“الزواج بعد الستين”.. صفقة الضرورات المتبادلة بين الأثرياء والفقراء

خاص-الوثائقية

برز مصطلح “الضرورات المتبادلة” لدى كبار السن من الرجال في بعض الدول الأوروبية، أولئك الذين يودون استئناف حياتهم الاجتماعية مع زوجات من دول شرق آسيا، لتلبية احتياجاتهم النفسية والعاطفية بعدما بلغوا من العمر عتيا وأصبحوا مرفوضين بين نساء بلادهم، لذلك شرعوا في البحث عن دفء عائلي ولو كان من بيئة وثقافة مختلفتين ونائيتين فيما وراء البحار.

وقد سلّط الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية بعنوان “الزواج بعد الستين” الضوء على هذه الجدلية، ليصحبنا في رحلة لطلب الزواج إلى تايلاند، فالأوروبي يضحي بحياة الرفاهية والتكنولوجيا، والآسيوية تضحي بالتقاليد والحياة الأسرية المترابطة من أجل الحصول على المال.

حاجة رجل في الستين.. “هنّ ينظرن إليك كآلة صرف نقود”

“ديتر” رجل ألماني جاوز الستين من عمره، يعيش في منزله المستقل في هامبورغ مع ابنته الوحيدة “كارولين”، وقد توفيت زوجته منذ زمن، وهو الآن يبحث عن امرأة جديدة، تكمل معه مسيرة حياته، فهو ما يزال نشيطا وحيويا يمارس السباحة ويتفقد مزرعته ويقطف حبة تفاح لم تنضج بعد ويناولها لابنته، فتقول:

إنها حامضة، ولكنها لذيذة على كل حال.

 

احذري فهنالك نحل في المزرعة، تحركي ببطء حتى لا يلسعك.
كل أصدقائي يقولون إنني مجنونة، لأنني أصوِّر هذا الفيلم معك، يخشون أنني سأتعرض لمواقف محرجة في حياتك.
حقاً؟ وأين الحرج في ذلك؟
محرج لأن والدي سيكون بصحبة امرأة تايلاندية.
حسناً، أنتم شباب اليوم لا تتفهمون هذا الأمر، لا تتفهمون حاجة رجل في الستين يريد أن يستقر إلى زوجة في حياته.
أنتم تفكرون بشيء واحد يا أبي.
تقصدين أنني اشتريت زوجة؟
بالضبط، أنت اشتريت زوجة.
أبدا، لم أشترها، سأتزوجها.
لكن هذا الأمر يزعجني أيضا.
وأين الإزعاج في ذلك؟
سوف يشعرني بالحرج عندما أذهب بصحبتكما إلى مطعمي المفضل في هامبورغ وألتقي أصحابي هناك.
ستكونين محرجة؟
أعني لو أنك تريثت قليلا لوجدتَ زوجة من هنا، معلمة متقاعدة مثلا، لدي صديقتان متقاعدتان.
صدقيني يا ابنتي، يمكنني أن أكون صديقهما وأن أخرج معهما، ولكن لن تقبل أي منهما أن تكون زوجة لي، صدقيني.
ولم لا؟ وهل من الضروري أن تتزوجها؟ يمكنكما أن تكونا صديقين وكفى.
تعرفت إلى امرأة من هنا، وكانت تصغرني ببضعة شهور فقط، ولما عرضت عليها الزواج، قالت: لا، أنت كبير جدا.
ولكنك كبير فعلا يا أبي.
وماذا تريد النساء هنا؟ رجلا في الأربعين؟ إنها كانت كبيرة أيضا.
أبي، أريدك أن تبقى معي هنا، لا أريدك أن تسافر إلى تايلاند، هناك كل النساء سوف يرغبن بك.
وماذا في ذلك؟ شيء جيد أن تحبني كل النساء هناك.
لكنك في الستين يا أبي، إنك كبير جدا.
وماذا في ذلك؟ إذا كانت تلك السيدة في تايلاند قد أحبتني ورضيت بي في هذه السن، فأين المشكلة إذن؟
ولكن هل تملك هذه المرأة قرارها؟ أعتقد أنها لو كانت تملك قرارها بيدها لما رضيت بك، أنت تعلم تماما يا أبي أن هؤلاء النساء يقبلن بالأوروبيين لأنهم يؤمِّنون لهن ولعائلاتهن المال. هنّ ينظرن إليك كآلة صرف نقود متنقلة فقط.
ليس كذلك، إنها تحبني.

