“السياسة والحكم”.. معركة التراث والواقع في فكر الترابي

خاص-الوثائقية

“والكاتب كثيرا ما ألقى من قبلُ رسائل خطاب عام ودعوة للجماهير لتحريكهم في مسالك السياسة والسلطان على هدى من الإسلام، وما كانت تلك مادة تعد للمدارسة الدقيقة التي ينظر فيها العلماء ويحفظها الطلاب، وهذا خطاب جامع يعرض الآراء المتجددة الراجعة إلى الأصول، مجردة من المقولات الشواهد من السلف، غير محفوفة بكثيف حيثيات المحاجة، في أمة خطاب مرهونة بالنظر إلى حرف النصوص لا سياقها، وظاهرها لا مغزاها، ومصروفة إلى قديم الفقه المعهود وقائع الأوضاع الحاضرة قد تنكر الآراء الجديدة الداعية للإصلاح”.

 

في ديسمبر/كانون أول 1999 أعلن الرئيس السوداني السابق عمر البشير حالة الطوارئ وحل البرلمان، في مرحلة آذنت بتغييب رئيس البرلمان آنذاك الدكتور حسن الترابي عن المشهد السياسي، وذلك بعد عشر سنوات من الشراكة مع البشير، مما دعاه إلى تأسيس حزب المؤتمر المعارض، قبل أن يعتقل في فبراير/شباط 2001.

هناك في المعتقل بدأ الترابي كتابة “السياسة والحكم.. النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، وهو الكتاب الذي كان موضوع إحدى حلقات برنامج “خارج النص” الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية.

الترابي الثائر.. تغريد خارج سرب الأصوليين

يقول الدكتور إبراهيم زين أستاذ مقارنة الأديان بجامعة قطر واصفا الكتاب: تنبع أهمية الكتاب من شخص مؤلفه أولا، ثم من الحركة الإسلامية التي شارك في تأسيسها، وهي الحركة الوحيدة التي وصلت إلى سدة الحكم، وقدمت برنامجا لمفهوم السياسة في الإسلام.

طرح الترابي في كتابه تفسيرا للحاكمية وتطبيق الشريعة مختلفا عن ذلك الذي اعتادت الحركات الإسلامية وكتب الأحكام السلطانية طرحه، مؤسِّسا للمجتمع كحلقة أساسية في التشريع، حيث يقول: الشريعة عند المسلمين هي الحجة العليا فوق سلطان الأرض، لأنها مؤسسة على الإيمان بالله الكبير المتعالي، وهي شريعة شاملة تعلِّم وتأمر وتنهى الإنسان حيثما كان في مساقات حياته الدنيا. التشريع هو دون الشرع الرباني، هو التفعيل البشري للشريعة، تنزيلا إلى الحياة الواقعة.

 

ويقول وزير الثقافة السوداني الأسبق الدكتور أمين عمر: نظرة الدكتور الترابي إنسانية تبدأ من الإنسان قبل النص، وتبدأ من الواقع قبل التوجيه، وكأن التشريع هنا يأخذ معنى تنزيل المفاهيم الكلية للشريعة إلى واقع معين يتعاقد عليه الناس فيصبح ملزما، ليس لأنه شريعة فقط، بل وإرادة مجتمع مدني.

أما الدكتور سليمان حامد وهو أستاذ في جامعة القرآن الكريم، فيصف منهج الترابي في الكتاب بأنه: يتحدث عن الإنسان بصفته مستخلفا في هذه الأرض، فالحاكمية لله كلام صائب، ولكن الذي يعبر عن هذه الحاكمية هو المجتمع، ولهذا يعتبره الترابي مصدرا للسلطة، وهو يمارس السلطة بنفسه أو يتنازل عنها تفويضا لبعض ممثليه.

لكن عضو المكتب السياسي للجبهة السلفية المصرية مصطفى البدري ينتقد الشيخ الترابي قائلا: للأسف فإن النفَس العام الترابي متأثر بالثقافة الغربية التي عاشها، ولأنه صاحب مشروع سياسي فهو غالبا يتمثل فكر المنتصر، والمنتصر هنا هو الغرب، فهو يتتبع خطاهم في مشروعه السياسي.

