الطيب صالح.. عبقري الرواية الذي خلد اسمه في رفوف الأدب العربي

في إحدى صباحات 2009 ألقى الطيب صالح عصا الترحال وهو على مشارف الثمانين، بعد سفر شاق بين المداد والحروف، وعاد إلى الجنوب بعد أنهى مع الحياة مراسيم “موسم الهجرة إلى الشمال”.

في يوم 12يوليو/تموز 1929، أبصر الطيب محمد صالح أحمد الحياة الدافقة كأمواج النيل الأزرق في قرية كرمكول بإقليم مروي، حيث تتدفق السيول وتكتب أمواجها المتعرجة قصة سكان الضفاف وأبناء “الخلاوي” والكتاتيب القرآنية، وحيث كانت ديار قبيلته الركابية التي تنتهي أصولها إلى العترة الهاشمية الشريفة.

وبين النهاية والبداية عبر الطيب صالح على ضفاف السنين وضفائر الرواية العربية أمواج الحياة، ليكون بذلك عبقري الرواية العربية، والقلم الأسمر في فضاء التدوين الروائي طيلة خمسين سنة أو تزيد.

درس الطيب في كرمكول قبل أن يغادرها في خمسينيات القرن الماضي إلى الخرطوم حيث حصل على البكالوريوس في العلوم، لينتقل في منحة دراسية إلى بريطانيا، ومن بريطانيا غير وجهته التعليمية، وانتقل إلى دراسة الشؤون السياسية والتعمق في الفلسفات المتعددة حول الحكم وتدبير الشأن العام.

وفي بريطانيا أيضا بدأ الرجل رحلة أخرى نحو الشمال فكرا وثقافة، دون أن يفقد حقيبة أشيائه الصغيرة التي حملها من غبار كرمكول، وظلت تلح بنفسها عليه، وتظهر في أكثر من وجنة محمرة أو شفاه براقة في عاصمة الضباب.

كانت تلك أسئلة الحضارة وأزمات غير المألوف، تتلون كل حين وتظهر بين السطور وفي عباءات المعاني الواسعة والعميقة والمكورة مثل عمائم السودانيين وعباءاتهم البيضاء المفتوحة الأيدي إلى آفاق متعددة من الإبداع والقلق الثقافي والانتظار.

بي بي سي.. موسم الهجرة إلى الغرب

بدأ الطيب صالح حياته المهنية في إدارة مدرسة عمومية، لكنه سرعان ما هجر رتابتها إلى الإعلام، فعمل في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي عدة سنوات، وترقى فيها حتى وصل إلى مدير قسم الدراما في هذه الإذاعة العالمية التي ظلت لعقود صوتا أساسيا من أصوات العرب المهاجرة، ونافذة للوعي تطل على المستمعين ببرنامج “قول على قول” قبل الظهيرة وأثناءها.

استقال الطيب صالح من هيئة الإذاعة البريطانية، وعاد إلى بلاده في سبعينيات القرن المنصرم ليعمل في الإذاعة السودانية، وليسجل نقلة نوعية في أداء صوت السودان، قبل أن يغادر بسرعة باتجاه قطر التي أقام فيها لفترة وعمل في وزارة الإعلام وكيلا مشرفا على أجهزتها.

وفي تلك الأثناء كانت شهرة الأديب الأسمر قد أخذت تحلق في الآفاق، وخطت له سمعة ثقافية متموجة الظلال آسرة القسمات، ولذلك التحق بمنظمة اليونسكو التي اختارته مديرا إقليميا لها في الخليج العربي بين عامي 1984 و1989، وحط الرحال مرة أخرى في الدوحة ملقيا عصا التسيار بين ضفاف الخليج، ليطل من قريب على السودان ويرمق المتغيرات الاجتماعية الهادرة التي تموج بها المجتمعات العربية، فقد كانت جميعها حينئذ في مرحلة تحولات عميقة.

مصطفى سعيد.. انتقام النهود في بلاد المحتل

يكشف مصطفى سعيد وهو بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” تفاصيل الغربة الثقافية والفكرية التي عاشها مثقفو حقبة الخمسينيات وما بعدها، بين مجتمع لم ينتموا إليه، رغم أنهم نهلوا من ثقافته العصرية ولبسوا معطفه الغربي، وتنعموا بكثير من قيمه ورفاهيته الفكرية والمادية، وبين مجتمع آخر لم يعودوا منتمين إليه، رغم أن جذورهم نبتت من حصبائه وسقيت من أحواضه وعرقه.

فهم ينظرون إلى المجتمع الأول على أنه المستعمر الغازي الذي يحتكر الثقافة والرقي، ولا يريدها أن تنتقل إلى العالم الذي ليس أكثر من عالم ماضوي سحيق.

يتزامن مولد مصطفى سعيد مع دخول الاستعمار لبلاده، ويخرج بعد أن نال قسطا من التعليم، ليغادر إلى الغرب غازيا من نوع آخر، لقد وجد في أجساد النساء الأوروبيات خريطة ثأر واسع، فعاش رحلة انتقام جنسي بين النهود.

