الذهب الأحمر والأيدي السمراء.. قصص من العبودية في جنوب إيطاليا

الوثائقية-خاص

“أجبرتني الظروف على مغادرة ساحل العاج، كما فعل إخوتي وأمي وآخرون. توجهت إلى غانا ومنها إلى توغو ثم بنين فالنيجر، ومنها إلى ليبيا، وعبرت البحر بين الحياة والموت”.

هكذا يقول “عبدول كوني” الذي لم يكن يدري أنه كان يتحدى الأخطار من أجل الوصول إلى الجحيم، والإقامة في منطقة لا تشرق فيها شمس الأمل ولا تتغير فيها الأحوال إلا لتزداد سوءا وقتامة وسوادا.

“كوني” هو واحد من آلاف المهاجرين الأفارقة الذين رماهم قطار الأحلام في جنوب إيطاليا، فاستغلهم مزارعو الطماطم في جَني المحاصيل مقابل أجور زهيدة وظروف بالغة القسوة والضياع.

يقول عبدول: “ينبغي أن تعرفوا أنه عندما يقرر شخص ما ركوب البحر، فإن سبب ذلك هو عدم وجود أي خيار آخر لديه، فحاليا أعيش في “تودي”، وأنا هنا منذ أن عبرت البحر وأتدبر أمري”.

 

 

هذه القصة تسردها الجزيرة الوثائقية في حلقة مدتها 25 دقيقة، ضمن سلسلة “عالم الجزيرة”، ويتحدث فيها العمال البؤساء والمتطوعون الإنسانيون وبعض ملاك المزارع والشركات التي تشتري الطماطم منهم.

تحدي المخاطر لأجل الوصول إلى الجحيم.. ماذا بعد الهجرة؟

 

تحدي المخاطر .. من أجل ماذا؟

منذ عام 2011 عبَر مئات الآلاف إلى أوروبا قادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد كانت رحلاتهم محفوفة بالمخاطر، سواء كان ذلك العبور بحرا أو برا، وسواء كانوا فارّين من حرب أو هاربين من ظروف اقتصادية صعبة.

النزر القليل منهم حصلوا على أوراق لجوء بطريقة قانونية، بينما الأكثرية أصحاب فاقة لا حول لهم ولا قوة، ويتخطفهم الموت والمرض والهوان. لقد تحول هؤلاء إلى جزء من جيش كبير يعمل بالمياومة في مواسم جني الطماطم، وليس بوسعهم تحسين ظروفهم ولا الهروب من مصيرهم.

يقول عبدول إنه كان يسعى للحصول على وثائق اللجوء الرسمية، وفي صيف 2016 سافر إلى جنوب إيطاليا بحثا عن العمل في الحقول، وكان مكرها لا بطلا.

ويتابع: إن عدم توفر فرص العمل في إيطاليا، ورفض بعض الناس للهجرة وبؤس البعض الآخر، أمور تجبر الإنسان على فعل أشياء معينة لا بديل عنها.

إنتاج كبير للبندورة (الطماطم) يدر الملايين على التجار

 

“صنع في إيطاليا”.. سخاء الأرض وبخل الإنسان

تقول إحدى الناشطات الإيطاليات: إن الجزء الأضعف في النظام الإيطالي هو دمج الوافدين في المجتمع، فالمهاجرون يتلقون الدعم لستة أشهر أو عام واحد كحد أقصى، وبعد ذلك عليهم أن يتدبروا أمر أنفسهم، وهذه مشكلة كبيرة جدا لأنهم قد يتعرضون للاستغلال.

لقد قدم المهاجرون إلى منطقة “بوليا” بجنوب إيطاليا، حيث تنبسط السهول وتجود الحقول بـ 1.5 مليون من الطماطم كل صيف.

يعرض الفيلم صورا لمزارع شاسعة المساحات وآليات زراعية عملاقة، ويبدو في المشاهد شباب أفارقة منهمكون في جني الطماطم. وبعد جني الطماطم توضع في الصناديق وتحمل على شاحنات تتوجه بها إلى المصانع التي تشتري المنتجات. فإيطاليا هي أكبر مصدر للطماطم المصنعة، إذ تُدر هذه الصناعة 3 مليارات يورو سنويا، بناء على الثقة في شعار: “صنع في إيطاليا”.

لكن بيانات البضاعة لا توضّح كيف تم جني هذه الطماطم، ومن جناها، وظروف جَنيها؛ فعلى بُعد مئات الأمتار خلف الشواطئ الرملية المزدحمة بالمصطافين، يكدّ عبدول ورفاقه من المزارعين في عملهم.

