العمر الرابع.. حين تصبح الشيخوخة مجرد رقم

خاص-الوثائقية

“اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” سورة الروم، الآية 54.

ستجد نفسك وأنت تقرأ هذه الآية ترددها لا إراديا، تمعن التفكير فيها تلقائيا، تسترجع شريط حياتك بأفراحه وأتراحه، تبتسم حينا وتغالب الدمع أحيانا، وكلما زاد عدّاد سنوات العمر كانت النظرة أثقب والتفكير أعمق، لكن شيطان تفاصيل الحياة اليومية سيحول بينك وبين الرجوع إلى الماضي أو التفكير في المستقبل، فضجيج الحاضر يخنق صوت الضمير الذي يصر على وخزك كلما اغتررت بقوتك ليذكرك بالضعف الذي هو جزء من دورة حياتك، فله يجب أن تستعد ومنه لا يمكن أن تهرب، فتلك هي سنة الله ولا مبدّل لسُننه.

 

حقيقة القوة بعد الضعف والضعف بعد القوة، يهرب منها الإنسان دائما رغم يقينه بأنها قدره المحتوم، لكنه يُشغل نفسه بجدول يومي مشحون، فيستمر في الانتقال بين مسؤوليات العمل وواجبات الأسرة، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وكلما راوده كابوس التقاعد عن نفسه قدّ ثوب التأمل بخنجر التسويف، لأن كثيرين يعتبرون التقاعد نهاية حياة وانطفاء شمعة عطاء، بدلا من اعتباره مرحلة طمأنينة وتفكر وانطلاقة جديدة لكل صاحب همة عالية.

“العمر الرابع” فيلم بثته “الجزيرة الوثائقية” يحكي قصص متقاعدين لم يستسلموا لشبح التقاعد واستمروا في زرع الأمل، وواصلوا رحلة العطاء.

عبد الوهاب الأمين امتهن الشعر والكتابة بعد تقاعده كطبيب أطفال

 

“حاول أن تكون شمعة تضيء ما حولها”.. همم لا تشيخ

يقال إن التعليم أفضل مؤونة للشيخوخة، لذلك استطاع عبد الوهاب أمين وهو طبيب أطفال متقاعد، أن يهرب من شبح الفراغ الذي حاصره بعد وفاة زوجته فتأقلم سريعا مع يوميات حياته الجديدة بعد التقاعد مستعينا بمخزون من الذكريات التي كوّنت بحلوها ومرها شخصيته وصقلت تجربته، ولأنه كان متصالحا مع نفسه مقتنعا بحقيقة وصول قطار حياته العملية يوما إلى محطة التقاعد.

بدأ عبد الوهاب يهيئ نفسه للتقاعد مبكرا بتطبيع العلاقة مع هواياته، فخلع معطف الطبيب وامتشق قلم الكاتب وبدأ رحلة عطاء جديدة تعكس همّة عالية لخصها في الجمل التالية: فاحمل بين جنبيك يا أخي رغبة في المعرفة لا تُحد، وشوقا لا يُطفأ، واستعمل عصاك السحرية للكشف والتنقيب، وليكن هدفك التقدم خطوة في سبيل الرقي، وإن لم تستطعها فحاول أن تكون شمعة تضيء ما حولها أو نسمة ترطب الجو أو حلقة جيدة في سلسلة الاستمرار، وليكن رائدك صدقا ومحبة، وحلمك أن تترك الحياة وهي في وضع أفضل مما كانت عليه يوم جئتها، وبهذا وحده تكمن السعادة.

ولأنه لا مفر من الانصياع للقوانين التي تفرض تناوب الأجيال على تحمل المسؤولية لا تكون هناك خيارات أمام الشخص الذي يصل عتبة التقاعد، ولن يشفع له بالتأكيد كونه ما زال كتلة من النشاط والحيوية، فالحياة العملية تنتهي غالبا في عمر الستين أو تزيد قليلا ولن يكون الاستسلام لليأس خيار العقلاء بالتأكيد.

لذلك حين وجدت السيدة فريال لاذقي نفسها تحال إلى التقاعد وهي في قمة نشاطها وحيويتها رفضت الجلوس في البيت والنظر إلى الجدران، فاستعادت هواية الرسم وبدأت رحلة جديدة مع الألوان، لذلك أصبح جدولها اليومي مشغولا تنتقل من لوحة إلى أخرى فتتراكم التجربة وتتطور الموهبة والأهم من كل ذلك أنها لم تبقَ أسيرة لذكريات ماضِ كان به من الوجع الكثير خصوصا بالنسبة لمن عاشوا مثلها ظروف حرب مدمرة.

عبد السلام سليمان من مزارع إلى عازف ناي محترف

 

هوايات المتقاعدين.. قُبلة حياة وإكسير نجاح

تكون فترة التقاعد فرصة لنفض الغبار عن الهوايات، فالفراغ قاتل إن لم يجد الإنسان ما يشغل به نفسه ويستثمر فيه وقته، لذلك يلجأ المتقاعدون بقرار ذاتي أو بتشجيع من العائلة أو الأصدقاء المقربين إلى ممارسة هواياتهم بشكل فردي أو في إطار جماعي يُتيح لهم فرص نسج علاقات صداقة جديدة تجعلهم أكثر قدرة على الانسجام مع الذات والتجاوب مع المحيط.

