الشفق القطبي.. رقص على أنغام الشمس

تتجسد أسطورة الآلهة الرومانية “أورورا” (Aurora) في صورة حسناء تجول عالم الأرض عند كل فجر، محلّقة في السماء من الغرب إلى الشرق، لتحمل أول شعاع ضوئي قادم من الشمس تعلن به مجيئها، وقد كان الرومان القدامى كحال الأمم السابقة مولعين بالأجرام السماوية، وكانوا ينسجون أخبارا وحكايات تروي بطولات تلك الأجرام التي تألهت على أيديهم وحذت حذو آلهة الأغريق والفراعنة وغيرهم.

وفي ذكر آلهة الفجر “أورورا” يقول الشاعر الروماني “بوبليوس فرجيل” (Publius Vergilius) في ملحمته الشعرية الشهيرة الإنيادة: “لقد تركت أورورا الآن فراش الزعفران، وملأت السماء بأشعة النور الباكرة”1.

وقد نالت كذلك نصيبا من الذكر في مسرحية “روميو وجوليت” في نصها الأصلي للأديب القدير “ويليام شكسبير”، حين استخدم الكاتب “أورورا” إشارة لمطلع الفجر وضوء الصبح المرتحل. لم تكن أورورا وحيدة في عالمها السماوي، وإنما نسبوا إليها أخوين وهما “سول” (Sol) و”لونا” (Luna) اللذين كانا يمثلان إلهي الشمس والقمر في حضارة روما القديمة.

كل تلك الأساطير المختلَقة لعبت دورا جوهريا في تكوين ثقافات الشعوب فيما سبق، وقد أثّرت لاحقا في استخدام مسمياتها ترميزا للمعاني، فقد سُميت الشمس على مسماها اللاتيني “سول” بعد أن كان اسما لآلهة الشمس، وساد استخدام المسمى على الشمس وجميع ملحقاتها في الأوساط العلمية منذ القرون الوسطى حتى اليوم كتسيمة المجموعة الشمسية (Solar System)، وكذلك الحال ينطبق على أضواء الشفق القطبي الذي اكتسب اسم “أورورا” لما يتشاركانه من صورة جمالية لمشهد أشعة الضوء وهي تخترق وشاح الظلام الأسود المعتم.

ظاهرة الشفق القطبي.. أوتار البيانو المتراقصة

للشفق القطبي منظر آخاذ وفاتن، إذ يبدو كعالم خيالي جامح حاضر على كوكب الأرض، ويظهر كستائر مضيئة متموجة تعبث بها الرياح في ليلة خريفية باردة، أو كأوتار بيانو متراقصة على حركة عزف المفاتيح، ويفوق وصفها كل معنى لعين المشاهد، لعجز الحواس عن إدراك سحرها.

والشفق القطبي ظاهرة فلكية تقع على كوكب الأرض إثر تفاعل كيميائي كهربائي بين المجال المغناطيسي للأرض والرياح الشمسية (Solar wind) على ارتفاعات عالية من سطح الكوكب، وتظهر نتيجة هذا التفاعل في هيئة شرائط ضوئية متوهجة في السماء، ويمكن رؤيتها بوضوح في ساعات الليل في مناطق خطوط العرض العليا من الكرة الأرضية كالنرويج وألاسكا شمالا، وأستراليا جنوبا.

رسم تخيلي لآلهة الفجر الرومانية “أورورا” بريشة الفنان الإيطالي جيوفاني فرانشيكو

وتحدث هذه التفاعلات في القطبين المغناطيسيين للكوكب، ولا تتفرد الأرض بهذه الظاهرة الفلكية فحسب، بل تطرأ على مجموعة أخرى من كواكب المجموعة الشمسية على شرط أن يكون للكوكب مجال مغناطيسي وغلاف جوي سميك كزحل والمشتري.

غلاف الأرض المغناطيسي.. خط الدفاع الأول

كما أنّ للأرض غلافا جويا (atmosphere) يحيط بها ويعمل كوعاء لاحتواء الغازات الضرورية ومنعها من التسرب إلى الفضاء الخارجي وذلك لضمان استمرارية الحياة على كوكب الأرض، فإن لها كذلك غلافا آخر يدعى الغلاف المغناطيسي (magnetosphere) ناتج من وجود الحقل المغناطيسي (geomagnetic field)، ويحيط بالأرض، ولا يقل أهمية عن الغلاف الجوي في الحفاظ على بقاء المخلوقات الحية.