نظرية الشورى الموسعة.. تضييق دور أهل الاختصاص

رأى الترابي في كتابه أن الخطاب الإسلامي للمجتمع هو خطاب عام، وأن على المجتمع إيجاد طريقة للتعبير عن إرادته من خلال آليات الشورى المعاصرة، ولا تقتصر الشورى عنده على اختيار الحاكم فقط، بل تتعداه إلى قضايا التشريع والترجيح بين الأقوال الفقهية في مسائل الخلاف، فيكون مردها إلى الطبقة المنفذة لإرادة الشعب.

وعن نظرة الترابي لقضية الشورى يقول الدكتور أمين عمر: رأي الترابي هو أن لا تكون التولية إلا بشورى، وحتى الأمير نفسه لا يختار أي صاحب سلطة إلا بشورى، فرأي الحاكم أو علمه لا يخوله لأن يختار بنفسه أو يوصي.

 

ويعيب البدري على الترابي رؤيته حول الشورى بقوله: لا يفرق الترابي في موضوع الشورى بين عالم وجاهل ولا بين عدل وفاسق، وكلهم في مجلس الشورى سواء، وهذا إشكال كبير جدا لأن الشرع والعقل ينصان على أن الشورى تكون بين أهل الاختصاص.

علاقة الدولة بالنظام العالمي.. جسد معاصر في ثوب من التراث

يتحدث الترابي في الكتاب عن المنظمات الدولية وعلاقة الدولة المسلمة بها قائلا: وكذلك يرضى المسلمون وسلطانهم الراشد بالتنظيم الدولي الجامع اليوم للعالم، بل هم بهدي دينهم إيمانا برب الناس الواحد، وبرسالته إليهم كافة، أحرص على معقد ينظم السلطة بين بني الإنسان. فإن قدوتهم الأولى في بنية الدولة كانت جامعة للناس بمللهم وألوانهم وألسنتهم ووجوه معاشهم، وما امتدت إليهم إمبراطورية طغيان واستغلال، بل أمة مؤلفة على سواء وعدل.

يقول مدير مركز الدراسات الإفريقية الدكتور حسن مكي: واحدة من الإشكالات الكبرى هي فكرة الدولة نفسها، فالترابي يحاول أن يوفق بين الدولة المعاصرة بثوبها الغربي، وبين الأحكام السلطانية في الفقه القديم الموروث التي تجعل من الخليفة أو الإمام أُسّا للدولة، ويقول إن هذه الصورة أصبحت تاريخا، وليس لها ما يشفع من النصوص الشرعية، وأن فكرة الدولة الحديثة يمكن تعديلها وتفصيلها بما يلائم.

“لا إكراه في الدين”.. زندقة وخروج على الإجماع

يقول الترابي: أصل الشرعة والخلقة لإنسان من الله على ميزان، حرمة من المشيئة الحرة لفرد الإنسان ونظام يصله ويوحد أمره إلى ربه بالغيب، وإلى مجتمعه وسلطانه بالدنيا على سواء يستوي فيه الوضع الأساس لبني الإنسان وعدل يحفظ لهم الحرية ويزكيها، بينما يعصم بينهم النظام ويرقيه، فلا ظلم يتمايز فيه الناس في أصل تساويهم بشرا، ولا فرط حرية سدى تضيع الوحدة، ولا شدة ضبط يهلك الحرية.

يقول الدكتور علي الحاج أحمد، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي عن نظرة الترابي للحريات: للحريات عند الترابي مدى واسع، فعندما كان يقرأ “لا إكراه في الدين”، كان يقول: إذا كان الدين لا إكراه فيه، فأين يكون الإكراه إذن؟ وبهذا فهو ينفي حد الردة، ويرى أن هذا الحد يفضي إلى النفاق والزندقة.

كانت للترابي صولات وجولات مع الرئيس عمر البشير ساهمت في صقل فكره السياسي

 

وينتقد محمد الغبشاوي المفكر السوداني الترابي فيما ذهب إليه حول موضوع الحريات بقوله: يتحفظ الإنسان كثيرا على كلمة “حرية” واستخداماتها التي وردت وترددت كثيرا في هذا الكتاب وعند الشيخ الترابي في كل شؤونه، وكأنها صارت المنزع الوحيد الذي ينزع عنه الناس. وأنا أقول: لا، بل الإسلام والشريعة بمصدريه هما ما ينبغي أن نصدر عنه.

