“العلامة والوشم”.. تلاقح الثقافات في لقاء السيميائية الفرنسية بالوشم المغربي

خاص-الوثائقية

ليست اللغات الصوتية وحدها هي ما يجمع بني البشر من أصقاع الأرض المختلفة، فإن للجسد لغاتٍ وأصواتا أخرى يجتمع عليها أصناف من البشر دون الآخرين، يتخاطبون بالإشارة والعلامة والوشم، ويتفاهمون بالموسيقى والألوان، وتأتلف قلوبهم وأرواحهم على ظواهر طبيعية أو معتقدات خارج حدود الكون.

كان من بين هؤلاء السيميائي والفيلسوف الفرنسي “رولان بارت” وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي اللذان التقيا على لغة العلامات والوشم والدلالات، ونشأت بينهما علاقة تجاوزت الحدود وسطّرت أروع الأمثلة على إمكانية التلاقي على أرضيات مشتركة مهما اتسعت الخلافات.

وفي إطار رصدها لحالة الحوار الثقافي بين الشرق والغرب، قدمت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان: “العلامة والوشم”، ضمن سلسلة وثائقية تحمل عنوان “جسور التواصل”، وسجلت فيه القواسم المشتركة بين الأستاذ وتلميذه، بين فيلسوف باريس “رولان بارت” وابن مدينة الجديدة المغربية عبد الكبير الخطيبي.

 

“أراه يأخذني بعيدا عن ذاتي إلى أرضه هو”.. سحر الشرق

“إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور والأدلة والآثار، وبالحروف والعلامات، وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي شيئا جديدا، يخلخل معرفتي، لأنه يغير هذه الأشكال، كما أراه يأخذني بعيدا عن ذاتي إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الآخر من نفسي”.

هكذا يصف المنظِّر الأدبي والسيميائي الكبير “رولان بارت” علاقته بعالِم الاجتماع والأديب المغربي الكبير عبد الكبير الخطيبي، في مقدمة كتبها لأحد كتب الخطيبي، ويعنونها بتلك المقولة الدالَّة: “ما أدين به للخطيبي”، ويلخص فيها “بارت” ما يمكن أن ندركه فورا عن القيمة الكبيرة التي يشغلها الخطيبي في الثقافة العربية، وما يمكن أن يمثله كذلك كجسر ثقافي مهم بين عالمي الثقافة الشرقية والغربية.

بهذا النص الذي كتبه كمقدمة لكتاب الخطيبي “الذاكرة الموشومة” (1979) يعترف “رولان بارت” ضمنيا بأنه وجد في الخطيبي مُحاورا من الضفة الأخرى، وتظهر النقطة الأولى التي يركز عليها في المقدمة بقوله: “أهتم والخطيبي بنفس الأشياء، بالعلامات والآثار والأطر”، فهناك تقاطع من حيث الاهتمام والموضوعات، ثم تحدث في اتجاه مغاير قائلا: “الخطيبي له مجاله الخاص”.

“رولان بارت” يؤكد اشتراكه مع الخطيبي بأشياء متطابقة

 

“بلور النص”.. تقدير متبادل لرجلين متشابهين

يقول “كلود كوست”، أستاذ الأدب الفرنسي والفرنكفوني متحدثا عن مقدمة “رولان بارت” لكتاب “الذاكرة الموشومة”: مقدمة قصيرة لكنها مؤثرة وصادقة، يثمن “بارت” القدرة لدى الخطيبي في السماح للفرنسي بسماع لغته الخاصة، لكن بطريقة مختلفة تماما، إعادة اكتشاف لغته عبر نظرة أجنبي، هذا ما أثار اهتمام “بارت”.

أما عبد الغني فنان أستاذ الآداب بجامعة القاضي عياض، فوصفها بقوله: هذا النص يمثل ما سماه عبد الكبير الخطيبي “بلّوْر النص”، كل مفردة موضوعة بدقة وشفافية متناهية تبرز فيها قدرة “بارت” على نفاده إلى عمق كتابة وفكر الخطيبي.

ذلك التقدير الكبير الذي عبر عنه المُنَظِّر الفرنسي تجاه الخطيبي مرارا وتكرارا بشكل مكتوب أحيانا، وعن طريق الصلة المباشرة بين الرجلين في أحيان أخرى، وفي ظروف متنوعة؛ يقابله على الجانب الآخر تثمين كبير من جانب الخطيبي، في تلك الأقدار التي وضعت مفكرا عالميا مثل “رولان بارت” في طريق ذلك الشاب المغربي، ابن المدينة الصغيرة والبعيدة عن المركز الثقافي في مدن المغرب الكبيرة.