الأيدي العاملة المهاجرة .. رخص .. عبودية.. وقهر

 

الأيدي العارية ومدن الأكواخ.. أكاذيب أرباب الصناعة

هذا هو العمل الذي ظل على مدار الأعوام ينتج الطماطم، والجدل في ذات الوقت وسط الحديث عن بؤس ظروف العمال، وهو ما يحرص أرباب الصناعة على تفنيده.

يتحدث في الوثائقي “غوسيبي غراسو” رئيس منظمة “آبو فوغيا” التي تمثل أكثر من 900 مزارع، ويقول: إن ربط جني الطماطم بالعمالة غير القانونية هي واحدة من العبارات الجاهزة التي تطلق في كثير من الأوقات بحيث تبدو أكبر من المشكلة الحقيقية، فـ95% من عمليات الجني تتم باستخدام الآلات.

لكن فريق الفيلم زار المنطقة ووجد أن كلام “غراسو” غير صحيح. ففي أوائل أغسطس/آب من عام 2016 كانت الحقول تعج بالعمال المهاجرين.

ويعرض الفيلم صورا لشباب أفارقة ينهمكون في جني الطماطم بأيديهم العارية، ووضعها في الأكياس قبل وضعها في الشاحنات لنقلها إلى مناطق التصدير، فالعمال الموسميون يأتي أكثرهم من أفريقيا ومن شرق أوروبا، ويعيشون في مدن الأكواخ المؤقتة والمباني الزراعية المهجورة في هذه المنطقة النائية.

عشوائيات لا تصلح لحياة البشر

 

الكاميرا الخفية.. خيبة في بلاد الرجل الأبيض

في عشوائية “رينيانو غاغانيتو” التي تعرف أيضا باسم العشوائية الكبرى، بدا أن طواقم التلفزيون ليست موضع ترحيب في هذا المكان الذي تعيش فيه خلائق كثيرة بشكل غير قانوني.

لذلك استخدم فريق الفيلم كاميرا مخفية للحصول على صور من داخل هذه المدينة العشوائية، فاتضح أن الناس كتب عليهم العيش وسط القمامة والفوضى.

وتعرض الكاميرا الخفية صورا لشباب سود استبدّ بهم الإعياء وارتسمت الخيبة على وجوههم، وليس لهم حول ولا قوة في تغيير الكابوس الذي انتهى إليه حلمهم بالعيش الرغيد في بلاد الإنسان الأبيض. ومرة أخرى يتحدث “عبدول” قائلا: كان الانطباع لدي هو أني أمام مكب نفايات، لم أعتقد يوما أن البشر يمكن أن يعيشوا في مثل هذه الظروف.

وفي هذه المنطقة يستمر بناء الأكواخ الخشبية ويؤجرون الفراش داخلها بأربعين يورو للموسم. وفي بعض الأحيان يضعون 80 شخصا في كوخ لا تتجاوز مساحته 20 مترا مربعا.

لم تعد المراحيض تستعمل بسبب عدم نظافتها

 

قضاء الحاجة في الحقول.. إنسان بدائي في أوروبا

في الغالب يكون المكان ضيقا جدا فلا يجد المرء موطئ قدم، وهناك صنوف من العنت والشقاء ومراحيض بلاستيكية توقفوا عن إفراغها، حتى صار على كل عامل أن ينتظر حلول الليل لقضاء حاجته في الحقول، فلا توجد في هذه العشوائية خدمات صحية ولا حتى حفرة يمكن تصريف القاذورات فيها.

“كونيستا نوتارا انغيلو” متطوعة في منظمة “كاريتاس” وتعمل على تقديم المساعدة للمهاجرين الذين يقيمون في العشوائية الكبرى. تقول: تعد عشوائية “رينيانو” بلا ريب إحدى أكبر العشوائيات، فهناك تقديرات بأن أعداد المهاجرين تبلغ في مقاطعة “فودجا” وحدها خلال الصيف 20 ألف مهاجر.

ويروي “عبدول” أن كثيرين من هؤلاء يتعرضون للاستغلال ويقبلون بذلك من أجل أن يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.

مصطافون يتمتعون على الضفة المقابلة للعشوائيات التي يستعبد فيها المهاجرون

 

عصر الإقطاعية.. خرق القانون الإيطالي

يتولى “مشرفو العمال” الوساطة بين ملاك المزارع والعمال المهاجرين، رغم أن القانون الإيطالي يمنع مثل هذا الإجراء. ويتولى المشرف نقل العمال من وإلى الحقول، مقابل نسبة مئوية من أجورهم اليومية. وعلى العامل أن يصحو في الثالثة صباحا ليتهيأ تم يخرج ويبقى على جانب الطريق في انتظار المشرف، وعندما يصل يحدد عدد العمال الذين يحتاجهم ويطلب منهم الصعود للشاحنة.

