“السعي وراء النجوم”.. طهاة ينشدون التحليق في فضاء عالم الطعام

خاص-الوثائقية

أربعة طهاة من النرويج وفرنسا واليابان وإسبانيا مفتونون بمهنتهم، وينتظرون تقديرا خاصا من المختصين بتذوق الطعام، ولكن هؤلاء المختصين ليسو عاديين، بل هم الأكثر شهرة في العالم؛ “دليل ميشلان” ونجومه الثلاث.

حيث يصحبكم فيلم “السعي وراء النجوم” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، إلى داخل مطابخ مطاعمهم وخارجها، وكيف يحضرون أطباقهم، وأدق التفاصيل التي يعتنون بها للحصول على نجوم “ميشلان” الثلاث.

ولكن قبل الخوض في رحلات الطهاة نحو التحليق في فضاء عالم الطعام، علينا البدء بتعريف عالم “ميشلان” ونقاطه الثلاث وعلى أي أساس تمنحها للمطاعم ولماذا يسعى أغلب الطهاة وأصحاب المطاعم للظفر بها؟

 

“دليل ميشلان”.. معايير النجومية في عالم المطاعم

يعد “دليل ميشلان” أحد أوسع الأدلة السياحية انتشارا، كما باتت نجومه التقديرية مصدر تباهٍ بين الطهاة الحاصلين عليها، وقد أطلق الأخوان “إدوارد” و”أندريه ميشلان” هذا الدليل بداية عام 1900، ليعين السائقين على التنقل ومواجهة أعطال المركبات، أما اليوم فيغطي “دليل ميشلان” معلومات واسعة حول المواقع السياحية والطرق والفنادق والمطاعم حول العالم.

ولا تولي نجوم ميشلان أهمية كبرى بتصميم المطعم أو تجهيزاته أو خدماته أو مستوى وترتيب طاولات الطعام، بل تعتمد مبدأ “ما هو موجود في الطبق”، ولذلك فهي تركز على “مطبخ المطعم” وليس “المطعم” ذاته، وتأخذ بخمسة معايير:

–         جودة الطعام.

–         التحكم بالنكهة والطبخ.

–         تفرد وخصوصية قائمة الطعام.

–         القيمة لقاء السعر.

–         ثبات مستوى الطعام بين الزيارات المختلفة.

أما النجوم الثلاث لدليل ميشلان فتأخذ معاني محددة، وتقابل كل نجمة منها عبارة تربط المعنى برحلة المسافر، كالتالي:

نجمة واحدة: مطعم جيد جدا في مجاله، وتمثل هذه الفئة عبارة “يستحق المرور”.

نجمتان: مطعم ممتاز ذو أطباق متميزة، وتمثله عبارة “يستحق أن تضيفه إلى رحلتك”.

3 نجمات: مطعم استثنائي يقدم تجربة فريدة، ولذلك فهو “يستحق رحلة خاصة”.

وبالعودة إلى فيلم “السعي وراء النجوم”، فالطهاة الأربعة “إيسبن بانغ” و”ماريا مارتي” و”سيلفستر وحيد” و”يوشيرو ناريساوا” يفعلون كل ما بوسعهم للظفر بالنجمة الثالثة أو المحافظة عليها، وهذا ما يجعل مطاعمهم تستحق “رحلة خاصة” لزيارتها.

الطاهي “إيسبن بانغ” صاحب مطعم “مايمو” في النرويج حاصل على نجمة ميشلان الثالثة

 

“إيسبن بانغ”.. أصغر حاصل على النجمة الثالثة

كانت البداية مع الطاهي “إيسبن بانغ” صاحب مطعم “مايمو” في العاصمة النرويجية أوسلو الذي يقول: أنا أصغر صاحب مطعم حاصل على نجمة ميشلان الثالثة في الوقت الحالي، لم أكن أرغب في أن أصبح طاهيا أبدا، وكنت مهتما بمواد أخرى في الدراسة، وعندما بدأت التعلم عملت في غسل الأطباق لكسب المال، وبعدها أعجبني الأمر ودخلت في هذا العالم.

يعتبر “إيسبن” فريقه كإخوته ويشعر أنهم مثل فرقة من الجيش، وقد رغب بالعمل في مطاعم طموحة، ولهذا بحث عن مطاعم حاصلة على نجوم ميشلان في أوسلو، وكان يعمل بجهد وجد سبعة أيام في الأسبوع، فقد أراد تعلم كل شيء بأقصى سرعة، حتى أصبح هوسا بالنسبة له، وبعدها أصبح كبير الطهاة في مطعم حاصل على نجمة “ميشلان” واحدة، قبل أن يقرر افتتاح مطعمه الخاص.