دفء العائلة.. عملة نادرة في أوروبا المادية

لم يتقاعد “ديتر” بعد، فهو يذهب كل صباح إلى عمله في المكتب ثم يعود إلى مزرعته ليعتني بخلايا النحل ويطعم دجاجاته وينظف حول الأشجار، وفي المساء يعود إلى غرفته، ويتعلم اللغة التايلاندية، ويتحدث عبر الهاتف مع زوجة المستقبل، ويحاول دائما أن يقدم ابنته لها من أجل التعارف والتآلف بينهما.

يقول “ديتر” إن “توكتا” -وهو اسم صديقته التايلاندية- تتصل به بواسطة الهاتف لتوقظه كل صباح حتى لا يتأخر عن عمله، يحاول بهذا أن يؤكد لابنته كم هي مهتمة به، وقد يكون هذا في الحقيقة هو ما يحتاجه الرجل في مثل هذه السن.

حديث ودي بين الأب المقبل على الزواج بعد الستين، مع ابنته المستغربة للأمر

 

يقول “ديتر” متوجها بكلامه لابنته: أترين كم هي جميلة وشابة؟ هل تدركين يا ابنتي مدى اهتمامها بي؟ أما هي فتقابله بابتسامة صفراء وتقول في لهجة متهكمة: شابة؟! إنها تكبرك بسنة يا أبي.

يفكر “ديتر” بالعيش مع “توكتا” في ألمانيا بدون زواج، لمدة محددة على الأقل، حتى يقع التفاهم بينهما، ولكنه يدرك أن ذلك مستحيل، فهو يعلم جيدا أن “توكتا” قد قبلت فكرة الارتباط به بشرط أن يكون زواجا معلنا، وبشرط أن يعيش معها وسط عائلتها، بل ويرعى ابنها ماديا كذلك.

مساعدة الأصهار ماديا.. ضريبة أن تتزوج بتايلاندية

في طريقهما إلى المزرعة يسأل “ديتر” ابنته مداعبا: ما هي مخططاتك المستقبلية بشأن هذا الارتباط؟ فترد عليه: قد تنجب أولادا. فيمازحها: أو تظنين ذلك؟ هل ستفرحين؟ فتجيبه بنزق وعصبية: لا يا أبي لا أريد ذلك، بل يمكنك أن تجعل نفسك عقيما، دون أن يؤثر ذلك على وظائفك العضوية، ودون أن تعلم به “توكتا”.

القضية التي تجادل فيها “كارولين” هي أن أباها إذا أنجب أطفالا فسيذهبون إلى المدرسة وهو في عمر السبعين، أي أنه يسعى إلى تكوين عائلة لن يستمتع بها، فلن يكون لديه من الوقت ما يكفي ليعيش تلك السعادة التي يتمناها وحيد مثله.

في تايلند كما في باقي بلدان الشرق، يتعاون الجميع لخدمة أفراد العائلة الكبيرة

 

بينما يبدي “ديتر” ضجره من الاستبانات الاجتماعية التي تطلب تعبئتها النساء الألمانيات، إنهن يخضن في أدق تفاصيل حياته، حتى نوع الطعام الذي يأكله، ويتوقفن كثيرا عند مهنته في الجزارة وأكل اللحوم، الأمر الذي يستكثرنه عليه ولا يطقنه، ثم تسأله إحداهن إن كانت له حبيبة، أو ما إذا كان له أصدقاء، وما معنى الشراكة التي يريدها، إنه هراء كثير بغير طائل، على حد تعبيره، والأمر عكس ذلك في تايلاند.