في إيطاليا يبلغ الحد الأدنى للأجور في قطاع الزراعة 7.5 يورو للساعة الواحدة، ولا يجوز أن يتجاوز يوم العمل 8 ساعات. ورغم ذلك يضطر المهاجرون من أمثال عبدول للعمل عشر ساعات وحتى 12 ساعة في اليوم، وفي الغالب من دون عقد عمل مناسب، ويدفعون لهم أجورهم على أساس الكمية التي قطفوها وليس مقابل الساعة كما ينص القانون.

وبعد أن قضى يومه في المزارع عاد “عبدول” للعشوائية الكبرى وتحدث لفريق الفيلم قائلا: خلال الأسبوع الماضي كنا نعمل 11 أو 12 ساعة تحت الشمس، أنا أمرض إن عملت تحت الشمس، يمكنك أن تجني 25 يورو في اليوم، وفي آخر المطاف ستشتري أدوية بالآلاف لمعالجة نفسك.

قسوة الحياة في العشوائيات تضع البشر في حالة نفسية تعرضهم للموت

 

الموت وسط الطماطم.. “طفح الكيل”

ابتداء من عام 2011 نشطت هيئة الطوارئ في توفير الدعم الصحي للمهاجرين والمحتاجين في العشوائية الكبرى.

تقول إحدى الناشطات في الهيئة: المرضى في وحدتنا عادة ما يشكون من آلام العظام والمفاصل، واضطرابات الجهازين التنفسي والهضمي، وهذا يعني أن هناك علاقة قوية بين نوع العمل والمشاكل الصحية.

في صيف 2016، توفي ثلاثة عمال في حوادث أثناء عملهم في الحقول في منطقة بوليا، أحدهم كان طالب لجوء من السودان يدعى عبد الله محمد، إذ انهار عندما كان يجني الطماطم، ولفظ أنفاسه قبل وصول سيارة الإسعاف.

وقبل ذلك في عام 2011 عمل الطالب الجامعي الكاميروني “ايفان ساغنيت” لدى رب العمل الذي عمل معه السوداني عبد الله محمد، وقدم شهادة عن ظروف العمل قائلا: “ما رأيته في الحقول أذهلني وصدمني”.

ولاحقا تقدم “ساغنيت” بشكوى ضد أرباب العمل، في محاولة للحصول على معاملة أفضل لنفسه وللعمال المهاجرين الآخرين. ولم يكن “ساغنيت” يعتقد أنه يمكن معاملة البشر بهذا الشكل في إيطاليا وأوروبا، “ولذلك قلنا لهم طفح الكيل وإن لم تعطونا ما نريد فسنوقف العمل بعد الآن”.

الإضراب وسيلة مشروعة لتحصيل بعض الحقوق

 

إضراب واعتقالات.. الحقوق لا تعطى بل تنتزع

قادت جهود “ساغنيت” لأول إضراب يقوم به المهاجرون الذي يعملون في جني الطماطم، ويظهر في الفيلم أحدهم يتحدث في مكبر صوت أمام حشد من العمال قائلا: ندعو الحاضرين إلى عدم التوجه للعمل يوم غد، وسنكافح سلميا حتى النهاية لأن ما نقوم به عمل لا عبودية. ولمدة ثلاثة أسابيع رفض العمال جني الطماطم، فأذعن أصحاب المزارع لمطالبهم عندما رأوا أن المحاصيل الثمينة بدأت تتعفن.

ويروي الطالب الكاميروني: لأول مرة جاء ملاك الأراضي إلى هنا وقالوا لنا: أيها الشباب عودوا رجاء إلى العمل، وأدركنا في ذلك الوقت أننا كنا أقوياء بإضرابنا، وأننا نستطيع وضع ملاك الأرض في موقف صعب.

وفي مناسبة أخرى، توجه “ساغنيت” إلى الشرطة الإيطالية للإبلاغ عن استغلال العمال المهاجرين.

وفي عام 2012 أمر مكتب الادعاء بحملة اعتقالات طالت 16 شخصا، ووجهت لهم تهم ارتكاب عدد من الجرائم منها العبودية، وكان من بين المعتقلين صاحب المزرعة الذي مات لديه الشاب السوداني، ثم أطلق سراحه فيما بعد في انتظار موعد محاكمته.

وبعد أربع سنوات من حملة الاعتقالات لم يتغير الكثير، فالمهاجرون ما يزالون يتعرضون للاستغلال في جني الطماطم، وما تزال أجورهم زهيدة وظروفهم عملهم قاسية وأحوالهم المعيشية مزرية وبئيسة.