فعلى وقع الصوت الشجي المنبعث من ناي السيد عبد السلام سليمان المزارع المتقاعد الذي يقطر كلامه رضا وقناعة، تستمع إلى تلك الحكم التي تؤكد لك صدق المثل الذي يقول إن نصائح الشيخوخة مثل شمس الشتاء تُضيء دون أن تَحرق، فالسيد عبد السلام الذي عركته الحياة وكانت في بعض محطاتها قاسية عليه، وفي محطات أخرى غير سخية معه، فما زال يخرج من بيته كل صباح يعزف نايه ويكسب رزقه بالحلال وهو مطمئن مرتاح البال، فالإنسان عندما يمارس عملا يحبه ويُشعره بالحرية، يكون في مأمن من تسلل الملل إليه ويجد نفسه رغم تقدمه في السن يزداد حيوية ونشاطا وألقا، ولعل ذلك هو السر في تحول العميد المتقاعد أحمد العنيسي من ثكنات الجيش إلى قاعات المعارض حاملا فرشاة ألوانه التي رسمت لوحات تنبض بالحياة.

يقول العميد أحمد “إن الإنسان كلما فهم نفسه أكثر وأكثر، أصبح يحبها أكثر”، فالتقاعد يكون فرصة للمراجعة والتقييم وفي بعض الأحيان تكون هناك فرص للتقويم كذلك، فكثير من أخطاء الماضي يمكن أن تتضح للشخص أكثر حين ينظر إليها من زاوية مختلفة كان تحجبها عنها الحياة بمشاغلها وهمومها، كما أن هناك هوايات تُجبرنا الحياة أحيانا على أن نمتهن غيرها، لكن فرصة ممارستها غالبا ما تأتي مع التقاعد.

لذلك لم يتردد السيد عبد الوهاب برادة حين تقاعد وغادر مكتبه في إدارة أحد الفنادق في أن يُحيي شغفا يتجدد بالموسيقى فأخذ عوده وبدأ رحلة جديدة مع تحدٍّ جديد ولسان حاله يقول: الحياة أغنية فغنِّها، الحياة لعبة فالعبها، الحياة تحدٍّ فواجهه، الحياة حلمٌ فحاول تحقيقه، الحياة تضحية فتقدّم لها، الحياة هي الحب فاستمتع به.

السيدة فريال لاذقي رسامة بعد الستين من العمر

 

هاجس الذكريات والتقاعد.. اثنان ثالثهما الوجع

التنقيب في دهاليز الذاكرة أمر مرهق، خصوصا إن كانت جراح النفوس لم تندمل بعد، فكما أن الزمن يلعب دورا في لملمة تلك الجراح، فإنه يُساهم أحيانا في نكئها، لذلك يكون الشعور بالفراغ قاتلا للشخص المتقاعد لأنه يجعله أسير ذكريات مؤلمة إن لم يجد ما ينشغل به ويشغله، ولعل في مشهد السيد فريال لاذقي وهي تغالب دموعها أثناء استحضارها لقصة فقد ابنتها خير دليل على ذلك، فانشغالها بالرسم لساعات طويلة ساعدها على لملمة جراحها ونسيان همومها.

كما أن للجو العائلي دوره السحري في جعل الشخص المتقاعد في راحة نفسية تزيد من حماسه وإقباله على الحياة، ذلك الإقبال قد لا يتأثر بالوحدة أيضا إن كانت نسبة التصالح مع الذات عالية، والاندماج مع ممارسة الهواية كبيرا، وهو ما جسده السيد عبد الوهاب أمين حين رسم لوحة مبهجة للمحيط من حوله فقال: كم تستهويني أمسيات القرية ومشاهدة ليالي الخريف على مسرح الطبيعة الممتد إلى الأفق البعيد على مدى النظر، تحت سماء زرقاء تتسامى وتتسع في كل اتجاه مضاءة بألوف النجوم المبعثرة هنا وهناك.

صوت “ناي” السيد عبد السلام سليمان يُضفي على المشهد شعورا مبهرا بالراحة والطمأنينة يزيدها ألقا رؤيته وهو يغادر بيته المتواضع متسلحا بقناعته و”نايه”، راضيا بما قسمه الله له من رزق.

طلبتُ المستقر بكل أرضٍ
فلم أرَ لي بأرض مستقرا

أطعتُ مطامعي فاستعبدتني
ولو أني قنعتُ لكنت حرا

تلك هي الحرية التي تحدث عنها العميد المتقاعد أحمد العنيسي حين قال إن أولوية المتقاعد هي أن ينتبه لصحته ويعزز من علاقاته الاجتماعية، وكلما كان صاحب هواية كلما كان أقدر على تنميتها وتطويرها وبالتالي خلق فرص أكبر للنجاح في رحلته الجديدة، ففرص الحياة لا يتوقف قطارها في محطة التقاعد، ولئن كان السيد عبد الوهاب برادة –حسب زوجته- ضيّع فرصا عديدة أثناء ممارسته لحياته العملية فإنه يبدو مصمما على أن يستثمر في كل فرصة يمنحها التقاعد فيعيش قريبا من الآخرين، قانعا بما وصل إليه، مستمتعا بالعزف على “العود”، ناشرا للمحبة والسلام.

أحمد العنيسي من عميد عسكري إلى عازف عود يحب الهدوء

 

“ولم أجِد الإنسانَ إلا ابنَ سعيِه”

لقد قدم الفيلم قصصا ملهمة لأشخاص عبروا بهممهم محطة يأس كثيرا ما جرفت الواقفين على أعتابها إلى متاهات من اليأس والاستسلام، فكانت كل قصة تنبض حياة، وكان كل منهم نموذجا للإنسان القوي الذي أدرك أن الحياة يجب أن تستمر، وكلما سُد بابٌ أمام وهج عطاء فُتح آخر.

ولم أجِد الإِنسانَ إِلا ابن سعيِه
فمن كان أسعَى كان بالمجدِ أجدرا

وبالهمةِ العلياءِ يرقَى إِلى العُلا
فمن كان أرقَى هِمَّةً كان أظهرا

ولم يتأخر من يريد تقدما
ولم يتقدم من يريد تأخرا