الغريق رقم 378.. عندما يلتهم البحر أحلام الفقراء

خاص-الوثائقية

سترة وبنطال وحزام وبعض المتعلقات الشخصية، هذا كل ما تبقى من الغريق رقم 387 الذي قضى مع نحو 800 مهاجر حاولوا عبور بحر المتوسط انطلاقا من السواحل الليبية في 18 أبريل/نيسان 2015، فانقلب قاربهم على بعد 110 كيلومترات من هذه السواحل وغرق معظم المهاجرين وتحدث الناجون القلائل بينهم عن مأساة حقيقية وكارثة إنسانية هي الأسوأ في المتوسط منذ الحرب العالمية الثانية.

يرافق فيلم “الغريق رقم 378” الذي عرضته قنا الجزيرة الوثائقية، الرحلة المضنية للطبيبة الشرعية الإيطالية “كريستينا كاتانيو” التي جهدت خلالها للتعرف على صاحب جثة هذا الغريق تمهيدا لإعادة رفاته إلى أهله.

 

في هذه الكارثة وكما في مثيلاتها وفي حال تكررها في المستقبل، يبقى اللغز هو: كيف هربوا، ومن هرّبهم، وكم عدد الذين قتلوا لدى غرق المركب أو القارب، وما هي أسماؤهم وجنسياتهم؟

وفي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة التي تبدو كمهمة مستحيلة، اتخذ “ماريو رينزي” رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك قرارا غير مسبوق قضى بإعادة انتشال حطام القارب الغارق.

تقول الدكتورة “كاتانيو” المسؤولة عن ضحايا كارثة 18 أبريل/نيسان 2015، إنها عملت على 528 جثة تكاد تكون سليمة، إضافة إلى الرفات التي حاولت جمعها لتحديد عدد الأشخاص التي تعود إليهم.

لم يتم التعرف على هوية الغريق رقم 387، حاله كحال المئات الذين فقدوا في البحر

 

محاولة بائسة لاستعادة الكرامة

من بين هذه المئات من الجثث، لفت الدكتورةَ كاتانيو متعلقاتُ الغريق “رقم 378″، فوجدت كيسا من الخيش فيه بقايا بشرية وسترة في جيوبها الكثير من الأغراض الشخصية بينها محفظة تحوي الكثير من الصور الشخصية ورسالة شخصية كتبها هذا الغريق يعبر فيها عن حبه لسيدة وقد ودعها على أمل لقاء قريب.

وتشرح الطبيبة المتخصصة في علم الإنسان كيف أن التعامل مع الأموات يجعلك تُكوّن صورة واضحة عنهم وعن أعمارهم من خلال ملابسهم ومقتنياتهم وما تحويه جيوب هذه الملابس، وكل ما كتبوه في دفاترهم ورسائلهم ومذكراتهم التي يحملونها معهم خلال هذه المخاطرة.

وتتابع: “تشعر بأن هؤلاء يريدون فعلا القيام بشيء جديد والبحث عن مستقبل أفضل وبناء حياتهم في مكان آخر، ويكونون محملين بآمال سليمة ونقية، ولكن عندما تجدهم أمواتا وجثثهم تحللت بسبب مياه البحر وكيف انتهى بهم الحال، عندئذ تدرك بوضوح حجم المأساة التي أصابتهم”.

وليست كاتانيو هي الوحيدة التي تحاول التعرف على هويات الجثث وإعادتها لعائلات أصحابها، فهناك “جورجيا ميرتو” الباحثة المتخصصة في إحصاء المهاجرين المدفونين في إيطاليا.

فميرتو لديها نظرية تستحق المتابعة، تقول إن ما تفعله هو آخر “محاولة بائسة” لاستعادة كرامة هؤلاء الموتى. وتواصل أن “هذا شكل من أشكال احترام الموتى، حتى إذا كنا لا نعرف بعضنا البعض ولسنا من نفس العائلة أو أصدقاء، فهذا الشخص مات واختفى، وأنا أفعل هذا من أجل العدالة والاحترام، منح العدالة للأموات وتكريمهم يخدم الأحياء، لأن حضارتنا ووضعنا كمخلوقات متحضرة يعتمد أيضا على طريقة معاملتنا للأموات”.

