه الدخلة فيتزودون بالمياه ويبقون بعضها من أجل العودة، ذات يوم قرر أهل الدخلة أن يُكسّروا هذه “البلاليص”، وعندما جاء الغزاة لم يجدوا ماء فعادوا ولم يكملوا الطريق تجاه منطقة الداخلة وبذلك نجت القرية من الغزاة.

بالقرب من منطقة “أبو بلاص” العديد من المنخفضات الخطرة التي تدفع الرحَّالة لتخفيض سرعة سياراتهم إلى الدرجة القصوى حتى لا تقع فريسة للرمال، الآن يبحثون عن منطقة جيدة ليست فيها رمال خطرة حتى ينصبوا خيمتهم، هناك يتبادلون أطراف الحديث ويتناولون الطعام.

في الصحراء لا توجد مساحات من الأرض المفتوحة بشكل مستمر، بل سرعان ما تظهر الرمال والحجارة ووعورة الطريق، لكن تلك الرمال تصنع لمرتادي الصحراء مناظر جميلة وكأنها صنعت لأجلهم، يقف الرحالة بالقرب من بعض الصخور المنتصبة وكأنها أسود تجلس على قارعة الصحراء.

على مشارف هضبة الجلف.. عندما تزول الرهبة الأولى

وصلت السيارات إلى منطقة “وادي ماشي” على مشارف هضبة الجلف، وهم الآن يشاهدون جمال الصحراء حيث الامتدادات الصخرية والتكوينات الرملية. يقول مخرج الفيلم: عندما تزول الرهبة الأولى، تتبدد الوحشة وتصبح الرحلة في الصحراء كمعانقة طويلة للطبيعة في أصفى صورها.

الآن يشاهدون أدوات صنعت من الصخر تستخدم كطواحين ما زالت آثار الحجارة المكسرة شاهدة على ذلك، ثم يواصلون السير حتى “وادي عصيب”، وجاء وقت الغروب فنصبوا خيمتهم وخلدوا للراحة.

رياح الصحراء المحمل بالرمال تنحت الصخور أشكالا كأنها من عمل البشر

 

في اليوم التالي اتجهوا نحو “وادي حمرة” يريدون تناول طعام الغداء في طريق “لاما بوينت” يصفون المنطقة المرتفعة المطلة على مشاهد جميلة بـ”بانوراما”، يبدو أن سيارة حسن تأخرت فيسارعون لمساعدته في الخروج من الرمال، لا شيء في الصحراء يخيف أكثر من طول الوقت ونفاد الطعام والشراب والوقود، لكن جمال الطبيعة يبدد كل تلك المخاوف.

“لاما بوينت”.. ذكريات تأبى الضياع وسط الصحراء

اتجه الرحالة إلى طريق “لاما بوينت” الوحيدة السهلة، ثم وقفوا على إطار سيارة قديم، ولاحظوا علبة من زجاج اعتاد كل من يأتي إلى هذا المكان أن يكتب رسالة ويضعها داخل تلك الزجاجة، ثم يأخذنا الرحّالة لرؤية إطار السيارة التي كانت مع “لاما” أبو سمير “وفانيلاته” المعلقة على حجر بالإضافة لقطعة رخام كتب عليها بعض التكريم لذكراه.

ومن الذكريات أيضا ذكرى “غيتر” ووجود لوحة رخام مخلدة لذكراه، ورأوا أيضا لافتة جديدة لشخص ولد عام 1934 وتوفي عام 2012 لأول مرة يرونها كتب عليها اسمه، يقومون بأخذ الصور ثم يغادرون المكان.

الزجاجة التي اعتاد كل من مر بهذا المكان أن يترك بداخلها رسالة للتاريخ والذكريات

 

يسيرون فوق الهضبة على ارتفاع 1160 م يقول “كوسا”: “لو كانت الهضبة صغيرة لأتيناها من أطرافها”. ثم يتجهون نحو “وادي حمرة” حيث الأرض الحمراء الناعمة، فيقفون بالقرب من منزل لوادي حمرة. يقول مخرج الفيلم: الصحراء تشعرك أنها البداية والمنتهى ولا شيء غيرها يوجد أو وجد.