يقول “إيسبن”: لم أرد طهو أي شيء متوفر في السويد أو الدانمارك، بل إنني أسعى لتقديم شيء لا يمكن إيجاده سوى في مكان نشأتنا، فما الذي تملكه النرويج ولا يملكه الآخرون؟ إنها الطبيعة والماضي الذي طبعه الفقر عندما كانوا لا يملكون شيئا، كانت مسألة تتعلق بغريزة البقاء، ولهذا أحب النرويج.

في الصيف يذهب إيسبن بانغ” إلى الطبيعة لقطف الزهور والأعشاب لاستخدامها في إعداد أطباقه وتزيينها

 

إغلاق المحل ثلاثة أيام.. وقت اختراع الأطباق الجديدة

ويواصل: من ناحية الأطباق لا يمكن أن يوجد مطعم “مايمو” إلا في هذا المكان، كل شيء كالنكهات والصلصات وكل تفاصيل الطهي الصغيرة هناك مجال لتحسينها، لا يمكننا الشعور بالرضى، وهذا هو سر مطعمنا، فعندما نكون راضين نشعر أن هناك خللا ما.

ويقول الشيف إن إلهامه يأتي من الطبيعة، ففي الصيف يذهب مع فريقه إلى الطبيعة، لقطف الزهور واستخدام ما يصلح منها في إعداد الأطباق أو تزيينها وحتى إعداد الشراب منها، ولكي تختار الأفضل يجب أن تكون موجودا، لأنك لن تحصل على هذه الجودة عبر الهاتف.

واللافت أن الشيف “إيسبن” قرر إغلاق محله ثلاثة أيام في الأسبوع ليس للراحة والاسترخاء، بل لاختراع أطباق جديدة والارتقاء بالمطعم إلى مراحل أعلى، ولأنه يرى في الطبيعة الإضافة، فهو يستخدم النمل في إعداد الأطباق، لأنه حمضي بطبيعته، فسيكون بديلا مثاليا لحامض الليمون.

وإضافة إلى الزهور والنمل، يحاول الشيف استخدام الفواكه والخضروات التي تشتهر بها النرويج كالتوت الأصفر مثلا، ولأن موسمه قصير فيعد ثمينا، وأطباقه مطلوبة ومرغوبة.

“إرضاء الزبون هو الغاية”.. فهم المجتمع والناس

يزور الشيف “إيسبن” بشكل دائم شمال النرويج بسبب المناظر الطبيعية الخلابة التي تتمتع بها هذه المناطق، لأنها هي بداية شرارة فكرة مطعم “مايمو” برمتها. يقول الشيف “إيسبن”: أقضي وقتا طويلا بين الثلوج، وأشاهد غزال الرنة المهم جدا لشعب “السامي” الذي يقيم معها علاقة تكافلية، إن هذه الحيوانات مهمة جدا للشعب مثل زوجاتهم وأبنائهم، علينا فهم أننا نقتل الحيوانات من أجل لحومها، فنحن سلبنا حيوانا حياته لنقطع لحومه ونأكلها، سأكون أكثر اهتماما بهذا الموضوع مستقبلا.

ويعتبر الشيف أن الإشارة إلى الارتباط بين غزال الرنة وشعب “السامي” يمثل احتفالا عاما، إذ يقول: الفرق بين مطعم جيد ومطعم رائع هو الارتباط الكامل بما تفعله، وفهم المجتمع حولك والناس فيه، ولهذا نريد صناعة طبق يشير إلى ذلك الارتباط بين شعب “السامي” وغزال الرنة، وسيمثل احتفالا بمنطقتنا والناس والحيوانات كذلك.

وبالنسبة للشيف “إيسبن”، فإن إرضاء الزبون هو الغاية والسؤال الدائم عن رأيه بالطعام، وأي رد فعل سلبي يجب أن يدفعنا بسرعة لتدارك الخطأ أو الهفوة وحلها.

