“الدرهم المغربي”.. أقدم العملات العربية

تُجمع الروايات التاريخية بأن القرطاجيين كانوا من أوائل من أدخلوا القطع النقدية وتعاملوا بها في بلاد المغرب الأقصى قبل الميلاد، وتعاقبت بعد ذلك أنواع عدة من القطع المسكوكة التي استعملت في المعاملات التجارية إبان حكم الأمازيغ.

ومع وصول الإسلام في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، بدأ التعامل بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، وظهر الدرهم المغربي لأول مرة خلال فترة حكم الأدارسة بين عامي 803-828 م.

وقد شهد التاريخ النقدي للمغرب ثلاثة مراحل أساسية منذ القطع مع النظام القديم الذي كان مبنيا على المقاييس والأوزان الشرعية، وبدأت المرحلة الأولى سنة 1881 باعتماد الريال الحسني، ثم بعد ذلك وصول الفرنك الفرنسي مع فترة الحماية سنة 1912، ليصبح الدرهم بعد ذلك العملة الرئيسية في المغرب، ورمزا لاستعادة السيادة النقدية للمملكة خصوصا بعد إنشاء بنك المغرب في يونيو 1959.

واستعملت كلمة “الدرهم” منذ القديم في عدة حضارات، ولا زال إلى يومنا هذا العملة الرسمية للمغرب والإمارات العربية المتحدة.

وإنما جاءت التسمية من الكلمة اليونانية “دراخما”، فقد كانت تطلق على العملة المعدنية في الثقافة الإغريقية، ليصبح الدرهم بعد ذلك منتشرا على نطاق واسع، واستخدم أيام الجاهلية والإسلام، وذكر في القرآن الكريم في قوله عز وجل “وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ”.

وقد عرضت الجزيرة الوثائقية من خلال الفيلم “الدرهم المغربي.. مضرب الأمثال ومطمع الغزاة” قصة العملة المغربية الدرهم عبر التاريخ، وكيف كانت تتقلب مع تغير الحكم والأطماع الخارجية. فما هو إذن تاريخ الدرهم المغربي؟ وكيف كانت أولى العملات التي تداولها المغاربة؟ وكيف تحررت العملة المغربية من المستعمر بعد سنوات من التحكم فيها؟

درهم قرطاج.. أول قطعة نقدية في بلاد المغرب الأقصى

استعملت أولى القطع النقدية في بلاد المغرب الأقصى، مع وصول القرطاجيين بعد القرن السادس قبل الميلاد، حيث أثّروا بشكل كبير في نظام المقايضة الذي كان سائدا في تلك الفترة كأساس للمعاملات التجارية. وظل وجود هذه القطع النقدية مقتصرا على المراكز التي أقامتها الإمبراطورية القرطاجية، وعلى رأسها “تنجيس” و”ليكسوس”، واستمر ذلك إلى خروجهم سنة 40 ق.م على أيدي الرومان.

وقد انتشر التعامل بالنقود المسكوكة في عهد الأمازيغ الذين حكموا المنطقة في تلك الفترة، وخصوصا إبان حكم مملكة نوميديا التي احتكت بالحضارة الرومانية قبل الميلاد، واستطاعت سك نقود خاصة بها من الرصاص والبرونز والنحاس والفضة، وقد حملت وجوه ملوك نوميديا على غرار “ماسينيسا” و”سيفاكس” و”جوبا الثاني” و”بطليموس” وغيرهم، وجرى تداولها لحوالي قرن ونصف القرن من الزمان وعلى نطاق واسع، تجاوز الحدود المعروفة لمملكة نوميديا.

درهم قرطاج.. أول قطعة نقدية في بلاد المغرب الأقصى

كما جرى بالموازاة مع ذلك التعامل بقطع نقدية رومانية حمل جلها وجه الإمبراطور الحاكم في تلك الفترة، ونقوشا تجسد غالبا الأنشطة الزراعية أو الحرفية التي كانت سائدة في تلك الفترة. ومع بداية تراجع مملكة روما في القرن الخامس الميلادي، ظهر لأول مرة الدرهم البيزنطي في ظل تنامي قوة إمبراطورية بيزنطة، لتلعب هذه العملة القديمة دورا مهما في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وتشكل أول دخول للدرهم إلى نطاق التداول النقدي في منطقة المغرب الأقصى.

ثورة الأمويين.. بداية رحلة النقود العربية في المغرب

يكشف فيلم “الدرهم المغربي.. مضرب الأمثال ومطمع الغزاة” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- عن أبرز المحطات التاريخية التي مرت بها العملة المغربية التي أصبحت مضربا لأمثال العرب لقيمتها المرتفعة، ومطمعا للغزاة الغربيين الذين بدأوا ينظرون إلى المنطقة كمركز تجاري مهم، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مع اشتداد التنافس بين البرتغال وإسبانيا الذين بسطوا سيطرتهم على بعض الموانئ التجارية حتى منتصف القرن التاسع عشر.