في الوقت الذي تكون فيه أسعار منتجات الطماطم بئيسة عند المزارع تباع منتجاتها بعشرات الأضعاف في السوق

 

عرق الغرباء يقطر أرباحا للشركات.. المعادلة الجائرة

أحد الناشطين يذكّر بمثل لاتيني قديم يقول “من يتحمل عاقبة وقوع أمر ما هو صاحب المصلحة في وقوعه”. فكل حلقات سلسلة الإنتاج تحصل على أرباح، وقد يكون المستفيد الوحيد صاحب المزرعة أو قطاع التصنيع، والطرف الوحيد الذي لا يستفيد من ذلك هو المستهلك. وهذا يعني أن أصحاب المزارع ليسوا وحدهم من يتحمل مسؤولية استعباد العمال، بل معهم في ذلك الشركات التي تجني أموالا طائلة من الطماطم المصنعة.

ويقول أصحاب المزارع إن أرباحهم متواضعة وتتقلص باستمرار، بفعل شركات التصنيع الحريصة على إرضاء الزبائن وملاك الأسهم.

ومن جديد يعود مخرج الفيلم لـ”غراسو” الذي يقول: يتأثر السعر بعدد من العوامل، وتشتكي الشركات المصنعة في الغالب من أنها تضطر للبيع بأسعار أقل من تكلفة الإنتاج، ولذلك تسد تلك الثغرة بخفض السعر الذي تدفعه لأصحاب المزارع.

وعندما حاولت مجموعة من أصحاب المزارع تحديد سعر كيلوغرام الطماطم بعشرة سنتات، رفضت الشركات أن تدفع أكثر من 7 سنتات. وللمفارقة فإن علبة الطماطم التي تزن 400 غرام فقط تباع في المتاجر الأوروبية بـسعر 1.5 يورو، وبهذا تصل نسبة الفرق بين الحقل والمستهلك إلى 5000%.

وقد تتبع فريق الفيلم شاحنات الشركات في طريقها إلى الحقول، وأرسل طائرة مسيرة مزودة بكاميرا لإلقاء نظرة على العمل هناك، والتقطت الطائرة صورا لشاحنة تابعة لشركة “برينسس”، فيما يظهر مهاجرون يجنون الطماطم بأيديهم وليست بحوزتهم أية آليات.

كما تتبع الفريق شاحنات أخرى لنفس الشركة واتضح أيضا أن صناديق الطماطم يملؤها عمال موسميون مهاجرون، ويتم تحميلها على الشاحنات التي تنقلها إلى المصنع.

ولاحقا، عرض فريق الفيلم هذه الصور على المهاجرين في العشوائية الكبرى، فتعرّفوا على المنطقة وأكدوا أنهم يعملون فعلا في تلك الحقول، ويتلقون 3 يوروهات فقط للساعة وأحيانا أقل من ذلك.

عبدول.. قصة معاناة وحنين إلى الوطن

 

حقوق الإنسان.. عندما تفيض دموع عبدول

شركة “برينسس” هي الأكثر نشاطا في هذه الحقول، وقد حاول الفريق التحدث إليها حول شكاوى العمال بشأن أجورهم الضئيلة وظروفهم البائسة، غير أنها رفضت المقابلة.

لكن الفريق حصل على لقاء مع منظمة “آنيكاف” التي تمثل مظلة جامعة لشركات صناعة الأغذية في جنوب إيطاليا، بما في ذلك شركة برينسس.

ودافعت “آنيكاف” بأن “برينسس” ليست لديها أي مسؤولية تجاه العمال، فهي تتعامل مع اتحاد المنتجين، وبالتالي فإن أصحاب المزارع هم من يتحملون المسؤولية عن ظروف العمال المهاجرين.

ولاحقا ردت “برينسس” على الفريق وأكدت على احترامها لحقوق الإنسان والقوانين المتعلقة بحماية المهاجرين وصحتهم وسلامتهم، وشددت على أنها تعارض كل أشكال العمالة غير القانونية.

 

يشعر عبدول بالظلم عند شراء منتجات الطماطم لأنه يدرك معنى العبودية الحقيقية

 

طماطم بنكهة المعاناة.. الحقيقة القاسية

يخلص الفيلم إلى أن الواضح هو أنه في هذا الركن من أوروبا يصبح المهاجرون اليائسون الباحثون عن حياة جديدة عرضة للاستغلال، وبكل تأكيد هناك أمثلة مشابهة في صناعات وأجزاء أخرى من القارة.

وهذه الحقيقة قاسية جدا عندما نقارنها بالحلم الذي دفعهم لركوب الأخطار، من أجل الوصول إلى أوروبا بحثا عن الأمان والازدهار.

وفي الختام يعود المخرج إلى “عبدول” ليقول: عندما أتناول الطماطم تفيض عيناي من الدمع لأنني أفكر في زملائي الذين يُسحقون، وهذا يجعلني أحقد على الشركات والأغنياء والسلطات التي ترى وتسمع، ولكنها لا تحرك ساكنا من أجل البسطاء.