“العيد الكبير” في المغرب.. البهجة على أصولها

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن أيام التشريق “إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل” أو كما قال عليه السلام. وفيما حجاج بيت الله الحرام يقضون هذه الأيام في أداء المناسك، فإن المسلمين في كل أنحاء العالم يسعون لإيجاد أجواء في مجتمعاتهم تشبه تلك الأجواء التي يعيشها الحجاج في أرض المشاعر المقدسة.

ولا تختلف بلاد المغرب عن مثيلاتها من الدول العربية والإسلامية في الاحتفال بعيد الأضحى المبارك، أو ما يسمونه بالعيد الكبير.

في هذا الفيلم من إنتاج الجزيرة الوثائقية بعنوان “صدى عيد”، تسجل لنا الكاميرا أدق التفاصيل التي يعيشها المغاربة في يوميات العيد الكبير، فهي تتنقل بين أسواق الأغنام وتعرض الأنواع المختلفة للأضاحي وأثمانها والمفضل والمشهور منها.

وتذهب بنا إلى المصليات والمساجد لنشهد صلاة العيد، ونستمع إلى الحناجر وهي تصدح بالتكبير في ألحان رتيبة محببة إلى النفس، ثم تدخل إلى البيوت وتسجل لنا مظاهر البهجة بالعيد، وأنواع الأطباق التي يحرص المغاربة على تناولها في يوم العيد، ثم تذهب بنا إلى الأسواق والساحات حيث المهرجانات والمظاهر الاحتفالية الخاصة بهذا العيد.

سوق الأكباش (الحوليات)

بينما كان أحمد –وهو تاجر أغنام في سوق الدار البيضاء الكبير- يطبع قبلة الوداع (أو قبلة الموت) على مقدمة رأس كبشه الذي يساق إلى الذبح، كان الداعية الإسلامي محمد الرفيقي يشرح لنا حكمة الله في الأضاحي، والأحكام الفقهية المتعلقة بها، وصفات الذبيحة والأنواع التي تجوز فيها الأضحية، ويجيب على ما يتردد على ألسنة المسلمين في هذا الموسم من كل عام عن هذه السنة المؤكدة العظيمة.

وتلتقي الكاميرا بإسماعيل بن صادق، وهو مواطن مغربي، ليشرح مكانة هذا العيد في قلوب المغاربة، فهو بالإضافة إلى كونه نسكاً دينياً هاماً، يُعد مناسبة اجتماعية ذات قيمة بالغة، يشتري فيها المغاربة أضحياتهم من أسواق الأغنام التي تنتشر في جميع أنحاء البلاد، ويصبح هذا الكبش (الحولي) محط اهتمام الأسرة كلها خلال الأيام التي تسبق ذبحه، فيتسابق الأطفال على تنظيفه وإطعامه والعناية به، ثم تشهد العائلة ذبحه بصغارها وكبارها، وبعدها يأكل الجميع أطباقاً خاصة مصنوعة من لحوم الأضاحي يجتمعون عليها ويتوزعون الأدوار فيما بينهم لطهي هذه الأطباق.

في المغرب، يتراوح ثمن الكبش ما بين 1500 وأكثر من 4000 درهم مغربي (أي ما يعادل 150 إلى 400 دولار)

ويتحدث الباحث توفيق ناديري عن نوعين من الأسواق التي تباع فيها الأغنام، فهناك الأسواق الدائمة وهذه تكون خارج المدن في الأرياف والبوادي، أما أسواق المدن فهي موسمية وتعقد قبل أيام قلائل من العيد الكبير وتستمر طوال أيام التشريق.

الفرحة والطاعة.. على حسب الوسع

يتراوح ثمن الكبش ما بين 1500 وأكثر من 4000 درهم مغربي (ما يعادل 150 إلى 400 دولار) حسب القدرة الشرائية للمواطن. ويذكر السيد عبد الله -وهو تاجر أغنام- إن الأسعار تتفاوت حسب المناطق والنوعية وجودة المنتج، وحتى حسب أيام انعقاد السوق ونوع الأعلاف التي تقدم لهذه المواشي.