كان الخروج عن المألوف يضج بقوة بين سطور الرواية التي اعتبرت لعقود فاتحة الجرأة، ومفتاح النقاش العنيف حول مفاهيم الهوية وتشكيلات القضايا الفكرية عند أجيال ما بعد الاستعمار.

تنقل الرواية القارئ في سردياتها الطافحة، وغلالتها الشعرية الشفافة بين مدن تنهار واحدة بعد أخرى تحت سطوة الغازي القادم من الجنوب محملا بحنق التاريخ ومظالم الأرض المنهوبة والجوع الذي يزخرف ملامح الوجوه هنالك.

ولم تكن هذه المدن المتساقطة غير سلاسل من النساء عبرت أجسادهن ثورة الانتقام في رحلة طويلة، كانت كل واحدة منهن تسلمه إلى الأخرى.

“موسم الهجرة إلى الشمال”.. أشهر روايات الطيب صالح

“كأننا تعارفنا منذ قرون”.. بقايا من رائحة الأندلس

في مقطع من الرواية، تقفز إلى الواجهة الأندلس ذلك الفردوس الذي اغتصبه الإسبان قبل قرون خمسة، وضجت تلك القرون ولكن ليس على طريقة نزار بل من خلال وثبة أخرى من وثبات الانتقام الجنسي، حيث يقول في الرواية:

“فأمسَكَت يدي وقالت لي: هل تدري أن أمي إسبانية، هذا إذن يفسر كل شيء، يفسر لقاءنا صدفة، وتفاهمنا تلقائيا، كأننا تعارفنا منذ قرون، لا بد أن جدي كان جنديا في جيش طارق بن زياد، ولا بد أنه قابل جدتك وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية، ولا بد أنه أحبها من أول نظرة وهي أيضا أحبته، وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا وهناك تزوج وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا، وخرجت أنت من سلالته في إسبانيا، وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا، مثلي في هذه اللحظة، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور، ظمأ جنوبي تبدد في شعاب التاريخ في الشمال، إنما أنا لا أطلب المجد فمثلي لا يطلب المجد”.

“لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة”.. مأساوية النهاية

تتعانق في الرواية شعرية السرد، وتقنية الحوار بدرجة أقل، وقد كان الراوي مسيطرا على أعناق الحروف والكلمات يرسمها حتى النهاية المؤلمة في قبر مجهول لا يعرف صاحبه.

ولم تكن تلك النهاية إلا رمزية جريئة لهموم جيل ما بعد الاستعمار الذي رحل إلى الغرب، محملا بكل حنق الشعوب المغلوبة، دون أن يحقق في النهاية أي نصر ذي بال ولا مكسب حضاري متميز.

ويختصر المشهد الختامي في الرواية تلك الرحلة العامرة بالعقبات والندوب والهوى المتموج، حينما يتحدث البطل في مونولوج ما قبل النهاية قائلا:

“ومضيت أسبح وأسبح وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف، كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط، والأصوات تنقطع كلية ثم تضج، وقليلا قليلا لم أعد أسمع سوى دوي النهر، ثم أصبحت كأنني في بهو واسع تتجاوب أصداؤه. الشاطئ يعلو ويهبط ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي نصف دائرة ثم أصبحت بين العمى والبصر، كنت أعي ولا أعي، هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ ومع ذلك كنت ما أزال ممسكا بخيط وَهَن حتى كاد ينقطع، ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها.. وفجأة، وبقوة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء. تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة. كنت أريد أن أبقى طافيا على السطح، وكنت أحس بقوى النهر الهدامة تشدني إلى أسفل، وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ. إن عاجلا أو آجلا ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابا من طيور القطا متجهة شمالا. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟”.

“دومة ود حامد” هي قصة تعلق إحدى القرى بضريح “ولي صالح” يسمونه دومة ود حامد

“دومة ود حامد”.. شجرة الخرافة الرمزية تمنع وصول الباخرة

بعد 11 سنة من رحيله لا يزال الطيب صالح حاضرا باسمه وتاريخه ومداده الدفاق، ولا يظهر أن السودان في مختلف أزماته وسيره ككرة من العشب الندي تتقاذفها أقدام “اليمين” الإسلامي و”اليسار” الليبرالي إلا رحلة من رحلات موسم الشمال.

وتظهر كل العقبات التي تعترض طريق أرض العمائم البيضاء والرجال السمر النبلاء أن “دومة ود حامد” لا تزال منتصبة في الطريق، ولا يمكن أن تشقها طرائق الحداثة ومشاريع التنمية إلا بشق الأنفس وعذابات السنين.

