السينما السورية.. 70 عاماً من التعثّر والنجاح

سنان ساتيك

ترتفع ألسنة اللهب، وتُضيء النار الليل المظلم. لقد أفلت شريط الفيلم من البَكَرَة، ليقع المصباح أرضا فينسكب الوقود الموجود داخله، ثم تشتعل صالة العرض، فقد كانت الأدوات التي تُستخدم في العرض السينمائي بدائية تعتمد على الضوء المُنبعث من تلك المصابيح التي تعمل على الوقود، لذلك أضحت النيران مصير معظم صالات السينما في سوريا مع بدايات دخولها.

دمشق.. العرض السينمائي

يصل مجموعة من الأجانب جاؤوا من تركيا إلى حلب شمالي سوريا عام 1908، ويعرضون فيها صُورا مُتحركة عجيبة تُعدّ العرض السينمائي الأول في البلاد، حيث وقف الجمهور مذهولا مما يشاهده، فالصور تتحرك على شاشات أمامهم كأنها بشر حقيقيون.

لاحقا أراد أصحاب المقاهي في دمشق إضافة روح وحياة جديدتين فيها كي يُقبل عليها الزبائن، وذلك بعدما تراجعت مهنة الحكواتية لكون قصصهم صارت مُتكررة، كما أن صندوق الفرجة يعرض صوراً قليلة تجذب الأطفال فقط، فجاء الاهتمام بفن حديث يُلبّي متطلباتهم.

لذلك قام صاحب مقهى يقع في ساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق يُدعى “حبيب الشماس” بعرض صور متحركة عام 1912 عبر آلة يدوية، وضوء مُولد من مصباح يُنار بغاز الإستيلين، فكانت هذه الصور العرض السينمائي الأول في دمشق[1].

في هذه الفترة أمست السينما في العالم فنّا يتطور، وصارت الدول تهتم بها وتستخدمها أداة في ترويج سياساتها واستعراض قوتها العسكرية وقوة حلفائها، ففي عام 1916 أنشأ حاكم سوريا العثماني “جمال باشا” (المعروف باسم السفاح) أول صالة سينما في دمشق في شارع الصالحية، والتي سُميت بـ”جناق قلعة”، وذلك لذكرى المعركة الشهيرة التي انتصر فيها العثمانيون على القوات الإنجليزية والفرنسية في الحرب العالمية الأولى.

صالة سينما “زهرة دمشق”

 

“زهرة دمشق”.. أفلام فرنسية وكاوبوي

الفيلم المعروض في “جناق قلعة” كان استعراض الجيش الألماني في برلين بجنوده ومدرعاته، لكن الإقبال كان شديدا لانجذاب الناس لهذه المناظر المتحركة، فهذا شيء غير مألوف فيه صور تتحرك وجنود يتحركون في شاشة لا يفهم الناس ما يحدث فيها، إذ إنهم يرون شيئا غريبا لم يروه من قبل، لكن هذه الصالة احترقت كما احترق غيرها لضعف الإمكانات وقلة الخبرة.

بعد احتراق صالة “جناق قلعة” اقترح رجل يوناني يُدعى “سالو” (كان يعمل ميكانيكياً ويدير صالة جناق قلعة التي احترقت) على صاحب مقهى في ساحة المرجة إنشاء صالة سينما، فوافق صاحب المقهى لأن أصحاب المقاهي انتبهوا لهذا الإقبال الجماهيري فأرادوا الاستثمار في هذا القطاع.

نتج من هذه الشراكة إنشاء صالة سينما سُميت “زهرة دمشق”، فراحت تعرض أفلاما فرنسية بوليسية وفكاهية، ثم تَتابع افتتاح صالات السينما لأنها ذات ربح وفير، وراحت هذه الصالات تعرض أفلام الكاوبوي (رعاة البقر الأمريكيين) والعصابات المكسيكية.

وفي وقت لاحق بدأت الأفلام الفرنسية بإزاحة أفلام الكاوبوي بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق، وازدادت دُور العرض في مدينة حلب والمحافظات السورية تزامنا مع ما تشهده دمشق.

لقطة من فيلم “المتهم البريء”، وهو أول فيلم سوري صامت

 

“المتهم البريء”.. أول فيلم سوري صامت

تأثر بعض الهُواة بما يشاهدونه من الأفلام المعروضة في الصالات، لذلك بدأ التفكير بإنتاج أفلام سينمائية سورية، فاجتمع مجموعة من الهُواة هم أيوب بدري وأحمد تللو ومحمد المرادي، وقرروا إنتاج فيلم سينمائي.