وتتفاوت رغبات الناس في أنواع الأغنام التي تشتريها، فهناك الكبش الصردي (سلالة ينسبها البعض إلى جزيرة سردينيه بإيطاليا)، وهناك البركي، وأيضاً الكبش الأشقر، وهذه وغيرها تتوزع على المناطق المختلفة في بلاد المغرب الشاسعة.

تحتل أكباش الأضاحي مساحة معتبرة من هذا الفيلم الشيق، ذلك أن الكبش كما سبق وذكرنا هو المحور الرئيسي في العيد الكبير، وتنتقل بنا الكاميرا إلى مزرعة السيد الحاج بوشعيب لتربية الأغنام، حيث يلقي الضوء على أنواع الأغنام ودورة حياتها وطرق إرضاعها وتغذيتها، حتى يصير عمرها عاماً وتصبح صالحةً ليضحى بها (على اختلاف بين المذاهب الإسلامية في عمر الأضحية)، ويشرح بتفصيل أنواع الأعلاف التي يطعمونها للماشية، ويتحدث كذلك عن كيفية تحديد عمر الكبش حيث يتم ذلك عن طريق عدد الأسنان في فم الكبش.

مصدر رزق موسمي

ويكون هذا الموسم المبارك فرصة لكثير من أصحاب المهن التي ترتبط بالعيد مباشرة كي يمارسوا أعمالهم ويكسبوا ما يعولون به أهليهم وعيالهم، فبالإضافة إلى الفلاحين وتجار الأغنام يكون هناك الجزارون الذين ينتشرون بكثرة في كل مناطق المدينة، يحملون سكاكينهم وأدواتهم الخاصة بالذبح والسلخ والتقطيع، وترى كذلك الذين يشحذون السكاكين والسواطير (المضّاية).

صورة لصوف أكباش الأضاحي بعد ذبحها في سوق الدار البيضاء الكبير

وتجد كذلك بائعي المواعين الخاصة بطبخ بعض الأطباق (الطواجن) وهي مواعين مصنوعة من الفخار (الخزف)، وكذلك تجد بائعي الفحم وهي المادة اللازمة لشوي اللحوم، وهذا طبق مشهور جداً خصوصاً شوي الكبد لوجبة الإفطار الصباحي، ويرتبط بهم بائعو المجامر وهي الأدوات التي تستخدم للنفخ تحت النار حتى توري، وترى أيضاً أصحاب العربات التي تدفع باليد، وتستخدم لنقل الأكباش عبر الحواري والأزقة الضيقة إلى منازل المواطنين.

موسم الأضحى فرصة لبائعي المواعين الخاصة بطبخ بعض الأطباق (الطواجن)، وهي مواعين مصنوعة من الفخار (الخزف)

العيد مع العائلة

ويتجشم المغاربة عناء الأسفار الطويلة بين المدن والقرى حتى يعودوا إلى أهليهم وعائلاتهم لحضور العيد، فالعاملون والموظفون في المناطق البعيدة يحرصون أشد الحرص على أن يكونوا بين أهليهم وذويهم، حتى إن بعضهم يقول لا يكون العيد عيداً إلا إذا كان مع الوالدين والإخوة والأخوات، وتقول إحدى المسافرات في محطة حافلات “إن للعيد لذة وحلاوة لا تُحس بها إلا إذا كنت وسط عائلتك”.

الصلاة جامعة

يحين الآن موعد صلاة العيد حسب التوقيت المحلي للدار البيضاء، وتمتلئ المساجد والمصليات في الهواء الطلق عن بكرة أبيها بجموع المصلين، وتصدح حناجر المؤمنين بالتكبير والتحميد والتهليل، وتخفق القلوب وتذرف العيون، وتختلط المشاعر بين الفرح والخوف والرجاء، ويتوجه الناس بآمالهم ودعواتهم وحاجاتهم إلى الله العظيم، ويقبلون على الصلاة في خشوع، ويستمعون إلى الخطيب باهتمام، ثم يتصافحون ويتعانقون، ويتسامحون ويتغافرون، وتنفضّ هذه الحلقة من سوق الله الرابحة، إلى حلقاتٍ أخرى فيها الربح والأجر العظيم.