تحكي دومة ود حامد قصة تعلق إحدى القرى بضريح “ولي صالح” يسمونه دومة ود حامد، يؤمنون بكراماته ويزورونه باستمرار، وهي نص روائي سردي جميل، يصف سطوة الأسطورة وهيمنتها ووقوفها في وجه تيار الحداثة والحياة الجارف، حيث تقف دومة ود حامد بظلالها الوارفة، وعروقها الممتدة في النفوس والأرواح أكثر من امتدادها في عمق الصحراء، لتظل حاجزا يحوم حوله الناس يذبحون ويتقربون، لكنهم يذبحون بكل سكاكين التخدير مستقبلهم.

ويصف مقطع من الرواية كيف وقفت تلك الدومة في وجه سفينة الحداثة: “في أول العهد الوطني جاءنا موظف في الحكومة، وقال لنا إن الحكومة تنوي أن تنشئ محطة تقف عندها الباخرة، وقال لنا إن الحكومة الوطنية تحب أن تساعدنا وتطورنا، وكان متحمسا يتحدث ووجهه متهلل. ونظر فإذا الوجوه التي حوله لا تستجيب لشيء مما يقول. نحن يا بني لا نسافر كثيرا.

ولكننا إذا أردنا السفر لأمر هام، كتسجيل أرض، أو النظر في قضية طلاق، فإننا نركب حميرنا ضحى كاملة.. ثم نأخذ الباخرة من المحطة في البلدة المجاورة.. لقد اعتدنا يا بني على ذلك، بل نحن من أجل هذا نريد الحمير. فلا غرو أن الموظف لم يجد على وجوه القوم ما يدل أنهم سعدوا للنبأ.

وفتر حماس الموظف وأسقط في يده، وتلعثم في كلامه. وبعد فترة من الصمت سأله أحدهم: “أين تكون المحطة؟” وقال الموظف: إنه لا يوجد غير مكان واحد يصلح للمحطة -عند الدومة- ولو أنك في تلك اللحظة جئت بامرأة وأوقفتها عارية كما ولدتها أمها وسط أولئك الرجال، لما أثرت دهشتهم أكثر مما فعلت تلك الجملة – سارع أحدهم وقال للموظف: الباخرة تمر عادة هنا يوم الأربعاء. فإذا عملتم محطة هنا فإنها ستقف عندنا عصر الأربعاء، فقال الموظف إن الموعد الذي سيحدد لوقوف الباخرة في محطتهم سيكون في الرابعة بعد الظهر من يوم الأربعاء – فرد عليه الرجل: “لكن هذا هو الوقت الذي نزور فيه ضريح ود حامد عند الدومة. ونأخذ نساءنا وأطفالنا، ونذبح نذورنا، نفعل ذلك كل أسبوع”.

فرد الموظف ضاحكا: “إذا غيروا يوم الزيارة”. ولو أن ذلك الموظف قال لأولئك الرجال في تلك اللحظة إن كلا منهم ابن حرام لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. فهبوا لتوهم هبة رجل واحد، وعصفوا بالرجل وكادوا يفتكون به، لولا أني تدخلت فانتزعته من براثنهم، وأركبته حمارا وقلت له انج بنفسك. وهكذا ظلت الباخرة لا تقف عندنا. وما نزال إذ اضطرنا الأمر وأردنا السفر، نركب حميرنا ضحى كاملا ونأخذ الباخرة من البلدة المجاورة، لكن حسبنا أننا نزور ضريح ود حامد ومعنا نساؤنا وأطفالنا، نذبح نذورنا كل يوم أربعاء، كما فعل آباؤنا وآباء آبائنا من قبل”.

عمل الطيب صالح مذيعا في هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي ثم عاد إلى السودان ليعمل في الإذاعة السودانية

“أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة”.. موت القلم الأسمر

لم يجفّ قلم الطيب صالح، حتى جفت حركة الروح في جسده، فقد ظل القلم رفيقه إلى آخر لحظة، وجاءت تجربته الروائية والسردية حافلة بكثير من النصوص المهمة من بينها: “عرس الزين”، و”مريود”، و”ضو البيت”، و”نخلة على الجدول”، و”دومة ود حامد”.

ولكن رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” خطفت الأضواء من كل أعماله الأدبية، واعتبرت من بين أفضل مائة رواية في العالم، وترجمت إلى أكثر من 20 لغة، وحصلت على كثير من الجوائز.

وقد ظلت أعمال الطيب صالح ولا تزال على موعد دائم مع دراسات أدبية ونقدية، تناولت مختلف الأنساق والسياقات الأدبية والاجتماعية في التراث الروائي عند الأديب الأسمر.

في 18 فبراير/شباط 2009 أوقفت أصابع الموت عداد السير عند الطيب الصالح على مشارف الثمانين، دون أن يقضي نهمه من الحياة، ودون أن يبوح لها بمكنون مداده الدفاق، ودون أن يأخذ منها بثأر المطحونين تحت نواجذ الأيام والقيم والثقافات.

هكذا كانت رحلته -كما حدث عن نفسه-: إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملا واضحة بخط جريء.

وقد كان كذلك.