استورد هؤلاء جهازا صغيرا للتصوير السينمائي، وبما أنهم هُواة ليس لديهم خبرة ولا يعرفون فن التصوير السينمائي وعملياته الفنية؛ اتفقوا مع المصور رشيد جلال للقيام بالتصوير ووضع السيناريو وهم يقومون بالتمثيل، فأسسوا شركة “حرمون فيلم” التي شرعت في إنتاج أول فيلم سوري هو “المتهم البريء” عام 1928.

بطرق بسيطة وبدائية صُوّر الفيلم على شريط بلغ طوله 800 متر، واستغرق التصوير ثمانية أشهر، وكان الفيلم السالب (نيغاتيف) يُرسل إلى فرنسا للطبع، وقد استمد الفيلم قصته من حوادث حقيقية في عهد الملك فيصل تحكي عن عصابة لصوص عاثوا فساداً في دمشق تلك الفترة، مع بعض التعديلات بإدخال العنصر النسائي، والذي لعبت الدور فيه فتاة دمشقية.

بعد انتهاء التصوير بدأ الترويج لعرض الفيلم، وتقدمت الشركة للحصول على الترخيص، لكن السلطات الفرنسية رفضت منحهم إياه لوجود ممثلة فيه، متذرعة بأنها مسلمة وغير محترفة، ولأن رجال الدين يحتجون على ذلك، مما يهدد الأمن العام. وقف صانعو الفيلم حائرين أمام قرار السلطات الفرنسية، فلم يكن أمامهم خيار سوى إعادة مشاهد الفتاة باستبدالها براقصة ألمانية، وإعادة تصوير مشاهدها مجددا[2].

حقّق الفيلم إقبالا منقطع النظير رغم أنه صامت، لكنه أثّر في المجتمع الدمشقي، فأحداثه تجري في دمشق، ويروي حكاية محلية تمسّ المجتمع بأحداث بسيطة يُدركونها بسهولة.

 

“تحت سماء دمشق”.. نهاية السينما الصامتة

تدبّ الخلافات بين أعضاء شركة “حرمون فيلم” لتجد الشركة نفسها متفككة، رغم أن نجاح فيلم “المتهم البريء” صار حافزا لمتابعة الاستثمار في هذا القطاع الناشئ، مما دفع “رشيد جلال” المنفصل عن شركائه في “حرمون فيلم” بتأسيس شركة “هليوس فيلم” مع مستثمرين آخرين عام 1931، مُستعينين بمصور إيطالي وعدد من الممثلين والراقصات الأجنبيات لإنتاج فيلم “تحت سماء دمشق” عام 1933.

وحين تهيؤوا لعرض الفيلم كانت الإعلانات تملأ الشوارع بأول فيلم ناطق بالعربية هو “أنشودة الفؤاد”، فقرر صُنّاع الفيلم جعل “تحت سماء دمشق” ناطقاً، لكنهم لم يقدروا على ذلك لضعف الإمكانات وعدم توفر المعدات، فعرضوه صامتا بعد عرض “أنشودة الفؤاد”، فأخفق الفيلم لأن الجمهور عندما شاهد فيلماً ناطقاً بالعربية نفر من الفيلم الصامت الذي يعتمد على إيحاء الصورة فقط، فصاروا يريدون فيلماً يتحدث فيه الممثلون بلغة يفهمونها ويتفاعلون معها.

كما أن السلطات الفرنسية أوقفت عرض الفيلم لأنه يستعمل ألحاناً وموسيقى لها حقوق خاصة، فارتبك الصُنّاع أمام هذا القرار الذي لا يعلمون عنه شيئاً، وبعد تدخلات ووساطات عدّة عاد الفيلم للعرض، لكنه مُني بخسائر كبيرة، ليُعلَن نهاية السينما الصامتة في سوريا[3].

بوستر معرض دمشق الدولي وهو أول مهرجان سينمائي عربي

 

معرض دمشق الدولي.. أول مهرجان سينمائي عربي

مع قيام الكفاح الفلسطيني المُسلّح واشتعال الثورات ضد الاحتلال الإنجليزي، تنبّه روّاد السينما في سوريا إلى ذلك، وبدؤوا العمل على إنتاج أفلام تحكي عن المقاومة والعمل المُسلّح، وذلك تضامناً مع المدّ القومي وتعاطفاً مع ما يتعرض له الفلسطينيون من تضييق وسيطرة على الأراضي، فقام “أيوب بدري” صاحب فيلم “المتهم البريء” مع بعض الهُواة بإنتاج فيلم “نداء الواجب”، وفيلم عن ثورات فلسطين.