عالِم الاجتماع والأديب المغربي الكبير عبد الكبير الخطيبي

 

“كان هالة فكرية رافقتني حتى آخر محطة في حياتي”

وبينما يصف الخطيبي “رولان بارت” بأنه “كان هالة فكرية رافقتني حتى آخر محطة في حياتي”، فإن من الممكن اعتبار أن الخطيبي بما قدمه -على مدار عمره الممتد- بمثابة هالة نور أطلت على الثقافة المغربية والعربية من مدينة الجديدة، في تلك المدينة الصغيرة المطلة على ساحل المحيط الأطلسي.

في ليلة العيد الكبير ولد لعائلة تدعى الخطيبي طفل، فسماه عمه “عبد الكبير” تيمنا بوقت الولادة، ليبدأ في مدينة الجديدة تكوين ذلك الطفل الذي سيحظى بتلك السيرة المقدَّرة التي سيمتد تقديرها ليس فقط خارج المدينة، ولكنه سيعبر البحر والمحيط إلى خارج المغرب كله.

عبد الكبير الخطيبي هو من مواليد 12/2/1938، في طفولته لم يرد أن يكمل الدراسة في الكُتّاب القرآني، فاضطر أبوه لنقله إلى الفرنسية الإسلامية، وهناك تابع دراسته الابتدائية، ثم انتقل إلى مراكش ليتابع دراسته الإعدادية، حيث تفتح وعيه على مدينة أكبر وتقاليد مختلفة.

كان “رولان بارت” أحد مناقشي رسالة الدكتوراه التي قدمها الخطيبي في جامعة السوربون

 

أطروحة الدكتوراه.. صدفة اللقاء الثاني في أروقة السوربون

انتقل الخطيبي إلى الدار البيضاء ليتابع دراسته الثانوية، وأمضى ما قبل فترة الجامعة سياحة داخلية في مدن وتقاليد المغرب المختلفة، وفي ثانوية “ليوطي” بالدار البيضاء كان أول تعارف بين الخطيبي و”بارت” حتى قبل أن يلتقيا، في ما يمكن تسميته الصدفة الموضوعية، فقد قرئ أحد نصوصه “كتاب درجة الصفر”، بواسطة أحد أساتذته الفرنسيين في الثانوية، واسمه “ميشيل”.

في عام 1959 سافر الخطيبي إلى باريس، والتحق بجامعة السوربون لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع، حين كانت باريس في أزهى عصورها كعاصمة روحية للفن والثقافة العالمية، ولم يزل ينهل الخطيبي من العلم الباريسي طوال مساره للحصول على درجة الدكتوراه، حتى أنهاه بمناقشة أطروحته لنيل الدرجة العلمية عام 1965، ليكون موعد اللقاء الحقيقي الأول مع “رولان بارت”.

جاءت المحطة التالية لتكرس “الصدفة الموضوعية” في العلاقة بين “بارت” والخطيبي، حيث تشاء الأقدار أن يكون “رولان” أحد أعضاء لجنة المناقشة لأطروحة الخطيبي، ذلك الفيلسوف والناقد والمنظِّر الفرنسي الشهير الذي لم يكن ارتباطه بالعالم العربي مجرد صدفةِ لقاء الخطيبي، ولكن كانت علاقته بالثقافة والفكر العربي أعمق من ذلك بكثير.

عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي يلتقي بـ”رولان بارت” على لغة العلامات والوشم والدلالات

 

تغلغل الثقافة الفرنسية في المحيط العربي.. واقع المستعمرات

عاش “بارت” في الإسكندرية بين 1949-1950، ولم يكن اهتمامه بمصر كبيرا، بل كان مثل بقية الأوروبيين مهتما بالحضارة الفرعونية القديمة، لكن اهتمامه بالثقافة العربية تبلور عندما زار المغرب ومكث فيها وكتب عنها، زارها سائحا وأكاديميا، حيث كان يدَرِّس في جامعة الملك محمد الخامس في فترة الستينيات.

يقول أستاذ الأدب الفرنسي والفرنكفوني “كلود كوست”، في وصف العلاقة المعقدة بين “رولان” والمغرب: لقد فرض واقع العلاقة بين فرنسا والمغرب العربي نفسه على نظرة “بارت” إلى المغرب، فقد كان ينظر للشيء ونفسه، في إطار التشابه والاختلاف، ولكن من زاويتين مختلفتين، يجب أن نقولها صراحة؛ كانت فرنسا بلدا مستعمرا، والمغرب جزء من هذه المستعمَرات.