ولميرتو وعملها النبيل قصة هي التي دفعتها لما أسمته “تكريم الأموات”. تقول: “هناك تاريخ حافل في عائلتي مع ضحايا المافيا (الإيطالية)، اختُطف جدي ولم يُعثر على جثته أبدا، وبعد 47 عاما من الاختطاف وفي 2017، ماتت جدتي وكانت لا تزال تحتفظ بفرشاة أسنانه كما أنها حافظت على مكتبه كما هو كما تركه على أمل أن يعود يوما ما، وبقيت محتفظة بذكراه كل هذه السنوات وكانت دائما تشعر بأنها زوجته وليست أرملته”.

“جورجيا ميرتو” الباحثة المتخصصة في إحصاء المهاجرين المدفونين في إيطاليا في زيارة لقبورهم

 

رحلة البحث عن الحقيقة.. مهمة شبه مستحيلة

وبالعودة إلى الدكتورة كاتانيو وعملها المتواصل في كشف هوية الضحايا، كشفت أن نحو 100 -من أصل 800 عثر على أوراقهم الثبوتية- قادمون من مالي والسنغال والسودان والصومال وغينيا، أي أن جلهم من أفريقيا.

وبما أن هذه المهمة شبه المستحيلة تحتاج لتضافر جهود مؤسسات دولية وكبيرة، فقد دخل الصليب الأحمر الدولي على الخط محاولا حصر الأسماء والجنسيات والانتقال لخطوات عملية والسفر للدول التي قدم منها هؤلاء المهاجرون ولقاء ذويهم من أجل كشف الحقيقة أو حتى بعض منها.

وعن هذه الحقيقة يقول “خوسيه بابلو بارايبا” من الصليب الأحمر الدولي إن “العاملين في هذا النظام، سواء أكانوا شرطة أم علماء جنائيين ومنظمات غير حكومية وغيرهم، لدى كل منهم جزء من حل اللغز، الأهم هو كيفية جمع هذه الأجزاء للحصول على الصورة الكاملة، علما بأن هذه الأجزاء قد لا توصلنا إلا إلى 30% أو أقل من الجواب، ولكنها ستكون البداية والانطلاق نحو الوصول للحقيقة الكاملة”.

وخلال اجتماعات مسؤولي الصليب الأحمر الدولي، تأكد لهم بالدليل القاطع تعقيدات عملية البحث خاصة إذا كان الاعتماد فقط على المعلومات المتوافرة لديهم والأوراق الثبوتية التي بحوزتهم، وأن هذا المسار لن يوصلهم لأية حقيقة، لذا فقد قرروا سلوك طريق آخر.

أولى محطات هذا الطريق هو “أبراهام تسفاي”، وهو ناشط اجتماعي ولاجئ إريتري يحاول مساعدة اللاجئين القادمين إلى أوروبا من إريتريا والصومال وإثيوبيا.

وفي اجتماع مع مسؤولي الصليب الأحمر الدولي من مختلف الدول، شرح بارايبا لتسفاي أن “هناك 28 ناجيا من كارثة 18 أبريل/نيسان 2015 بينهم القبطان ومساعده في السجن وأحدهم توفي لاحقا، ويتبقى 25 شخصا منهم 4 من إريتريا، أي أنهم الوحيدون من شرق أفريقيا. وإريتريا دولة معقدة لا يمكنها التعامل مع مسألة الهجرة في الوقت الحالي، ونحن لا نملك معلومات عنها ولا نستطيع الدخول إليها بصفة منظمة الصليب الأحمر ولهذا نحتاج لمساعدتك”.

بعض متعلقات الغريق 387 التي وجدت في محفظته

 

أهالي الضحايا.. أسئلة قاسية وإجابات فضفاضة

يروي أبراهام تجربته القاسية مع الهجرة وعبور المتوسط نحو القارة العجوز حيث يقول: “غادرت إريتريا نحو السودان، وعملت في الأخيرة سائق أجرة من دون رخصة أو سيارة قانونية. ثم سافرت لليبيا ومن هناك عبرت المتوسط نحو إيطاليا ثم سويسرا وعدت مرة أخرى إلى إيطاليا. مكثت في ليبيا شهرين قضيتهما في سجن تحت الأرض بمدينة زليتين، أنا الوحيد الذي تمكنت من الهرب ضمن مجموعة مؤلفة من 150 شخصا”.

وقد استغل أبراهام التقنية الحديثة في محاولة العثور على الناجين الإريتريين وخرج في بث مباشر على فيسبوك وبدأ يذكر أسماء الأشخاص الأربعة ويسأل إن كان أحد يعلم أماكن سكنهم أو في أي دول يوجدون، على أمل العثور عليهم والحصول منهم على إجابات لأسئلة كثيرة.