عام 1947 أسّس “نزيه الشهبندر” إستوديو وجهزه بمعدات تصوير من صُنعه، لينتج أول فيلم سوري ناطق هو “نور وظلام” من بطولة المطرب رفيق شكري، والممثلة إيفيت فغالي وشامل مرعي وأنور البابا (الشهير بشخصية أم كامل) وحكمت محسن (أبو رشدي)، مستغلاً شهرة بعضهم لكونهم معروفين في الإذاعة.

كذلك لم تتأخر حلب عن الصناعة السينمائية، فبدأت بتأسيس شركة عام 1950 باسم “عرفان وجالق” التي أنتجت فيلماً بعنوان “عابر سبيل”[4].

وفي العام ذاته برز في دمشق فنان هو زهير الشوا الذي أنتج فيلم “الوادي الأخضر”، ليكون أول فيلم تتم جميع عملياته في سوريا من تصوير وطبع وتحميض، ثم تابع الشوا بإنتاج فيلم عن فلسطين عام 1963 باسم “وراء الحدود”، لكنه لم يكمله لارتفاع ميزانيته، ثم عاد عام 1966 ليخرج فيلم “لعبة الشيطان”.

ولمّا قامت الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة) تم تأسيس دائرة السينما والتصوير، وعُيّن رئيساً لها عام 1960 “صلاح دهني” الذي تحول إلى النقد السينمائي، كما نجح سابقاً في إقناع إدارة معرض دمشق الدولي في عام 1956 بتنظيم أول مهرجان سينمائي عربي على هامش فعاليات المعرض[5].

 

السبعينيات.. رائحة المقاومة الفلسطينية

سبعة أفلام فقط أُنتجت منذ عام 1928 حتى ستينيات القرن الماضي، لكن تأسيس المؤسسة العامة للسينما عام 1963 فتَح المجال للعمل السينمائي وتطويره، لتأتي هذه المرحلة في تاريخ السينما السورية حتى الثمانينيات مُكوّنة مرحلة النهوض في الإنتاج في القطاعين الخاص والعام[6].

مع انطلاق المؤسسة العامة للسينما انصبّ التركيز على إنتاج الأفلام الوثائقية، كما أنها عملت مع الخرّيجين القادمين من الخارج لزيادة خبرتهم، لذلك لم تنتج فيلماً طويلاً إلا بعد أربعة أعوام، وهو “سائق الشاحنة” من إخراج اليوغسلافي “بوشكو فوتشينيتش”؛ صاحب التجارب مع وزارة الثقافة السورية سابقاً في أفلام وثائقية[7].

اتسمت هذه المرحلة بالاهتمام بالقضية الفلسطينية، ففي هذه الفترة اشتعل العمل الفدائي، فوقفت السينما مُجسدة إياه، لينجز فيلم “رجال تحت الشمس” (1970) الذي يحكي عن القضية الفلسطينية والمقاومة. وكذلك فيلم “السكين” (1971) المأخوذ عن قصة غسان كنفاني “ماذا تبقى لكم؟”، وفيلم “المخدوعون” (1973) المأخوذ أيضاً عن قصة غسان كنفاني” رجال في الشمس”.

لكن هذه المرحلة شهدت أيضاً إنتاج فيلم “الفهد” (1972) المأخوذ عن قصة للروائي السوري حيدر حيدر بالاسم ذاته، والذي تعرّض لانتقادات حادة رغم أنه يحكي عن علاقة الفلاح بالإقطاعي، إذ ظهرت فيه بعض المشاهد الإغرائية، فصار حدّاً فاصلاً في السينما السورية.

 

في ظلال الأدب.. سينما الواقع والحياة اليومية

لم تتوقف السينما عند القضية الفلسطينية فقط، فالسينما فن إنساني يرافق الواقع، ويرتبط تاريخه بما حوله من ظروف زمكانية، محاولا تجسيد الواقع الموازي بصورة فنية يُعبّر فيها عن ذاته. فكان لا بدّ من تصوير الواقع والانتقال إلى الحياة اليومية، وذلك عندما أخرج محمد شاهين عام 1973 فيلم “وجه آخر للحب”، والذي يجسّد قضايا مجتمعية وعلاقات غرامية مع بعض المشاهد الحميمة التي تستهدف المشاهد وتثير عواطفه، لكنه حاول توظيفها فنيا، ولتكون في سياقات العمل، كي لا يناله ما نال الفهد سابقاً من نقد لاذع.