لجان تحكيم نجمة ميشلان تدخل المطعم كزبون عادي وتتذوق الطعام ثم تغادر قبل أن تصدر حكمها

 

“إنهم يدخلون كزبائن عاديين”.. قلق انتظار المفتشين

عن مفتشي دليل “مشيلان” الذين يمنحون النجوم للمطاعم يقول “إيسبن”: إنهم يدخلون كزبائن عاديين يأكلون، ثم يدفعون الفاتورة ويغادرون، ثم يبدون رأيهم لاحقا بالطعام.

ويختم قائلا: كل ليلة في المطعم مهمة لي، لأنني أريد خدمة الزبائن بأفضل صورة، أتوتر قبل تقديم الخدمة، وعندما نبدأ بالطهي لا أشعر بالهدوء ولا أكون بحالتي الطبيعية.

ويقول أحد الطهاة عن الشيف “إيسبن”: ليس مهما أن تحصل على 3 نجوم ميشلان إذا اعتقدت أنها نهاية اللعبة، لأنك تكون قد خسرت بالفعل، فهذا لا يجب أن يكون الهدف، “إيسبن” أثبت نفسه بالفعل، وفي عامه الـ35 أصبح العالم بين يديه ليحقق النصر.

الطاهية “ماريا مارتي” كبيرة الطهاة بمطعم “إل كلوب ألارد” في مدريد الحاصل على نجمتي “ميشلان”

 

“ماريا مارتي”.. من غاسلة الصحون إلى كبيرة الطهاة

من النرويج إلى إسبانيا ننتقل لمحاولة جديدة للظفر بنجوم “ميشلان” الثلاثة مع الطاهية “ماريا مارتي” كبيرة الطهاة بمطعم “إل كلوب ألارد” في العاصمة الإسبانية مدريد الحاصل على نجمتي “ميشلان”، وهي تحلم بالحصول على نجمة “ميشلان الثالثة. تقول “ماريا”: إنني قريبة جدا من تحقيق جزء من أحلامي.

عندما تفكر “ماريا” بطبق إبداعي أو جديد تحرص على تحضير مكوناته بنفسها، وعندما تطلب من أحد مساعدتها تشعر وكأنها تهدر وقتها، ولهذا تفضل أن تقوم بكل شيء بنفسها، وهذه مشكلة عليها إيجاد حل لها.

كانت “ماريا” تغسل الصحون في البداية، وعندما دخلت المطبخ في مطعم “ألارد كلوب” كان هناك طهاة تلقوا تدريبات، وأصبحت لديهم خبرة في تحضير الطعام، ولهذا كانت مضطرة لمضاعفة جهدها 3 مرات، حتى تكون في نفس مستواهم، وتثبت أنها قادرة وتستحق مكانها في الفريق.

“أحب مفاجئة الزبائن بأطباق مموهة”.. إلهام الزهور

تعتبر “ماريا” نفسها امرأة عصامية، فقد عملت في كل شيء بالمطبخ حتى 2006، عندما أصبحت مساعدة للطاهي السابق للمطعم، ولم يكن يسمح لها بإعداد الأطباق بنفسها، وفي 2013 غادر الطاهي فجأة، ومرت بأوقات عصيبة، فقد كان عليها تحمل مسؤوليات كبيرة، ولكن منذ ذلك الحين بدأت حياتها تتغير.

تقول “ماريا”: نقترب كل يوم من هدفنا، وهو الفوز بنجمة ثالثة، أقوم بتحسين الأطباق وتطويرها، وأرى أنها تستحق 3 نجوم لا نجمتين فقط. ما يميزني عن الطهاة الآخرين في مدريد هو أن أسلوبي يمزج بين المطبخ الدومينيكي ومطبخ البحر الأبيض المتوسط المحلي، أحب مفاجئة الزبائن بأطباق مموهة، فهم عندما يتناولونها يكتشفون أنها ليست كما كانوا يتوقعون على الإطلاق.

وتستوحي الشيف “ماريا” بعض أطباقها من الطبيعة وفي مقدمتها الزهور، إذ ترتبط زهرة “الخطمي” بطفولتها، فقد اعتادت اللعب بها وتعتبرها جزءا من روحها وقلبها الذي تقحمه في أجواء العمل. تقول “ماريا”: أطبخ من قلبي وأشعر بسعادة كبيرة عندما ينجح الطبق، وهذه السعادة تصل للزبائن وللأشخاص من حولك، في المطبخ أو خارجه لا أفكر سوى بالطبخ، وهذا ما يحرمني النوم، ولكن الأمر بات طبيعيا بالنسبة لي.