أثناء ترحالهم في الصحراء وجد الرحالة بمحض الصدفة مسافرين آخرين في ذات الصحراء متجهين نحو “الجلف الكبير” في رحلة هي الثانية عشر من نوعها، وقد صنع هؤلاء المسافرين نصبا تذكاريا لزميل أسفارهم المتوفى. يقول مخرج الفيلم: في طريقك تدرك أن العالم خارج الصحراء ما زال موجودا بالفعل، عندها تصبح الرحلة قابلة للابتداء والانتهاء أيضا.

يتحدث الرحالة عن وجود زواحف خطيرة في الصحراء مثل العقارب والأفاعي، ثم يشيرون إلى آثار غزال مرّ من المنطقة، ومع استمرار سفرهم وصلوا إلى “وادي حمرة” وهم الآن في طريقهم إلى “وادي صورة” حيث سيقطعون مسافة 108 كم، وأثناء السير غرزت إحدى السيارات فقاموا بسحبها عن طريق حبل أحضروه لهذا الغرض.

كهف المستكاوي.. ليلة في أحضان التاريخ

في طرق الصحراء مناطق رملية منحدرة صعبة لا بد لمن يتجه إلى هدف معين أن يمر بها، وهنا يظهر في الفيلم منحدر قوي جدا تسير عليه السيارات ببطء شديد وحذر كبير، تبدأ حدود هذا المنحدر من حجرين أسودين، وبعد اجتيازه بسلام يسير الراكبون نحو “وادي صورة” حيث كهف السباحين، ويظهر في المكان لافتة مكتوب عليها اسم “وادي صورة” ومجموعة من الرسومات.

يقف الرحالة بالقرب من “كهف المستكاوي” الذي تُرى من عنده الحدود الليبية، هناك طبيعة صحراوية خلابة تسرّ الناظرين، منطقة تُعد متحفا طبيعيا كبيرا، هناك مكونات جميلة؛ صخور ونقش عليه خطوط إنسان قديمة ورسومات تاريخية وشقوق عديدة وآثار أيدي على الجدران. يقول مخرج الفيلم تشعر “أنك قضيت الليلة في أحضان التاريخ”.

ليالي الصحراء يملؤها الهدوء وألوف من نجوم السماء الساطعة

 

وبعد تجاوزهم “وادي صورة”، هم الآن يقفون بالقرب من سيارة قديمة تعود إلى الحرب العالمية الثانية، يأخذون صورا للمكان يحاولون تحريك السيارة الأثرية، ثم يواصلون المسير ويشاهدون بيضات نعام كبيرة، ثم يبدؤون التندر على تلك البيضات، ويدعوهم “كوسا” للغداء عليها.

ثم يتجهون إلى أقصى الجنوب على بعد 70 كم قبل الحدود السودانية ليجدوا نصبا تذكاريا للأمير كمال الدين حسين أحد أفراد الأسرة المالكة المصرية قبل ثورة عام 1952 مكتشف هضبة الجلف الكبير. يجلسون كعادتهم لتناول الطعام ويتبادلون أطراف الحديث ثم يواصلون المسير نحو العودة، لم يبق لهم سوى رؤية الطريق المعبدة مرة أخرى، يشعرون الآن بالسعادة بعد انقضاء الرحلة دون نقص في الطعام أو الماء أو الوقود.

رحلة عاشها هؤلاء الرحالة بكل تفاصيلها، شاهدوا الصباح وجماله والغروب وبهاءه، رأوا الصحراء بصورتها الجديدة التي تخالف تلك التي في أذهان الناس، فهي ليست رمالا قاحلة أو فضاء فسيح بلا حياة، بل هي موطن أصيل للسحر والجمال، ومتحف صنعه الله على أرض غير ذات زرع، من يدخل إليها يدرك جمالا لافتا، لكن يشوبه الكثير من المخاطر والمغامرة.