ويتابع: اللغة الفرنسية شائعة هناك، فوجود “بارت” في ذلك المكان يكون في وضع التشابه، ولكنه اختلاف في نفس الوقت، فهو غريب في مكان آخر، هذا هو الشيء الذي أثار اهتمام “بارت”. أنا هنا لا أدافع عن الاستعمار ولا أحاول تجميله، ولكنني أقرر واقعا.

انحاز “بارت” إلى اليسار لمناهضة الاستعمار، وكانت تربطه بالمغرب علاقة عاطفة عميقة

 

معين السحر الأسطوري.. نظرة الغرب الثقافي إلى الشرق

بصفة عامة كانت العلاقة بين الشرق والغرب في الفترة التي ارتبط فيها “بارت” بالشرق -منذ بداية الخمسينات وحتى نهاية السبعينات تقريبا-؛ علاقة معقدة إلى حد كبير في مختلف المستويات، فلم يعد الغرب ذلك المستعمر الذي يحتل الأرض ويستغل خيراتها، ولكن النفوس الشرقية ما زالت تختزن الكثير من الذكريات المرّة عن هذا المحتلّ، والمهيأة في أي لحظة للانفجار من جديد.

في المقابل كان الغرب الثقافي والفني الجاف ينظر إلى الشرق كمعين لا ينضب من الحكايات الأسطورية، وسحر العادات والتقاليد ذات الطابع الرومانسي الخفي، لهذا انحاز “بارت” إلى اليسار لمناهضة الاستعمار، وكانت تربطه بالمغرب علاقة عاطفة عميقة، ولكنه لم يشعر بذنب ما بعد الاستعمار، فعلاقته بالمغرب والخطيبي كانت تبدو كما لو أن لهما تاريخا مشتركا، وليست علاقة مستعمر بمحتل.

كان ولع “رولان بارت” بالثقافة المختلفة عموما، وبالمغربية خصوصا، هو المبرر لقبول وظيفة الأستاذية في جامعة محمد الخامس، بيد أنه ليس مبررا كافيا لارتباط الأستاذ الفرنسي الكبير مع ذلك الأستاذ المغربي الأصغر سنا، والذي كان إلى حد قريب تلميذا عنده. لكن يبدو أن المغربي الذي كان في بداية حياته العلمية، يخطو أولى خطوات مساره الثقافي، كان لديه ما يجعله مؤهلا لذلك الارتباط المعرفي.

كتب الخطيبي في أنواع الأدب ومجالات المعرفة والفكر؛ كرواية “الذاكرة الموشومة” و”كتاب الدم”

 

“كمن ينظر في مرآة مشوهة”.. تشابه النشأة والشخصية

ليس عبثا أن يلتقي الخطيبي و”رولان بارت”، فهناك نوع من الصحبة الفكرية، إذ كان “بارت” يرى نفسه على هامش المجتمع الغربي، فقد جاء من بلدة في جنوب غرب فرنسا لها خصوصيتها تدعى بايون، وهذا يشبه إلى حد كبير الوسط الهامشي الذي جاء منه الخطيبي، فكان لطبيعة النشأة المجتمعية أثر كبير على هذا الإرتباط الفكري.

لقد كان بين الاثنين تشابه نفسي ناتج عن طبيعة شخصيتيهما الميالتين للصمت والاستغراق في تأمل الوجود، وبحكم عملهما كباحثين؛ فقد يكون هذا عاملا آخر، ولكن السبب الأهم هو وعي هذين الكبيرين بما يمكن أن يقدم كل منهما للآخر على المستوى العلمي والثقافي.

كتب الخطيبي في عدد من أنواع الأدب ومجالات المعرفة والفكر؛ فكتب في الرواية “الذاكرة الموشومة” و”كتاب الدم”، وكتب في المسرح، وكتب في الدراسات النقدية “الاسم العربي الجريح”، وهو عبارة عن حوارات نفسية مع والدته، وكتب في الشعر “المناضل الطبقي على الطريقة التاوية”، وفي مجالات أخرى كثيرة.

يقول رضا بولعبي، أستاذ الآداب في جامعة جرونبل بفرنسا: كان “رولان” يرى نفسه في الخطيبي، ولكن من زاوية أخرى، كمن ينظر في مرآة مشوهة، كان يسمع لغته الفرنسية بطريقة أخرى، ويمكن قول الشيء نفسه عن الخطيبي. كانت المقدمة التي أهداها “رولان” للخطيبي توحي بأنه كان مفتونا به، فكان يرى فيه صوت لغته القادمة من الجانب الآخر من البحر، وما كان سلبيا في العلاقة بين اللغات فترة الاستعمار أصبح اليوم ثروة حقيقية.