تحسين الأطباق وتطويرها من أجل نيل إعجاب الزبائن هو هدف ماريا الذي تعمل عليه كل يوم

 

“أظن أن الأمر كان يستحق”.. هجرة إلى إسبانيا

تنحدر “ماريا” من بلدة ياراباكوا الصغيرة في جمهورية الدومينيكان، وتحيط بها المساحات الخضراء من كل الجوانب، وتقول إنها اضطرت لمغادرة مسقط رأسها، وقدمت تضحية كبيرة لأنها تركت أبناءها خلفها.

تقول ابنة “ماريا”: كان عمري 3 أعوام يوم غادرت والدتي لم أعش معها منذ 10 أعوام، ولو لم تصل أمي إلى هذا المستوى في مهنتها، فلم يكن الأمر يستحق كل هذا العناء، ولكن الآن حين رأيت ما حققته بعد الكثير من الجهد، وبعد أن تركتنا سنوات طويلة في جمهورية الدومينيكان، أظن أن الأمر كان يستحق.

أما والدة “ماريا” الفخورة بابنتها، فتقول عنها: إنها فتاة تعد قدوة للآخرين، كل يوم يمر يزداد فخري بها، فلم يتوقع أحد أن تصل إلى هذا المستوى، وما زالت تتألق وتواصل الصعود.

“ما زلت أرى حتى يومنا هذا أن العين أول ما يأكل”

تشرح “ماريا” كيف بدأت العمل في مطعم والدها الذي كان طاهيا، فعندما كانت تبلغ من العمر 10 سنوات، كانت تنظف قبل وصول الزبائن لتناول الطعام، إذ لم يكن مسموحا بمشاهدة فتاة صغيرة وهي تعمل.

وعن “ماريا” يقول أحد مساعديها: يفهم بعضنا البعض حينما نطبخ، حساسون لنفس النكهات ولدينا نفس الجذور، نتطلع دائما للأفضل والتقدم نحو الأمام، لا أتحدث عن الجوائز أو الفوز بنجوم ميشلان، بل الوصول إلى مرحلة يصبح فيها الطبخ لحنا حقيقيا في حياتنا.

وبما أن نجمة “ميشلان” الثالثة هي الهدف، فعلى فريق “ماريا” أن يطوروا من أنفسهم ويمتلكوا المهارات التي يحاولون اكتسابها الواحدة تلو الأخرى، وتركيب قطع الأحجية التي تمنحهم النجمة الثالثة. تقول “ماريا”: في هذه الأيام أول شيء يفعله الزبائن هو تصوير الأطباق قبل تناولها، لذا فالجانب الجمالي أو البصري مهم جدا بالنسبة لنا، ما زلت أرى حتى يومنا هذا أن العين أول ما يأكل، ولهذا فإن الجماليات جزء هام جدا من عملنا، فكل طبق يجب أن يخطف قلبك.

حصلت “ماريا” على جائزة “إيسكارت” للابتكار سنة 2017 في حفل أقيم في قصر فرساي بباريس

 

جائزة “إيسكارت”.. حصاد التضحيات في قصر فرساي

عندما حصلت “ماريا” على جائزة “إيسكارت” للابتكار، قالت: بالنسبة لي من المهم جدا وجود ابنتي إلى جانبي في قصر فرساي ورؤيتي أفوز بالجائزة، أريد أن أريها كيف أثمرت كل التضحيات التي قدمناها، وحين أعلن عن فوز فريقي، غمرتني العاطفة ودمعت عيناي، فالحصول على جائزة بجانب المطاعم الراقية، كان أمرا مدهشا للغاية واستثنائيا.

وتقول صاحبة المطعم: “ماريا” شجاعة تحلت بالصبر للقيام بمشروع صعب للغاية، وأظن أننا أنجزنا الجزء الأصعب فيه، يجب أن نسير خلف أحلامنا ونسعى وراء النجوم، وسنرى ما إذا كنا سنصل إليها.

ولهذا تؤكد “ماريا” أن: النادل يلتزم بإعطاء الملاحظات التي يبديها الزبائن، هذا الأمر أطلبه بشكل روتيني، خاصة عندما نطرح طبقا جديدا في القائمة.