كما تعزّز الاقتباس من الأدب فجاءت “ثلاثية العار” عن ثلاث قصص لفاتح المدرس عام 1974، ثم “اليازرلي” (1974) عن قصة “على الأكياس” للروائي حنا مينه، وفي فيلم “المغامرة” (1974) المقتبس عن مسرحية سعد الله ونوس “مغامرة رأس المملوك جابر”.

عادت القضية الفلسطينية كونها همّاً مشتركاً في فيلم “كفر قاسم” (1974) لتجسيد المذبحة بحق أهالي القرية، وأيضاً فيلم “الاتجاه المعاكس” (1975) الذي يُصوّر ارتدادات نكسة حزيران والهموم السياسية والاجتماعية.

أما فيلم “الأحمر والأبيض والأسود” (1976) فكان الأول في تقديم أطفال لعبوا البطولة فيه، وذلك عبر أطفال نازحين عن أراضيهم بسبب الاحتلال الإسرائيلي، لكنهم يتعرضون لجشع رجل يستغلهم. ثم يُجسّد فيلم “الأبطال يولدون مرتين” (1976) القضية الفلسطينية كما يراها طفل بعد عدوان حزيران واحتلال غزة.

 

“المصيدة”.. أفلام الطبقية والجريمة

تراجع الاهتمام بفلسطين وقضيتها في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في السينما السورية، لذلك ركزت على القضايا الاجتماعية والصراع الطبقي، ففيلم “القلعة الخامسة” (1976) يتحدث عن شاب ريفي يدخل المدينة مُصوِّرا التفاوت بينهما، مع التطرق إلى العمل السياسي في فترة الخمسينيات في سوريا الغنية بالأحداث السياسية.

كذلك استمر تصوير الاختلاف بين الريف والمدينة عبر فيلم “حبيبتي يا حب التوت” (1978)، الذي يتحدث عن شاب ينتقل من الريف إلى المدينة، ويوضح العلاقات الاجتماعية وتشعبها. أما فيلم “المصيدة” (1979) فيحكي عن فتاة فقيرة تبحث عن عمل، وتقع ضحية للأغنياء الذين يتلاعبون بها ويستغلونها.

كما يدخل عالم الجريمة إلى السينما في هذه الفترة عبر فيلم “قتل عن طريق التسلسل” (1981)، وذلك بحبكة مسبوكة عن سيدة تريد نصيبها من عمولتها مع رجال أعمال يرفضون منحها إياها، فتهددهم بوثائق تمتلكها، لذلك يدبرون جريمة قتلها.

 

سينما النخبة.. السعي إلى العالمية

تتشابك القضايا الاجتماعية عبر شاب يريد أن يصل إلى أهدافه دون أن يحسّ بالمجتمع ومعاناته، مقابل أن يحقق غاياته في فيلم “حادثة النصف متر” (1980). كما أن الحب غرض فني أساسي في أيّ سينما، فقد كان فيلم “حب للحياة” (1981) من إخراج بشير صافية يروي قصة حب بين فتاة فقيرة يقع حبيبها ضحية للبرجوازية، فتسعى إلى البحث عنه وإيجاده.

ويطرح فيلم “وقائع العام المقبل” (1985) الهمّ الثقافي لشاب يصبح قائداً للأوركسترا الكلاسيكية، لكنه يعود إلى بلاده ليصطدم بالإدارة السيئة والواقع الصعب، كما كان فيلم “الشمس في يوم غائم” المقتبس عن رواية لحَنّا مينه بالاسم نفسه، حيث يروي حكاية شاب مُتمرد لا يرضى العيش من أجل العيش فقط، بل يتمرد على الواقع ليغير حياته ومحيطه[8].

كما راحت المؤسسة العامة للسينما تنتج بعض الأفلام النخبوية، وأفلام الجوائز كي تشارك بها في المهرجانات وتحصد الجوائز، مثل فيلم “أحلام المدينة” (1983) الذي حقّق جوائز عديدة ونال استحسان النقاد، ويتناول حكايات اجتماعية في حارة دمشقية عتيقة، مُجسداً العلاقات الاجتماعية.

 

القطاع الخاص.. السينما بين التجارة والفن

دخل القطاع الخاص مجال الإنتاج السينمائي بُغية الربح المادي، لذلك تحوّل معه هذا الفن الجماهيري في أحيان كثيرة إلى مغامرة تجارية، عبر تقليد أسوأ ما أنتجته السينما العربية التجارية من أفلام لا يتوخى منتجوها من ورائها إلا الربح المادي[9].

لم يوجد في سوريا في هذه الفترة كُتّاب ومخرجون، لذلك تميزت بالعمل المشترك مع مصر ولبنان، ولجأ المنتجون إلى مصر، حيث يبيع الكاتب نصه الكاسد الذي لا يلقى رواجاً، كما يؤخذ على أفلامها أنه لا يوجد دور لممثل مصري له أهمية في السينما المشتركة، فالفيلم يُصوَّر على عجَل بأيام قليلة[10].