وفي الحديث بداية عن الحقل المغناطيسي لكوكب الأرض، فإن هناك عدة نظريات وتخمينات علمية تفسر ظهوره ونشأته، وأبرز تلك النظريات تنص على أن الطبقة الخارجية السائلة من لب الأرض تحتوي على حديد نقي ومنصهر شديد التوصيل يولد تيارات كهربائية شديدة بفعل حركة دوران الأرض، واستنادا إلى قانون الفيزيائي “أندريه أمبير” (Ampère’s law) المكتشف عام 1832، تولد تلك التيارات الكهربائية بدورها حقلا مغناطيسيا2.

الرياح الشمسية العاصفة تهب نحو الأرض فيتلقاها الغلاف المغناطيسي الأرضي ويحولها إلى شفق قطبي

ويمكن تطبيق ذلك عمليا باستخدام قطعة من الحديد ولفها بسلك يمر عبره تيار كهربائي، لنحصل لاحقا على قطعة حديدية ممغنطة محاطة بحقل مغناطيسي ثنائي القطب،و يطلق عليهما في الأوساط العلمية القطب الشمالي والقطب الجنوبي.

وتكمن أهمية الغلاف المغناطيسي للأرض في التصدي للرياح الشمسية والأشعة الكونية التي تحتوي على جسيمات مشحونة بإمكانها القضاء على طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، والتي هي الأخرى بدورها تحمي الكائنات الحية على سطح الأرض من الأشعة فوق البنفسجية الضارة والمسرطنة القادمة من الشمس.

لا يشترط على المحور المغناطيسي أن يتطابق مع محور دوران الكوكب، فالزاوية التي تفصل بين المحورين بالنسبة لكوكب الأرض تعادل 8 درجات، لذلك قد يبدوان متطابقين، لكن دراسات حديثة برعاية خبراء ومختصين لاحظوا تغيرا وانحرافا سريعا للقطب المغناطيسي الشمالي للأرض إذ أنه كان يبتعد عن كندا باتجاه صحراء سيبيريا الثلجية على نحو غير مألوف3.

ولم يجد العلماء شرحا واضحا لذلك الانحراف في المحور المغناطيسي، وربّما كانت أقرب التفاسير تتعلق بتغير كثافة وحركة الحديد المنصهر في باطن الكرة الأرضية.

عواصف الشمس.. رياح تقطع ملايين الكيلومترات في الفضاء

تقع الشمس في مركز المجموعة الشمسية وتشكل كتلتها 99% من الكتلة الكلية للمجموعة الشمسية، وتعد الشمس المصدر الرئيسي للطاقة والحرارة لكوكب الأرض ولبقية الكواكب على حد سواء، ويقدّر علماء الفلك عمر الشمس بـ 4.6 مليار سنة، ووفقا لكمية الوقود التي ما زالت في جعبتها، فإنها ما زالت في منتصف عمرها ويمكن أن تعيش بين 5-6 مليارات أخرى4.

تمثل الشمس مولد طاقة هائل يمد كوكب الأرض باستمرار، إذ إنّ كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض في الساعة الواحدة يعادل ما تستهلك جميع البشرية خلال عام كامل. وإذا وضعنا ذلك حسابيا، يصل إلى الأرض من الشمس إلى طاقة تعادل 430 كوينتيليون جُولا كل ساعة (الكوينتيليون هو العدد واحد وأمامه 18 صفرا، أما الجول فهو وحدة طاقة)5.

الشمس.. مصدر الطاقة والضوء والحياة في المجموعة الشمسية

بلا شك إنها كمية ضخمة، وإذا ضربنا هذا الناتج بعدد الساعات التي مضت خلال 4.6 مليار سنة “عمر الشمس التقديري” فإننا سنحصل على ناتج أكبر وأضخم بكثير. لذا تبدو الشمس كمولد طاقة لا ينضب ولا ينفد وقوده، بالإضافة إلى المسافات الشاسعة التي تقطعها الأشعة الشمسية في الفضاء.

ولا تحدث أي عمليات احتراق في الشمس، وإنما لتوليد ذلك الكم الهائل من الطاقة لا بد من عمليات ذات كفاءة أعلى بكثير، وهي ما تعرف بعمليات الاندماج النووي، إذ تندمج أنوية ذرات الهيدروجين تحت ضغط وحرارة هائلين لتشكل أنوية عنصر أثقل هو الهيليوم، وينتج أثناء عملية الاندماج ضوء وإشعاعات وطاقة هائلة تجعل سطح الشمس يسطع بلون أصفر وبدرجة حرارة تبلغ 5770 درجة مئوية.