الطاهي الفرنسي ذو الأصول الباكستانية “سيلفستر وحيد بـ”مطعم “توميو” بباريس والحاصل على نجمتي “ميشلان”

 

“سيلفستر وحيد”.. فنان النكهات العاطفية المتبّلة

الشيف الفرنسي ذو الأصول الباكستانية “سيلفستر وحيد” يسابق الزمن، فقد حصل على نجمتي “ميشلان” في آخر عشر سنوات، ونجمتين مرة واحدة في آخر 3 أشهر، وهذا ليس سيئا في باريس، ولكنه يعمل باستمرار من أجل هذا الوسام المنشود، وقد استلم العمل عام 2015 بمطعم “توميو” بدلا من الطاهي الشهير “جان فرانسوا بيج”، ولم يكن أحد يتوقع ذلك، ولكنه قبل التحدي.

يقول “سيلفستر”: أركز على تفاصيل الطهي والتقديم والتتبيل، إنه عمل يحتاج للمثابرة، ففي كل يوم تسأل نفسك ما الذي يمكنك تحسينه وتطويره، وكل يوم جديد يعني سعيا جديدا للتميز، إنه عمل يستحق العيش من أجله، يجب أن تضع في اعتبارك أن هدفك الرئيس هو إرضاء الزبائن.

ولد “سيلفستر” في قرية صغيرة بشمال باكستان عام 1975، وقدم إلى فرنسا عام 1984، وهو يرى أن حاسة التذوق لديه تشكلت في طفولته، ولهذا فهو دائم البحث عن نكهات جديدة، فطبق دون توابل ينقصه الحب، إذ أن الحياة من دون توابل بلا طعم، لذا يبحث دائما عن نكهات عاطفية تبقى عالقة في ذاكرة الزبائن، وتكييفها مع المكونات التي يعمل بها.

وحيد في زيارة إلى بلده الأم باكستان للمرة الأولى منذ تركها مع والده سنة 1984

 

زيارة إلى مرابع الطفولة في باكستان.. تجدد الشغف

يقول الشيف “سيلفستر وحيد”: الحصول على التقدير في حياتك المهنية أمر مهم حقا، فحصولي على نجمة “ميشلان” الثالثة سيكون دليلا قويا على اندماجي الكامل في فرنسا، فعندما كنت صغيرا قرر والدي الانضمام إلى الفيلق الأجنبي الفرنسي، وكان رحيل والدي صدمة نفسية بالنسبة لي، لأن وجود الأب أمر مهم في السنوات الأولى من حياة الطفل.

وعن هذه التجربة يقول والد الشيف “سيلفستر”: عام 1983 أصبحت ضابط صف، وعُدلت وضعيتي ومنحت الهوية الفرنسية، وسمح لي بطلب لم شمل لأسرتي، وبعدها بعام وصلت عائلتي إلى فرنسا، ووقتها فرضت عليهم قواعد أبرزها أن لا يتحدثوا اللغة الأم، وأن لا يتناولوا الطعام الباكستاني أو يرتدوا الملابس مثل الباكستانيين، وقلت لهم: أنتم هنا في فرنسا، ومن الآن أخبركم بأننا لن نعود.

لكن الشيف “سيلفستر وحيد” قرر العودة إلى وطنه الأم باكستان، بعد تلقيه دعوة من السفير الفرنسي هناك، ويشرح ذلك قائلا: جاء السفير لتناول الطعام في مطعمي بباريس، ودعاني لحفل عشاء في إسلام آباد.

ورغم زيارته لأقربائه وعائلة والده في باكستان فإنه لم يعد يعتبر باكستان وطنه الأم، فهو لم يشعر بالحاجة أو الرغبة بالعودة يوما إلى باكستان. يقول “سيلفستر”: بالنسبة لي هذا جزء من الماضي، فعندما وصلت إلى هناك شعرت بأنني سائح أو زائر يزور جزءا من ماضيه منذ الولادة وحتى الثامنة من العمر، شعرت أنني كبرت في السن، ولكن هذه الزيارة أعطتني شغفا أكبر للنجاح.

يعشق الطاهي الباكستاني الأصل وحيد نكهات الطبيعة بل ويقطفها بنفسه في مواسمها

 

قطف الزيتون من جبال الألب.. رائحة النجمة الثالثة

يرى الشيف “سيلفستر وحيد” أن من الممكن التميز في البساطة، فالقيم الحقيقة التي حددها لنفسه ولفريقه للحفاظ على هذا المستوى هي العمل والمثابرة، ولهذا يعمل مع حرفيين ويدفع الكثير من المال مقابل صحون التقديم، وقد قرر تغيير كل الأواني التي كانت تستخدم على أيام “جان فرانسوا بيج”، وذلك ليس لسبب أناني، بل لأسباب تتعلق بسمعة المطعم.