وبما أن المنتج لا يهمه سوى الربح، فقد أخذت هذه الأفلام منحى الإنتاج الترفيهي ذي الربح السريع[11]، معتمدة على الإغراء وسيلة لجذب الجمهور، كما عمل هذا القطاع على تجسيد الأجواء الشعبية الدمشقية في أفلام بسيطة ذات طابع كوميدي من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي، فبعد نجاحهما في التلفزيون أرادا نقل هذا النجاح إلى السينما، لكنهما لم يستطيعا الخروج من هذا الإطار، وبقيت أفلاهما دون المستوى الفني، فهي ليست ذات قيمة، ولا تحمل مضموناً فنياً[12].

لكن دريد لحام لاحقاً استطاع الخروج من هذه القوالب في فيلم “الحدود” (1984) الذي حكى فيه عن الهمّ العربي، متطرقاً إلى إشكالية الحدود بين الدول العربية، ثم كانت تجربته في فيلم “التقرير” (1986)، والذي عالج قضايا الرشوة والقضاء على الفساد المتغلغل في مؤسسات الدولة.

 

سينما التسعينيات.. تميز وحِرفية

احتكرت المؤسسة العامة للسينما استيراد الأفلام، وصارت تُمارس دورا رقابيا ومُنافسا للقطاع الخاص، وبدأت مرحلة إنتاج الفيلم الواحد لمجموعة من المخرجين الذين صاروا يعرفون بأنهم محسوبون عليها[13]، حتى تباطأ الإنتاج السينمائي في فترة التسعينيات، وصار عدد الأفلام المُنتَجة قليلا، لكن المستوى الفني لهذه الأفلام كان جيدا، فقد بدأ بالإخراج فيها عدد من المخرجين الذين عادوا بعدما أكملوا دراستهم في الخارج مُكتسبين خبرات وتقنيات جديدة.

حققت الأفلام السورية المُنتَجة في هذه الفترة حضورا متميزا في المحافل والمهرجانات الدولية، وحصدت جوائز عديدة، فقد كان العمل فيها يتم بحرفية أعلى مع وجود ممثلين متمكنين من أدواتهم.

يُسجَل في هذه الفترة اضمحلال القطاع الخاص الذي ضَعُف أمام صراعه مع المؤسسة العامة للسينما، واتجاهه نحو الدراما التلفزيونية التي بدأت تشهد إنتاجا مُتصاعدا وإقبالا من المحطات العربية مع انطلاق المحطات الفضائية واحتدام المنافسة بينها[14].

عالجت هذه المرحلة قضايا اجتماعية شائكة، وأعادت الأطفال للبطولة وسرد قضاياهم كما في فيلم “كفرون” (1990)، ودخلت إلى عمق الريف السوري المجهول “رسائل شفهية” (1991)، حتى تصاعدت القيمة الفنية في عدد من أفلامها مثل “الطحالب” (1991)، و”الكومبارس” (1993)، و”صعود المطر” (1995)، و”الترحال” (1997)، و”نسيم الروح” (1998)، وغيرها.

سارت السينما السورية خلال أكثر من سبعين عاما من القرن الماضي في طرق وعرة، تجاوزتها حينا ونجت منها حينا آخر، وذلك بتحقيقها بعض الإنجازات والجوائز، وابتعادها عن الجمهور في حين ثالث.

[1] جان ألكسان، تاريخ السينما السورية 1928 – 1988، ط 2 (دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2012)، ص 13.
[2] المرجع نفسه، ص 13-16، ص 19-24.
[3] المرجع نفسه، ص 24 وما بعدها.
[4] المرجع نفسه، ص 27-28، ص 31-33.
[5] راجع الرابط: https://bit.ly/34mP0mu
[6] راجع الرابط: https://bit.ly/2OeErw6
[7] ألكسان، ص 45.
[8] للاطلاع على هذه الأفلام راجع: ألكسان، ص 47 وما بعدها.
[9] راجع الرابط: https://bit.ly/33gznvx
[10] للمزيد راجع: ألكسان، ص 179 وما بعدها.
[11] راجع الرابط: https://bit.ly/2OeErw6
[12] للاطلاع على أفلام القطاع الخاص المنتجة في هذه الفترة راجع: ألكسان، ص 194.
[13] راجع الرابط: https://bit.ly/2XMeCql
[14] راجع الرابط: https://bit.ly/2QUvBoW