كما ساعد أبراهام في ترجمة رسالة الحب التي كان يحملها “الغريق رقم 378″، وجاء فيها: “لن أقول لك شيئا يا حبي، آمل أن نلتقي مرة أخرى، أنتظرك بأمل.. وداعا”.

وتوقع أن الغريق إثيوبي الجنسية صغير في السن مرهف الإحساس رسالته موجهة لفتاة اسمها “ألويتي”. وتابع: “هذا ما كشفته لي طريقة كتابته للرسالة.. هذه الرسالة لم تصل قط، آمل أن تصل يوما ما”.

وفي الوقت ذاته، كان فريق الصليب الأحمر الدولي بقيادة بارايبا يحاول القيام بدوره إذ سافر لموريتانيا على الحدود مع مالي لمقابلة والد أحد الضحايا، وبعد شرحٍ وحديثٍ عن طريقة هروب الشاب، وجه شقيق الضحية سيلا من الأسئلة لبارايبا: ماذا ستقدمون لنا، وما هدف بحثكم، وهل ستعيدون لنا أبناءنا أحياء أم أمواتا، وهل تريدون انتشال الجثث وإعادتها لأوطانها؟

أسئلة قاسية لخص أجوبتها بارايبا بالقول: “إننا لا نملك صلاحيات، ولكن يمكننا إرسال هذه الطلبات إلى السلطات المعنية، فنحن هنا للقائكم والحديث معكم وأخذ عينات وإجراء التحاليل وإرسالها للإيطاليين”.

وقد وصف بارايبا عمل الصليب الأحمر الدولي بأنه كرجال الإطفاء، نصل دائما بعد انتهاء الحادث وإخماد النيران وبعد أن لم يتبق سوى الرماد، ومن الأخير نحاول إعادة بناء شيء ما، لكن الرماد لا يسمح لنا بإعادة بناء الشخص وإخبار هؤلاء أن “الشخص الذي تبحثون عنه لا يزال حيا”.

القارب الذي حمل المهاجرين وغاص بهم في أعماق البحر

 

صراخ يعلو ظلام البحر.. ثم يعم الصمت

نجحت محاولات أبراهام في العثور على ناجين، وهم 3 أشخاص أحدهم في برلين والآخر في فرانكفورت والثالث في النرويج. فقرر بارايبا مرافقة أبراهام إلى فرانكفورت لمقابلة طارق فاتوي، وكان اللقاء مؤثرا ومليئا بالذكريات الحزينة والبكاء بين الفينة والأخرى.

ويقول طارق: “لا أريد الحديث عن هذا الموضوع مرة أخرى، أخاف من استرجاع الذكريات، فهذا بالأرق. عندما كان يغرق المركب تمسّك بي كثيرون وكانوا يتعلقون بملابسي ويصرخون طالبين مني مساعدتهم وإنقاذهم، ولأنني لم أكن أستطيع فعل أي شيء لهم اضطررت لدفعهم لأنني كنت سأغرق معهم، فبعضهم حاول سحبي للأسفل، لا أعلم ماذا كان سيحل بي”.

وفي مشهد درامي ومبك في الوقت نفسه، يقول طارق: ان هناك ضجيج والظلام كان دامسا ولم أتمكن من رؤية شيء، كانت هناك مجموعة تصرخ “الله أكبر”، وبعد 40 دقيقة عم الصمت.. غرقوا جميعا.

ويعود بالذاكرة لأسماء أشخاص كانوا معه على القارب ومن بينهم شخص كان يجلس بقربه في القارب يدعى “بيركيت”، وكان “بحوزته جوالا و50 يورو أو دولارا، قال لي: حين نصل إيطاليا سأشتري لك ساندويش برغر”.

وبعد المقابلات التي أجراها والرحلات المكوكية التي قام بها، توصل خوسيه بابلو بارايبا لخلاصة مفادها أنه “من وجهة نظري، ندين بالاحترام للآخرين في حياتهم ومماتهم”.

وبعد 4 سنوات من الحادث، حُددت رسميا هوية شخصين فقط، ومنذ غرق القارب في 18 أبريل/نيسان 2015، لقي أكثر من 18000 شخص مصرعهم خلال محاولاتهم الوصول إلى أوروبا.