وقبل ذلك في المراحل الأولى للحكم الإسلامي في منطقة المغرب الأقصى، لعبت مدينة طنجة في شمال المغرب دورا في رواج القطع النقدية في المنطقة، واحتضنت المدينة دارا للسك استعملت من قِبل الأمويين في ضرب النقود بالأحرف العربية إبان عهد الخلافة الأموية، وطبعت عليها أساسا عبارة “لا إله إلا الله”، خصوصا بعد التحول في النظم المالية والاقتصادية الذي أحدثه في المشرق الخليفة عبد الملك بن مروان (685-705م)، من خلال إضفاء الطابع الإسلامي على التعاملات المالية، والقطع مع استعمال الدنانير البيزنطية والدراهم الساسانية.

درهم الدولة الإدريسية، سنة 172 هـ/ 788 م، الذي حمل اسم الملكين إدريس الأول وإدريس الثاني

وسجل الدرهم ظهوره الرسمي إبان الدولة الإدريسية، سنة 172 هـ/ 788 م، وجرى سكه لأول مرة محليا في فاس وحمل اسم الملكين إدريس الأول وإدريس الثاني، لكن الدينار الذهبي عاد مجددا في عهد المرابطين (1040-1147م)، خصوصا بعد أن أسس يوسف بن تاشفين دار السك في مراكش، وفي سجلماسة بحكم موقعها الجغرافي على طريق القوافل التجارية. وعاد الدرهم الفضي مجددا للتداول إثر وصول الموحدين إلى الحكم في المغرب سنة 1120م، جنبا إلى جنب مع الدينار الذهبي ذي القيمة المرتفعة.

نقود الذهب والفضة والمعادن.. عملات القرون الوسطى

انقسمت النقود المغربية في القرون الوسطى إلى نوعين رئيسيين، رغم أن المقايضة بقيت سائدة ومسيطرة على جزء مهم من التجارة في تلك الفترة، فنجد النقود الحقيقية المسكوكة كالدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلس المصنوع من مادة البليون الفضية، وكانت كلها تستمد قيمتها من وزنها، بينما كانت النقود الأخرى المصنوعة من أنواع مختلفة من المعادن تتخذ كمقياس، ويتعامل بها على أساس قيمة متعارف عليها.

وكانت في البداية النقود المسكوكة من الذهب متداولة وتحدد قيمتها في وزنها، إلى غاية فترة حكم السلطان العلوي مولاي إسماعيل (1645–1727م)، فقد أنهى التعامل بالدينار الذهبي بسبب نضوب مصادر الذهب في منطقة الساحل، ليعوضه بقطع الفضة، التي كانت تزن في البداية 28 غراما، وتناقص وزنها فيما بعد إلى أن وصل إلى أقل من غرامين.

وعاد الدرهم الفضي مجددا إلى الانتشار مع السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمن الذي أمر بضرب الدرهم سنة 1868، واستعماله حصريا في كل المعاملات التجارية، وكتابته في العقود، تحت طائلة العقاب القاسي للمخالفين. وهكذا أصبح الدرهم ذا مكانة مهمة، وعوض بذلك المثقال الفضي الذي استعمل على نطاق واسع في عهد العلويين، وذلك منذ حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790م) الذي كان وراء إنشاء عدد من دور السكة بالمغرب.

الريال الحسني.. عملة تتقاذف بها أمواج الحروب والسياسة

ظهر الصنف الأول من الريال المغربي عام 1299هـ/1881م، وسمي بالريال الحسني، نسبة إلى السلطان العلوي الحسن الأول الذي سُكّت في عهده هذه العملة لأول مرة، وتفرعت عن هذا الريال الحسني قطع أخرى أشهرها الدرهم الحسني الذي كان يساوي عُشر الريال، والموزونة النحاسية.

جاء الريال الحسني في أوج انتشار الريال الإسباني الفضي في تلك الفترة، وأريد له أن يكون منافسا قويا له، وأن يعيد للعملة المغربية ثقلها ونفوذها بين باقي العملات المتداولة، خصوصا بعد الانهيار الاقتصادي الذي وقع في عهد السلطان محمد الرابع، على إثر انهزام المغرب في حرب تطوان سنة 1860، واشتراط الإسبان الحصول على غرامة كبيرة للانسحاب، وهو ما اضطر السلطان إلى الاقتراض من إنجلترا وإفراغ بيت المال.

