الصراع على أفريقيا.. هل يتوقف نزيف الثروة الأسمر

الوثائقية-خاص

قد لا تصدق بتاتا حين أخبرك أنه في القرن الرابع عشر كانت دولة مالي الإفريقية ضمن الدول الثلاثة الأغنى في العالم بالإضافة إلى العراق والصين، وقد تكون دهشتك أقوى حين أطلعك على أن الرحالة ابن بطوطة صنف مدينة كيلوا الواقعة بتنزانيا اليوم ضمن المدن الأجمل في العالم.

ودعني أزيد منسوب الدهشة لديك قليلا بأن أنقل إليك أن الهولنديين كتبوا بعد دخولهم مدينة بنين في جنوب نيجيريا ما معناه “تتشكل المدينة من ثلاثين شارعا رئيسيا وهي مستقيمة تماما، وعرضها 120 قدما، وعلاوة على ذلك فهناك شوارع صغيرة متقاطعة لا حصر لها، والمنازل متلاصقة بعضها البعض ومرتبة في نظام جيد، ولا يقل هؤلاء الناس نظافة عن الهولنديين، فهم يغسلون منازلهم وينظفونها بدرجة تجعلها لامعة وبراقة كأي مرآة”.

وسأختم لك جرعات الدهشة هذه بقول المناضل العاجي “كيلسي هايفورد” سنة 1922: لقد كنا شعبا متطورا ولنا مؤسساتنا الخاصة، وأفكارنا الخاصة عن الحكومة حتى قبل أن يدخل البريطانيون في علاقات مع شعبنا.

هذه نماذج قليلة عن واقع القارة الإفريقية قبل حلول الظلام، أو إن شئت قل قبل تسلط الظلَمة، لا يجرمنك ما تضلع به مفكرون وفلاسفة غربيون من مهمة تبرير مسلكيات الاستعمار الهمجية، فما لتلك الدعاوى في الحقيقة من نصيب.

 

إطلالة الظلام.. الدعاية الكاذبة

استهوت القارة الأفريقية قلوب الأوروبيين باكرا وسلبت ألبابهم، فهاموا بها عشقا، ومن العشق ما قتل ونهب وسلب، دخلوا القارة مستكشفين فهالهم حجم الغنيمة فأثاروا الأرض لكنهم ما عمروها بل استعمروها، فنهبوا الثروات وهدروا الحرمات وسلبوا الحريات، ثم بعد كل ذلك نشروا الدعايات بأنهم جاءوا صناع حياة.

أفريقيا التي عرفنا أنها كانت أحسن حالا وُسمت بالتخلف واتُّهمت بالفقر وليت هذا كفى وشفى غليل الوافدين، إنهم وصفوا الأفارقة أيضا بالدونية واعتبروهم -وما زالوا حتى اليوم يعتبرونهم- غير قادرين على تسيير شئونهم دون وصاية، إنهم سود وإن قارتهم سوداء لكن البيض إنما جلبوا لهم الظلم والظلام.

عن صراع هؤلاء على أفريقيا اليوم يتحدث فيلم من إنتاج الجزيرة بعنوان “الصراع على أفريقيا”.

وهو عبارة عن جولة مثيرة في حقائق ووثائق يسردها شهود قعود.

الشراكة الصينية الأفريقية تتجاوز عتبة المليارات

الصراع من أجل الغبن.. ضيف ثقيل في منزلنا

يقول مثل إفريقي: السمك يثق في الماء دائما لكنه هو ذاته الذي سيطبخ فيه.

بهذا المنطق يتعامل الأفارقة مع الوافدين، إنهم يثقون فيهم بلا حدود ليسيء هؤلاء إلى الأفارقة بلا حدود، فقد فتحوا لهم القلوب قبل الأبواب وأعطتهم الأرض من رحمها بلا حساب، فما زادهم ذلك إلا غطرسة وصلفا، وما زاد نظرتهم للأفارقة إلا دونية واحتقارا. اختلفوا وتصارعوا بل وتصادموا أحيانا، لكنهم لم يختلفوا أبدا على سوء المعاملة والبعد عن المجاملة، فالغرب قد حل ضيفا ثقيلا على القارة أولا، وحين قضى منها وطرا جاء العملاق الصيني الذي دخل أفريقيا بقوة ليصارع الأوروبيين فيها وعليها، ويبدو أنه مسلح بفهم أمثل للعقل الإفريقي في بُنيته الجديدة.