المصلون المغاربة يتوافدون إلى مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء لأداء صلاة العيد

ثم يتوجه المسلمون إلى بيوتهم بعد أداء الصلاة، ويحرصون على ذبح أضاحيهم بأنفسهم، وتشهد العائلة كلها عملية الذبح. وبعد السلخ والتنظيف والتقطيع يشوى الكبد وبعض أجزاء من اللحم، وهذا تقليد مهم عند أهل المغرب، ليتم بعد ذلك تناوله على طعام الإفطار وسط حضور الجميع.

تقول السيدة زينب، وهي ربة منزل “تتوزع مهام الإفطار على الجميع، فزوجي يصنع الشاي، والبنت الكبرى تنظف الكبد والطحال، والأخرى مسؤولة عن الملح والبهارات الخاصة، وأنا أقوم بالتقطيع والشواء، والحمد لله على هذا الاجتماع الطيب المبارك”.

أطباق مغربية للعيد

في وجبة الغداء، وهي التي يتناولونها في نحو الساعة الخامسة بعد العصر؛ يكون طبق “التقلية” حاضراً، وهو عبارة عن الكرشة والأمعاء بعد غسلها وتنظيفها جيداً بالملح، ثم تطهى بالماء المغلي، ويضاف إليها الطماطم والثوم والتوابل الأخرى، وتقدم مع الزيتون.

في صلاة العيد تمتلئ المساجد والمصليات في الهواء الطلق عن بكرة أبيها بجموع المصلين

أما وجبة العشاء ليلاً فهي أكتاف الكبش، ثم تكون هناك بعض الزيارات لأفراد العائلة والجيران. ولأن المجتمع المغاربي مجتمع عائلي مترابط، فإن الأبناء والبنات المتزوجين ينضمون مع أولادهم إلى الوالدين الكبيرين في بيت الأسرة الأول، أو ما نسميه “بيت العيلة”.

بو البطاين.. أراجوز العيد

في اليوم الثالث من أيام العيد يظهر “بو البطاين” أو “بو الجلود”، وهم أشخاص يظهرون في الأزقة والساحات، يغطون رؤوسهم وأجسادهم بجلود الأغنام التي تم ذبحها في العيد، يجمعون عيدياتهم على شكل نقود أو حلويات أو سكاكر، يملؤون الأجواء بهجة وفرحا، ويلتف حولهم الأطفال الصغار، ويؤدون رقصات واستعراضات احتفالية رائعة.

الطاجين  هو أهم الأطباق المغربية في عيد الأضحى حيث يوضع في ماعون مصنوع من الفخار

يرى الدكتور الحسين بو يعقوبي أن هذه المهرجانات المرتبطة بالعيد ليس ضرورياً أن يكون لها طابع ديني، فهي موروثات اجتماعية توارثتها الأجيال في بلاد المغرب منذ قديم الزمان، أي قبل ظهور الإسلام في المغرب.
وستجد أن هذا الكلام يؤيده المنطق خصوصاً إذا تذكرت أن المغرب كانت تسكنها -وما زالت- قبائل الأمازيغ المختلفة قبل أن يأتيها العرب ومعهم الإسلام، كما أن المجتمع المغربي كان على تواصل مع الأفارقة السود وقبائل الطوارق الصحراوية منذ القديم، مما يجعله مؤثراً ومتأثراً بهذه الثقافات والحضارات المختلفة.

في الختام، سوف يعترف جميع من شاهد هذا الفيلم الشائق بمقدار البهجة التي عاشوها أثناء المشاهدة، وسيعترفون أن الفيلم انتقل بهم على وجه الحقيقة من منازلهم في بلدانهم المختلفة، إلى طرقات الدار البيضاء وبين حواريها وأزقتها وداخل بيوتها، وأنهم عاشوا بهجة العيد بحذافيرها، وأن صوت المؤذن أطربهم، كما ابتهالات الشيوخ وأهازيج النساء، وسيقولون بلسان مغربي مبين إنهم أحبوا أهل المغرب وبلاد المغرب “بالزاف بالزاف”.