ويشير إلى أن لديهم الأساس لكسب نجمة “ميشلان” ثالثة، كالأطباق وطريقة التقديم على الطاولة والإعداد ومفارش المائدة، فكل شيء جاهز وعليه الآن المضي قدما في مطبخه ومراقبة كل شيء داخله، ويدفع نفسه إلى أبعد الحدود، ليخرج كل طاقته.

ويعتبر الشيف “سيلفستر” أن قطف الزيتون من جبال الألب الفرنسية هو أكثر شيء مريح يمكنه القيام به، إذ يقول: إنه يجعلني أخرج من مطبخي وأصفي ذهني، أردت استخراج الزيت وسأسلق بعض السمك، ثم أستخدم (تفل) الزيتون وبذوره وأوراقه لأحضر طبقا مميزا، ورغم أن طعمها مرّ بعض الشيء، فإن رائحة زيت الزيتون الطازجة في الطبق رائعة، وهي بالنسبة لي النجمة الثالثة.

في حفل بباريس ضم الطهاة المميزين في فرنسا، الرئيس الفرنسي يسلم على وحيد

 

“لم أكن أتخيل أنني سأكون يوما في قصر الرئاسة الفرنسية”

دعي الشيف “وحيد” إلى قصر الإليزيه عام 2017 من قبل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، ويصف شعوره قائلا: كنت فخورا وسعيدا جدا، إذ كنت في قلب الحدث وعند قمة الهرم، لم أكن أتخيل أنني سأكون يوما في قصر الرئاسة الفرنسية مع 180 طاهيا، كنت سعيدا في مكان يُقدر فيه عملي من قبل الدولة، قدم والدي الكثير للدولة من خلال عمله في الجيش، ولطالما ردت الدولة الجميل.

ويعود إلى مطعمه ساعيا خلف النجمة الثالثة قائل: للوصول لهذا الهدف عليك إرضاء الزبائن باستمرار، لكل شخص دور دقيق جدا، وإذا خرج أحد عن تأدية الدور الذي حددناه، فسينتهي الأمر بشكل سيء للغاية، عليك أن تعامل الزبون كأحد أفراد عائلتك، ولكن الفرق أنه يدفع المال.

ويختم قائلا: جميع زبائن المطعم غير متوقعين، فلا نعرف أبدا متى سيدخل علينا مفتش “ميشلان”، وما لم يقدموا أنفسهم بعد دفعهم للفاتورة، فلا يمكننا أبدا التعرف إليهم.

الطاهي “يوشيرو ناريساوا” مالك مطعم “ناريساوا” الحاصل على نجمتي “ميشلان” في طوكيو

 

“يوشيرو ناريساوا”.. نظريات الطبخ في كوكب اليابان

محطتنا الأخيرة ستكون في اليابان، وتحديدا مع الشيف “يوشيرو ناريساوا” مالك مطعم “ناريساوا” الحاصل على نجمتي “ميشلان” في طوكيو، ويستقبل مطعمه ضيوفا من جميع أنحاء العالم. يقول “يوشيرو”: هذا مصدر فخر بالنسبة لي، يتطلب عملي تركيزا كبيرا، لأن مطعمنا عادة ما يكون مزدحما بالزبائن، ويجب أن نبذل جهدا كاملا بهدف إرضاء زبائن المطعم.

يتحدث أحد الطهاة في فريق الطاهي “ناريساوا” عنه قائلا: إنه صارم وجدّي، ويحاول باستمرار التفوق على نفسه، ويسعى دائما إلى التألق.

وللشيف الياباني وجهة نظر مميزة في موضوع تقديم الطعام، ويقول: في موضوع الطبخ أريد نقل الوضع الحالي لكوكبنا إلى زبائن المطعم، أعتقد أن هذه الرسالة يجب أن يرسلها كل طاهٍ، لو خسرت نجمة في المستقبل سيشكل ذلك صدمة لي، ويعني أننا نفتقد شيئا ما.

ويتابع: أصنع أطباقا جديدة باستمرار وأفكر في مكوناتها يوميا وعلى مدار الساعة، وطيلة العام أفكر بشيء واحد وهو الطبخ، لا أعرف الكثير من الشروط للحصول على نجمة ميشلان ثالثة، ولكن أرى أنه يجب عدم إغفال أي شيء في العمل.