لذلك تسارعت وتيرة الاستثمار والعمل المشترك بين القارتين، حتى انتقلت في غضون عشر سنوات فقط من 10 مليارات من الدولار إلى أزيد من 200 مليار دولار، بل إن بعض الدراسات تحدثت عن مستوى من التعاون بموجبه بلغت نسبة الاستثمار الصيني 30% من مجمل تكاليف منشآت البنية التحتية الأفريقية، وطبعا ليس هذا من أجل عيون الأفارقة، بل إن الصين تسعى من خلاله إلى كسب المزيد من تدفق المواد الأولية الأفريقية.

الميناء الصيني العملاق في “مومباسا” بكينيا ذو الكلفة الباهظة

 

قطار أفريقيا.. الطعم الصيني يفتح شهية الأفارقة

أنجزت الصين في الكثير من الدول الأفريقية منشآت ومشاريع متنوعة عكست مستوى الشراكة بين القارتين، ففي كينيا مثلا لا تخطئ العين رؤية الشواهد الماثلة والدالة على مستوى الشراكة بين البلدين وقابليتها للتطور والازدياد، فمن الميناء العملاق في “مومباسا” ذي الكلفة الباهظة إلى مشروع السكة الحديدية العملاق الرابط بين عدة عواصم أفريقية، وقد تولت الصين كافة تكاليفه كتعبير عن حجم الصداقة ومستوى الطموح لترسيخها، ولعل من فضول القول التنبيه إلى أن توثيق هذه العلاقة يدل بمعنى ما على تراجع النفوذ الأوروبي بأفريقيا وتقليص وجوده، خاصة إذا أضيف إليه ما بات قادة بعض الدول الأفريقية يفصحون عنه بين الفينة والأخرى من تذمر من سياسات الدول الأوروبية ورفض مطلق لوصايتها، وفي مقابل ذلك ترحيب هؤلاء القادة بانفتاح الصين وعدم فرضها لسياساتها وأجنداتها الخاصة مقابل التعاون.

الصين إذن تبذل الكثير ولا تُملي الشروط، والغرب يسعى إلى فرض نموذجه الديمقراطي وسياساته، وينظر بعقلية السيد لا فلسفة الشريك، ولا يعني هذا بتاتا أن الصين لا تتدخل في أمور السياسة، بقدر ما يعني أنها حين تتدخل -كما فعلت في كينيا- فإنها تلقي بثقلها لحماية مصالحها ودعم الاتجاه الذي يضمن استمرارية تلك المصالح، وهذا ما تأخذه على الصين بعض القوى المعارضة في أفريقيا وتعتبره غضا للطرف عن تجاوزات خطيرة من طرف الحكام، مما يطرح أسئلة كبيرة تتعلق بواقع حقوق الإنسان ومحاربة الفساد في دول ازداد النفوذ الصيني فيها كجنوب السودان وأنغولا على سبيل المثال.

الصين تساند الحكومات الإفريقية ضد حقوق شعوبها مقابل استمرار مصالحها مع هذه الحكومات

 

نقيق الضفادع.. سياسات التوسع وتضارب المصالح

تتذرع الصين حين تُتهم بالتغاضي عن الجرائم والتجاوزات التي يرتكبها حلفاؤها من الأفارقة، تتذرع بأنها لن تتدخل في القضايا الداخلية للدول الصديقة لها، وأن ذلك قناعة راسخة لديها تجعلها ترفض بشدة تدخل الآخرين في سياساتها الداخلية، وترى الصين أنها تشترك مع الأفارقة في الكثير من القواسم كالخضوع للاستعمار والمعاناة المريرة تحت نير قبضته الغاشمة، مما يجعلها أكثر إحساسا بواقع الأفارقة، وأكثر قدرة على ملامسته وتغييره.

أما الأوروبيون فيكابرون كثيرا ولا يتقبلون ما يصفهم به الأفارقة من صلف وعنجهية في التعامل، ويسعون إلى المحافظة على ما تبقى لهم من مصالح في أفريقيا رغم شعورهم بتزايد النفوذ الصيني، بل إن البريطانيين ما زالوا يرون أن شراكتهم التجارية مع أفريقيا ما تزال بخير، وأن شركاتهم العملاقة تشكل مصدرا كبيرا من مصادر تشغيل اليد العاملة في كينيا على سبيل المثال، بل إنها هي ثاني أكبر مشغل لهذه اليد، ولا يتقبل المسؤولون البريطانيون أنهم في صراع مع الصين من أجل الاستحواذ على القارة السمراء، إنهم يتظاهرون بأن طموح الصين للنفاذ إلى القارة الإفريقية طموح مشروع وأن العالم بات عالم أقطاب متعددة ، وما عاد لسياسة القطب الواحد من معنى ولا وجود.