لماذا اشتريت المزرعة يا أبي؟
لأنني أحبها، في الحقيقة أنا أحب الزراعة والحيوانات كثيرا، ولو أن أمك ساعدتني في هذا لكنت اشتريت مزرعة حقيقية كبيرة.
أبي، هل تحب “توكتا” كما كنت تحب أمي؟
الأمر مختلف يا ابنتي، أحببت أمك وأنا في العشرين، أما الآن فقد تغيرت أشياء كثيرة، علاقتي مع “توكتا” تميل أكثر إلى الهدوء، وأعتقد أن السعادة التي أشعر بها معها في مرحلة الهدوء هذه، قد تكون أكبر من السعادة التي عشتها مع والدتك.
وهل تقبل “توكتا” أن تعيش معك؟ وماذا عن ابنها؟
لقد قالت لي إن ابنها ليس مشكلة، فأبواها سوف يقومان بتربيته ورعايته، وأنا بالطبع سوف أساعده ماديا إذا طلبوا مني ذلك. تلك هي ضريبة أن تتزوج بتايلاندية، مطلوب منك أن تتزوج الأسرة بأكملها.
وهل ظروفك المادية تسمح بذلك؟
لا أدري، ربما علي أن أعيد التفكير في حل آخر.

إنسان الجانب الآخر من الكوكب.. رحلة إلى تايلاند

يبدو أن “ديتر” قد عزم أمره نهائيا ولا مجال للتراجع، لقد سافر إلى تايلاند برفقة ابنته “كارولين” لإتمام مراسيم الزواج هناك، وقد كانت “توكتا” في استقبالهم وها هي تقدمهم إلى عائلتها؛ أبيها وأمها وعمتها وجدتها لأبيها، إنهم جميعا يسكنون كأسرة واحدة في بيت واحد، وقد بدأ النقاش فعليا حول ترتيبات الزفاف.

يسأل “ديتر”: كم العدد المتوقع دعوته للحفلة؟ فتجيبه “توكتا” أنهم سيكونون بحدود 30 -40 فردا، فيمازحها “ديتر”: تقصدين من 50 إلى 60. وتتدخل عمتها: لا تقلق، المسألة تحتاج إلى خمسة كيلوغرامات من اللحم وينتهي الأمر.

الحياة الشرقية تمتاز بوجود العائلة الممتدة والبساطة والهدوء

 

يسأل “ديتر”: وماذا عن الموكب؟ وهل ستكون هنالك موسيقى حية وغناء مباشر؟” ويجيبونه بأن ذلك سيكون مكلفا، ولا داعي له.

ولكن الفكرة التي تفرض نفسها الآن على “كارولين” وأبيها هي أن الحياة في تايلاند مختلفة تماما عنها في ألمانيا. إن ليلة واحدة فقط قد غيرت أفكارهما تماما عن المعيشة هنا، البيئة المتواضعة، والطرق غير المعبدة التي تتشارك فيها الحيوانات مع البشر، والنظافة دون المستوى، ومصادر المياه الملوثة، هذا إضافة إلى الطرق الأولية في استخدام الماء، فلا وجود للتكنولوجيا بتاتا في هذه القرية البدائية.

في حديث جانبي تعترف “توكتا” لـ”كارولين” أنها أحبت أباها من أول لقاء جاء فيه إلى تايلاند قبل هذه المرة، لقد كان مرحا وحنونا وأبدى تعاطفا مع جميع أفراد عائلتها الذين بادلوه نفس المشاعر، كان مختلفا عن زوجيها السابقين، فقد كان أحدهما يضربها ضربا مبرحا، وخانها مع عشيقة أخرى، وكان لا يحبها، وكان الآخر لا يحب ابنها ولا يبدي أي مشاعر تجاهها.

“لقد علمتُ لاحقا أنهم أجبروا ابنتهم على الزواج بي”

في الحي الذي تسكن فيه “توكتا” هنالك ثلاثة أجانب على الأقل تزوجوا من تايلنديات، بل وبنوا مساكنهم الخاصة هناك، وأحد هؤلاء الأجانب من موطن “ديتر” ألمانيا، أما الآخران فمن بريطانيا وفنلندا.