وانطلاقا من مركزية الحرية في فهمه للدين وتنظيراته الشرعية والسياسية، أطلق الشيخ الترابي آراء اتسمت بمخالفة السائد، فكانت أطروحاته تلقى في مياه الواقع الراكدة، فتثير موجات لا نهاية لها من النقاش والجدل، حتى أن آراءه في قضايا إشكالية مثل إقامة الحدود وتعريف أهل الإيمان دفعت بعض الجماعات الإسلامية لاتهامه بالزندقة.

أخذ كثير من النقاد على الشيخ الترابي أنه ينكر الحدود ولا يأخذ منها إلا حد القصاص بأضيق حالاته، وهو بذلك يخالف ما أجمع عليه علماء الإسلام على مر العصور.

“أن الذكر والأنثى سواء”.. أفضال الترابي على المرأة السودانية

اهتم الشيخ حسن الترابي بقضايا المرأة ودورها في المجتمع والدولة، فقدم اجتهادات بارزة على المستوى النظري، وسعى باستخدام تأثيره على دوائر القرار في مراحل مختلفة إلى تطبيق هذه الرؤى عمليا، يقول في الكتاب:

“وقد سبق البيان أن الذكر والأنثى في أصول الدين وتكاليفه الأساسية سواء، الفضل لمن آمن وعمل صالحا، ولهما في سياق أسرة الزواج قسمة تكاليف متعادلة، كلا بما فضله الله به على الآخر، وأنهما في إطار السياسة في شركة موالاة أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، أو مصابرة ومهاجرة وجهادا، وأيما ولاية على أمر عام، ولأن الله فاضل ومايز بينهما لتأدية وظائف زوجية ووالدية قد يخف التكليف أو يشتد بعد البوح السواء حتى لا يعوّق في أيهما ما هو مهيأ له”.

نادى الترابي بحق المرأة فكان لندائه أثر بالغ على دور المرأة في المجتمع السوداني

 

فهو يرى إذن أن الذكورة والأنوثة لا دخل لها في شؤون الولاية العامة ولا الخاصة، فالمرأة المؤهلة فنيا لأي ولاية لها الحق في ذلك، وقد نادى بهذا منذ 1959، وبجهوده نالت المرأة السودانية حق الانتخاب وحقوقا أخرى.

في كفة الميزان.. فكر الترابي بين مؤيديه ومعارضيه

كثر منتقدو الشيخ الترابي، وكثر الجدل حول آرائه وكتبه أنّى صدرت، وعاب عليه كثير من النقاد عدم اعتباره لآراء الفقهاء المتقدمين، بل ومخالفتها في كثير من الأحيان، وغض الطرف عن الأحكام السلطانية التي يكتب هو فيها، ويجدون أن رؤاه التي يدعي أنه يستقيها من نصوص الكتاب والسنة لا يشير فيها إلى نص واحد واضح من هذين المصدرين، وعابوا عليه كذلك لغته العصيَّة وألفاظه الصعبة التي لا يقوى على فهمها بعض طلاب العلم فضلا عن العامة.

كانت حياة الترابي وكتبه مثار جدل فكري وسياسي، ومع ذلك فقد كان علامة فارقة في تاريخ السودان الحديث

 

عاش الشيخ الترابي حياة كلها سياسة وتحديات وانقلابات ومعتقلات وأحزاب وجماعات، وكان مع النظام تارة وفي المعارضة مرات، وكثر الجدل فيه وفي أطروحاته، ففي الوقت الذي يراه بعض النقاد فقيها ومجددا ومجتهدا، يراه محايدون قد تأثر بالواقع السياسي المحلي والدولي، ويلتمسون له العذر في مواقفه أحيانا، بينما يرى المنتقدون أنه قد ضيّع البلاد والعباد بشطحاته السياسية التي لا ترتكز على قرار شرعي ثابت.