غير أن الشباب الأفريقي بات أكثر إحساسا بمرارة واقع القارة وتطلعا لما يدفع عجلة النمو والتقدم فيها، فقد وعى ذلك تماما، لأن صراع الكبار هو من أجل مصالحهم لا من أجل مصالح القارة؛ لذا فيلزم قادة القارة أن يغلّبوا مصالحها وتكون البوصلة الموجِّهة لسياساتهم هي تلك المصلحة، إنهم يدركون جيدا أن “نقيق الضفادع لا يمنع الفيلة من الشرب” كما يقول مثلهم الشعبي، لكن ذلك لا يثنيهم عن التعبير عن امتعاضهم من سياسات حكوماتهم بارتمائها في أحضان من يسمونهم الأغراب.

يتفق الكينيون بأن مصالح بلدهم هي الأولى بالاهتمام عند توقيع الاتفاقيات مع الشرق أو الغرب

 

إذا اتحد القطيع نام الأسد جائعا

شعور المثقفين الأفارقة بالتخلف والظلم مرير جدا، وأمر منه الرضوخ لحكومات يرونها لا تفقه في الحكم الرشيد، إنهم يدركون ثراء قارتهم ويستشعرون إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة، لكنهم يدركون في الوقت ذاته أن السبب في عدم انعكاس إمكاناتهم الاقتصادية والبشرية على واقعهم الحياتي هو فساد أنظمتهم بالدرجة الأولى.

لقد اتبعت الدول الأوروبية في أفريقيا إبان مرحلة الاستعمار سياسة تعتمد على مبدأ فرق تسد، فقطّعت الجسد الإفريقي إربا إربا، ثم قطّعت المُقطع وجزأت المُجزأ إمعانا منها في كسر الشوكة وكسب الرهان، إنها تدرك جيدا أن لدى الأفارقة حكمة تقول “إذا اتحد القطيع نام الأسد جائعا”؛ لذا يجب أن يبقي الأفارقة مشتتين، لقد استولت أوروبا على المقدرات ونهبت الثروات، وتاجرت بالبشر ثم لما قررت الانسحاب ربطت الاقتصادات بها وخلّفت نُخبا ذات ولاء لها لا يموت.

جمعية “طلاب غانيون” تجبر الحكومة بانتزاع أفضل الحقوق في الاتفاقيات الدولية لشعبها

 

عراك الفيَلة.. لن يتضرر عشب قارتنا بعد اليوم

“غانا” التي طالما اختطف منها الأوروبيون العبيد، تعافت من وجع الاستعمار وبدأت تخطو واثقة نحو النماء، فلقد كانت من أوائل الدول الأفريقية التي ربطتها تبادلات تجارية بأوروبا، كما كانت أيضا من أوائل الدول الأفريقية التي نالت شرف الاستقلال، لكن الأهم من كل ذلك أنها اليوم من أوائل الدول الأفريقية التي قطعت دابر الفساد وأسست لحكم رشيد مستبصر.

ويبدو أن “غانا” تعتمد كثيرا في بناء نهضتها على العملاق الصيني، فحجم تبادلها التجاري مع الصين أكبر من حجم تبادلها التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية. إن مستوى الوعي في غانا كبير، وإن الحراك الشبابي فيها ينطلق من مبدأ أن الحكومات لا تبذل كل ما في وسعها من أجل أن تكون اتفاقياتها الخارجية في مصلحة الوطن والمواطن، وهذا الشباب متذمر جدا من أي علاقات خارجية لا تقوم على مبدأ الندية والمساواة وترجيح مصلحة غانا أولا، بل إن حكام غانا هم الآخرون باتوا على وعي تام بضرورة مراجعة النظام الاقتصادي وعلاج اختلالاته.

“بوتسوانا” أغنى دول إفريقيا بالألماس.. وإحدى أكثر دول أفريقيا ازدهارا

 

الألماس.. سلعة بوستوانية

بلد أفريقي آخر غازل الرقي واهتدى إلى مفاتيح النماء، فأسس لديمقراطية حقة، وحقق معنى ما يعرف بالحكم الرشيد، إنه “بوتسوانا” التي حباها الله ثروة معدنية نادرة؛ فقد اكتشفت الماس مبكرا ثم أحسنت استغلاله، لكن المعدن الأغلى والأنفس لدى هذا البلد ليس الماس بل هو البشر، فـ”البوتسوانيون” آمنوا ببلدهم وسعوا لرقيّه وتحقيق العدالة بين أبنائه فكان لهم ذلك وأكثر.

ما يمكن الخروج به من استعراض واقع أفريقيا خاصة في علاقتها التليدة مع الغرب والحديثة مع الشرق أن شعوبها لم تعد تقبل أن يتعارك الفيلة على أديمهم فيتضرر عشب قارتهم المسكين.