أبي، هل تتخيل نفسك تعيش هنا؟
كلا يا ابنتي، لا أتخيل نفسي أعيش وسط هذه العائلة الكبيرة. إذا افترضت أنني سأعيش هنا فسوف أبتني لنفسي بيتا. وحتى هذا لن يكون حلا مجديا، فهم عائلة واحدة كبيرة يسكنون سويا، ثلاث أخوات متزوجات وأطفالهن ووالداهن؛ كلهم في مكان واحد، سيكون بيتي مجرد غرفة معيشة، أو حتى ثلاجة فقط، سيشاركونني جميعا فيه.

يعيش في تايلند من الأوروربيين أفراد كثيرون يجدون في الزواج من الشرقيات استقرارا

 

ألم يكن هذا هو ما تريده بالضبط؟
لا، ليس عائلة بهذا الحجم.
أبي، هل كنت راضيا عن حياتك الزوجية مع أمي؟ أخبرني بكل شيء أرجوك.
لقد قلت لها منذ البداية كيف يجب أن تكون حياتنا، قلت لها أريد أن أسكن في الريف، وأن تكون عندي مزرعة وأبقار وأغنام كثيرة، كنت أحب رعاية الأغنام. ولكن بعد كل هذا أنتِ تعلمين يا ابنتي أنني لم أحصل على شيء مما تمنيته.
أبي، أنت كنت تريد تفصيل حياتك وفق هواك أنت، لم تكن تسمع لآراء الآخرين.
هل تحبين أن تري الأرض التي سأبني عليها بيتي؟
لا يستطيع الاثنان إخفاء دهشتهما من أسلوب الحياة هنا، لكن “ديتر” لا يريد التفكير بالانسحاب، يبدوا أن الأمر بات محسوما لديه، حتى بعد أن التقى بجاره الألماني، فقد قال له بصراحة إن الناس هنا ينظرون للأجنبي على أنه صرّاف متنقل. ويتابع: لقد علمتُ لاحقا أنهم قد أجبروا ابنتهم على الزواج بي، أنا أحبها وهي تبادلني ذلك، ولكن الحب هنا يختلف عن معناه في أوروبا، هنا عطاء بلا حدود.

مكتب الزواج المدني.. أنت الآن زوج العائلة

لقد بات من المتفق عليه بين الألمان الثلاثة “ديتر” وابنته وجاره أن أسلوب الحياة هنا لا يطاق، ولكن الضرورات المتبادلة هي التي تجبر الطرفين على القبول، فالأوروبي يبحث عن حياة اجتماعية متوازنة بوجود عائلة حوله، حتى لو كان طعامه من مرق الضفادع والخنافس. بينما ترى التايلندية أنها تضحي بنفسها من أجل أن تسعد عائلتها وتمنحهم فرصة للتنفس خارج هذه الحياة البائسة.

زواج سهل بتكاليف ومراسيم بسيطة، لكن الفرح عميم

 

في مكتب الزواج المدني كانت “كارولين” وصيفة أبيها والشاهدة على زواجه، كانت متألقة في أبهى حلة، كانت سعيدة بحق من أجل أبيها، لكن مشاعر حزن عميق كانت تختفي بين طيّات سعادتها. وبينما كان الموظف يدقق الوثائق ويختم المعاملات بالخاتم الرسمي، كان فرح “ديتر” باديا على وجهه بشكل لا يوصف.

وبالانتقال إلى بيت العائلة نجد أن مظاهر الاحتفال كانت بسيطة للغاية، ولكن الفرح بدا عارما، فجميع أهل العروس يرقصون، وتسمع في الأرجاء صوت موسيقى شرقية تنبعث بأنغام رتيبة توحي بالحبور والسرور، والأطفال يلعبون ويتناولون طعام الوليمة البسيط. وبينما كانت النسوة يعقدن تمائم طرد الأرواح الشريرة على معاصم العروسين، كان الحاضرون يقدمون التهاني والصلاة من أجل حياة سعيدة.