تنتج تلك التفاعلات النووية المستمرة جسيمات مشحونة -غالبا إلكترونات وبروتونات- تحتوي على طاقة حركية عالية، مما يسمح لها بالهروب من الطبقة الخارجية للشمس المعروفة باسم طبقة “كورونا” (corona) فتتجه نحو الفضاء الخارجي في جميع الاتجاهات على هيئة رياح شمسية قوامها الأساسي من البلازما (خليط من الأنوية الذرات والإلكترونات شديدة الحرارة).

وترتبط قوة تلك الرياح الشمسية بالدورة الشمسية المكتَشفة على يد عالم الفلك الألماني “هنريش شوب” (Heinrich Schwabe) عام 1843، بعد مراقبة طويلة لسطح الشمس6.

وتتمثل الدورة الشمسية بالتغير الدوري لنشاط الشمس وتوهجها، وتقدر مدتها بـ11 عاما تنقلب فيها أقطاب الشمس المغناطيسية، ومن المتوقع أن تبدأ الدورة الشمسية الـ25 في نهايات العام الجاري 2020.

عند القطبين.. حيث يلتقي الجمعان

بعد أن تقطع الرياح الشمسية متوسط مسافة 150 مليون كيلومتر، تصل إلى الأرض بسرعة تتراوح بين 350 و400 كم في الثانية بعد 3-4 أيام، وحينها تجد جدارا منيعا يمثل درع الحماية لكوكب الأرض من هذه الجسيمات المشحونة.

يطلق على هذا الجدار الدرع المغناطيسي (magnetic shield)، وينتج من اصطدام الرياح الشمسية بطبقة الغلاف المغناطيسي لكوكب الأرض، فتمر تلك الرياح المليئة بالجسيمات المشحونة حول الكوكب كتدفق ماء النهر حول الصخر، لكن يحدث كثيرا أن تتسرب بعض تلك الجسيمات وتخترق الدرع المغناطيسي فتسقط عند القطبين المغناطيسيين، حيث تقل فعالية الحقل المغناطيسي لكوكب الأرض.

عندما تهبط تلك الجسيمات المشحونة المتسربة إلى داخل الغلاف الجوي تصطدم بأيونات الأوكسجين والنيتروجين الموجودة في أعالي الغلاف الجوي فتنتقل الطاقة من الجسيمات المشحونة إلى الأيونات.

الشفق القطبي ألوان زاهية تظهر في المناطق المتطرفة من الأرض كالنرويج والسويد وألاسكا وجنوب أستراليا

وبسبب تلك الطاقة الفائضة تتهيج الإلكترونات وتكتسب طاقة فتنتقل من مدارات منخفضة حول النواة إلى مدارات أعلى. وبعد أن تهدأ الإلكترونات، تحاول العودة إلى مداراتها الطبيعية السفلى، مما يوجب عليها أن تفقد جزءا من طاقتها على هيئة فوتونات وضوء هو ضوء الشفق القطبي بألوانه المختلفة

ويختلف لون العروض الشفقية الضوئية باختلاف نوع التفاعلات، فاللون الأحمر يصدر من الأكسجين، وأما الأخضر فمن النيتروجين، ولمشاهدة أجمل العروض السماوية فلا بد من تعقب حالة توهج الشمس، إذ إن رقص الشفق القطبي لا يحلو إلا على أنغامها.

 

المصادر:

1.    بوبليوس فرجيل. الإنيادة. المجلد الثامن. (29-19ق.م) http://classics.mit.edu/

2.    ريتشارد فيتزباتريك. قانون امبير. 2007. http://farside.ph.utexas.edu/

3.    الكسندرا النكات. الحقل المغناطيسي للأرض يتحرك والجيولوجيون يجهلون السبب. 2019. www.nature.com

4.    تشارلز تشوي. نجمة الأرض: حقائق عن عمر الشمس وحجمها وتاريخها. 2017. www.space.com

5.    ريبيكا هارينجتون. هذه الحقيقة المذهلة يجب أن تجعلك تشعر بالقلق إزاء الطاقة الشمسية. 2015. www.businessinsider.com

6.    صموئيل هاينريش شوابي. www.britannica.com