يقول أحد أعضاء فريق الشيف “ناريساوا”: نجري أبحاثا عبر مواقع التواصل عن كل زبون، فهذه الطريقة مهمة، لأنها تساعدنا على تنظيم عملية الجلوس، فإذا كان هناك زبونان يعملان في نفس القطاع فلن أجلسهما قرب بعضهما، لأننا نريدهما أن يحصلا على أفضل تجربة ممكنة ويشعرا بالارتياح، لذا من المهم معرفة أمر أو أمرين عن الزبائن لخدمتهم بشكل أفضل.

في مطبخ ناريساوا تمثل بعض الأطباق الطبيعة حيث تُستلهم من زهورها ومناظرها

 

إلهام الطبيعة.. سعي إلى الكمال في كل التفاصيل

للتواصل مع الطبيعة واستعادة الطاقة، يترك الشيف “ناريساوا” طوكيو، ويذهب نحو مناطق بعيدة عن العاصمة والزحام، لمعرفة مواسم الثمار، وهذا مهم بالنسبة له ولمهنته.

يقول الشيف “ناريساوا”: من خلال المشي عبر الغابة مع مرشد أتعلم حكمة أجدادنا، وهذا يمكنني من الإبداع في الطهي بشكل أفضل، ففي مطبخي تمثل بعض الأطباق مناظر طبيعية، بينما تعبر أطباق أخرى عن رسالة، وأحاول أن أجمع هاتين الصفتين في طبق “ساتوياما” الطبيعي، فهو يمثل اليابان القديمة وتقاليد الطهي في بلادي، وجدت الإلهام في الطبيعة كروائح الغابة أو البحر، وحتى الشعور بالرياح على بشرتي، وكل هذه العوامل مجتمعة صنعت الإلهام لدي.

يؤكد الشيف “ناريساوا” أنه لا يشعر بالضغط، ولكنه يشعر بحس المسؤولية لأن كل فرد في فريقه لديه عائلة، وعليه التفكير برواتبهم وظروف معيشتهم، والأهم هو الإدارة السلمية للمطعم.

يستخدم الشيف أواني باهظة الثمن يصنعها حرفيون بشكل يدوي، ويقول: لا أستخدم الأواني الفخارية التي تنتجها المصانع، بل أتعامل مع حرفيين، ومن خلال التواصل الجيد معهم آمل أن أصنع جوا فريدا في مطعمي، فثلاثة نجوم في دليل “ميشلان” تأخذ في الاعتبار جوانب وتفاصيل مختلفة من المطعم، ولا يمكننا كسب النجوم من دون الوصول للكمال في كل تلك التفاصيل.

من يكسب نجمة ميشلان الثالثة؟

 

ترجمة الرسائل في الأطباق.. جوانب اجتماعية

ليس الشيف “نايساوا” ماهرا في الطهي فقط، بل إن لديه أعمالا إنسانية أيضا يقوم بها، ففي عام 2011، وقع زلزال فوكوشيما وتبعته موجات من التسونامي، ومن وقتها في كل شهر يأتي إلى هذه المنطقة للحديث مع الضحايا وذويهم للتخفيف عنهم، ومنذ تلك اللحظة أدرك في قرارة نفسه أن الإنسان لا يستطيع تحدي الطبيعة، بل عليه التعايش معها، فبمجرد تدخل الإنسان في الطبيعة يختل التوازن.

ويختم قائلا: إذا حصلت يوما على النجمة الثالثة فسأكون أنا وفريقي سعداء، فقد يكون “دليل ميشلان” مؤثرا من الناحية الاجتماعية أيضا، وسأحاول الاستفادة من هذه القوة بأفضل طريقة ممكنة، وسيساعدني هذا على تسليط الضوء على البيئة ومنتجاتنا، وسيصبح بمقدورنا إيصال رسالتنا بطريقة أكثر فعالية، وهذه الرسالة يجب أن تترجم في أي طبق يقدمه مطعم “ناريساوا”، فقد أضفت 20-30 طبقا جديدا إلى القائمة هذا العام، فهدفي الحصول على النجوم، وفي رأيي أن كل مطعم حاصل على 3 نجوم، هو فريد من نوعه، فهذه المطاعم رموز كبيرة في عالمنا.