كان لـ”رولان بارت” تأثير كبير على الثقافة الفرنسية والثقافة الغربية عموما

 

تشابك خيوط السيميائية والثقافة الشعبية.. ظل التأثير المتبادل

يطل عمق الثقافة المغربية مرة أخرى على العلاقة بين الرجلين، فالاستخدام المغربي الخاص للغة الفرنسية -كما يكتبها الخطيبي- ليست إلا انعكاسا لجذور الثقافة المغربية وانعكاساتها في الحياة اليومية للمغاربة، تلك التفاصيل التي لفتت نظر “بارت”، ليس من خلال إقامته في المغرب فقط، ولكن من خلال كتابات الخطيبي من قبل ومن بعد.

افتتن “بارت” بالمغرب وبالخطيبي كذلك، من خلال الثقافة الشعبية الأصيلة التي تتوارثها ذاكرة المجتمع منذ القدم، ولا تزال حية حتى اليوم، فالخطيبي أيقظه من سباته الشعبي، بمعنى أن الفرنسيين لم يهتموا بذاكرتهم الثقافية الشعبية، كما فعل الخطيبي بالنسبة للثقافة العربية والإسلامية الشعبية التي حافظ عليها من خلال نقدها نقدا بناء ومزدوجا ومحايدا، دون موالاة أو معاداة.

لم يكن التأثير الذي تركه الخطيبي في “رولان بارت” تأثيرا ذا اتجاه واحد، بل إن “بارت” الذي كان له تأثير كبير على الثقافة الفرنسية والثقافة الغربية عموما، كان له عميق الأثر أيضا على الخطيبي الذي بدأ حياته العلمية كعالِم اجتماع تقليدي، قبل أن يقوده تأثره بالسيميائية وعلم الدلالات -الذي برع فيه “بارت”- إلى مفكر اجتماعي من نوع خاص، يثري الثقافة العربية والشرقية بأبحاثه في الثقافة المغربية الشعبية في فروعها المتعددة.

ورغم تكوينه في علم الاجتماع، فإن الخطيبي استفاد كثيرا من سيميائيات “بارت”، وأعانته كثيرا في اقتحام المهمش في ثقافتنا الشعبية، وفي تناول مواضيع لم يتطرق إليها باحثون من قبل.

عرض “بارت” على الخطيبي فكرة مؤلَّف مشترك عن “اللباس المغربي” لكنه مات قبل أن يحقق حلمه

 

خطة الاجتماع على غلاف واحد.. مشروع لم ير النور

في رواية “الذاكرة الموشومة” نجد أثر “رولان بارت” على كتابات الخطيبي، عن طريق الوشم والعلامة وعلاقة الجسد بالكتابة، وتشكيل السيرة الذاتية، وقد تكرس هذا التفاعل في النصوص التي جاءت من بعد، ونذكر منها “كتاب الدم” و”صورة الأجنبي في الأدب الفرنسي”، حيث تناول الخطيبي موضوع الأدب الفرنسي وكيف صَوَّر الأجنبي، ويمكن اعتبار هذا الكتاب تفاعلا مع أفكار “رولان بارت” في كتابه “درجة الصفر”، ففي هذا النص سعى “بارت” إلى إعادة كتابة الأدب الفرنسي من منطلق الطفرات التي طرأت على هذا الأدب.

عاش “بارت” في المغرب لفترة من الزمن، وعاش الخطيبي فترة مماثلة في فرنسا، وكانا متقاربين على الدوام ويهتمان بنفس الموضوعات، ويبحثان في أرض مشتركة، وما من عمل مشترك جمع اسميهما معا على غلاف كتاب، لكنها تجربة كانت لتكون حقا فريدة من نوعها، وجسرا حقيقيا للتعاون بين عالمي الثقافة الغربية والشرقية.

كان “بارت” قد عرض على الخطيبي فكرة الاشتغال على مؤلَّف مشترك موضوعه “اللباس المغربي”، ولكن الخطيبي لم يستجب لهذه الدعوة لأنه كان منخرطا في إتمام روايته الأولى، إلا أن اللقاءات استمرت بينهما لفترة طويلة حتى بعد أن عاد “بارت” إلى فرنسا، لكن القدر لم يمهلهما لاتخاذ الخطوة الأولى في مشروعهما المشترك.

فقد تعرض “رولان بارت” لحادث سير أقعده شهرا، ثم أودى بحياته في مارس/آذار 1980، لتنهار على إثر وفاته مشاريع واعدة مع رفيقه الخطيبي، وواحد من أهم منظري الأدب، وأحد رواد علم الإشارات والدلالات الذين أثروا المكتبة العالمية خلال القرن العشرين.