الصنف الأول من الريال المغربي عام 1299هـ/1881م، وسمي بالريال الحسني نسبة إلى السلطان العلوي الحسن الأول

وقد بقي الريال الحسني متداولا حتى سنة 1921، رغم المشاكل المتعددة التي واجهها بفعل المضاربات وبيعه بأثمان بخسة، وظهرت أيضا في تلك الفترة بين 1910-1917 النقود الورقية، لكنها حملت تسمية الفرنك رغم كونها مقومة بالريال، وبلغت قيمة الورقة من فئة 20 فرنك 4 ريالات، و100 فرنك 20 ريال.

وبسبب الأزمة النقدية عام 1914 وندرة معدن الفضة، وتوقيع اتفاقية الحماية مع فرنسا في 1912، سُحب الريال الحسني من التداول، وحل محله الفرنك في ديسمبر/كانون الأول 1921 كعملة جديدة للمغرب.

الفرنك الفرنسي.. تخبط المغرب في أغلال الحماية

استأثر الفرنك الفرنسي بتعاملات المغاربة بعد توقيع اتفاقية الحماية، ولكن الريال الحسني بقي متداولا أيضا، مما خلق ازدواجية في التعامل النقدي، وهو وضع انتهى تماما سنة 1920، حين صدر ظهير (مرسوم) من السلطان مولاي يوسف، يقضي بالتخلي عن النقود الفضية الحسنية وشرائها بواسطة أوراق الفرنك الفرنسي.

وبعد ذلك مباشرة شرع المغرب في إصلاح نقدي توج بإصدار الفرنك المغربي بعد اتفاق مع سلطات الحماية الفرنسية، يقضي بمساواته في القيمة مع الفرنك الفرنسي. وفي مارس/آذار1922 اتخذ قرار في عهد السلطان مولاي يوسف بوقف العمل بالامتياز الذي كانت تحظى به عملات فرنسا في المغرب، مما انعكس إيجابا على رواج الفرنك المغربي الذي أصبح عملة البلاد الوحيدة حتى خروج الاستعمار.

وبعد الاستقلال أصدر الدرهم المغربي في سنة 1958، واعتمد في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1959 عملة رسمية للمغرب ورمزا للسيادة، وكان ذلك في عهد وزير المالية الراحل عبد الرحيم بوعبيد الذي أشرف فيما بعد على خطة تحرير الاقتصاد الوطني من تبعات الحماية، وانضمام المغرب إلى اتفاقية “بريتون وودز” النواة الأولى لصندوق النقد والبنك الدوليين، وهكذا جرى تحديد سعر لصرف العملة المغربية الجديدة مقابل الفرنك الفرنسي.

بنك المغرب.. استقلال الحاضر وبقايا رواسب التاريخ

كان إنشاء مؤسسة بنك المغرب في يونيو/حزيران 1959 أول خطوة أساسية اتخذها المغرب في سبيل تعزيز قيمة الدرهم وصيانة مكانته، خصوصا بعد قرار إنشاء مصارف تابعة للدولة وتحت وصاية البنك المركزي، بدلا من المصارف الفرنسية التي تركها المستعمر، وظلت متحكمة في النظام المالي المغربي.

وفي سنة 1974 ضرب السنتيم ليعوض الفرنك، كجزء من عملة الدرهم (1 درهم=100 سنتيم)، ليتخلص المغرب رسميا بذلك من عملة الاحتلال. وبعد ذلك في مارس/آذار 1987، دشن الملك الراحل الحسن الثاني دار السكة في مقرها الجديد العصري بالقرب من العاصمة الرباط، لتقوم بسك القطع النقدية وطباعة الأوراق البنكية، وتولت أيضا فيما بعد طباعة الأوراق النقدية لعدد من مصارف البلدان الأجنبية، كما أسندت لها مهمة صنع جواز السفر المغربي، وعدد من الوثائق المؤمنة.

في دار السكة المغربية يتم سك الأوراق النقدية المغربية بفئاتها المختلفة

ورغم أن الدرهم هي عملة المغرب الرسمية المتداولة منذ أزيد من 60 عاما، فإن المغاربة ما زالوا متأثرين في تعاملاتهم اليومية بالماضي النقدي الغني، فنجد استمرار كلمة الريال خصوصا في الأرياف والبوادي رغم أن التعامل يقع بالدرهم، وما زالت كلمة الفرنك تفرض وجودها وتقال بدل السنتيم في بعض المناطق، حتى أن الدورو (العملة الإسبانية التي كانت متداولة قديما في المنطقة المغاربية) ما زالت حاضرة إلى يومنا هذا كتسمية في مدن شرق المملكة.