القاتل الصامت.. قصة كورونا مذ بدأت في الصين

خاص-الوثائقية

اثنان من المصابين كانا يعملان في سوق تباع فيها حيوانات برية ثم حدثت طفرة هائلة، ووصل الأمر نقطة تحول حاسمة عندما خطف القاتل الصامت ضحيته الأولى، لقد أطبقت الفجيعة على مدينة كاملة يقطنها 11 مليونا كانت تضج بالحيوية والنشاط، فأصبح كل شخص فيها يتوقع أن يكون الضحية التالية بعد تتالي موت الأقرباء والأصدقاء والجيران.

في ديسمبر/كانون الأول 2019، بدأ سيناريو الرعب يتكشف ببطء بعد مرض غامض أصاب ثلة من الناس وظهرت عليهم أعراض الحمى والسعال، ثم تمدد من مهده في “ووهان” الصينية إلى باقي أرجاء العالم.

الجزيرة الوثائقية تروي قصة فيروس كورونا المستجد في فيلم بعنوان “كورونا.. القاتل الصامت” بمشاركة نخبة من خبراء الفيروسات والأمراض المعدية والأطباء والممرضين في سنغافورة والصين.

لقد ظهر “كوفيد19” من دون إنذار منتشرا كالنار في الهشيم، بينما ظلت أصوله موغلة في الغموض لبعض الوقت، ومنذ اكتشافه في مدينة “ووهان” عاصمة إقليم “هوباي” الصيني قتل وأصاب خلائق كثيرة في مختلف بقاع الأرض.

 

فيروس غير معهود.. شقيق سارس الذي يبطش بالبشرية

شُبّه كورونا المستجد بفيروس سارس القاتل الذي ظهر عام 2002 وتغلب العالم عليه في شهور قليلة. وكما في الحالة الأولى فإن القاتل هنا لا تمكن رؤيته بالعين المجردة ولا يمكن التنبؤ به قبل دخوله للجسم والفتك به.

يعرض الفيلم صورا من داخل المختبرات في الصين، حيث يطارد العلماء فيروسا يبطش بالبشرية، بينما يباشر عمال النظافة تعقيم الشوارع في محاولة لطرد الفيروس من وسط المدينة.

يتحدث في الوثائقي الدكتور “لونغ هو نام” المتخصص في الأمراض المعدية بسنغافورة، وسبق أن انتقلت له عدوى السارس أثناء علاجه لمريضة مصابة بالوباء قبل 16 عاما، ويقول: فيروس كورونا المستجد غير معهود، لأنه يبدو وكأنه ينتشر بسهولة بين الأفراد، أما متلازمة السارس وهي من فصيلة كورونا فقد عرفناها وتمكنا من ضبطها في غضون ستة أشهر أو تسعة في كل أرجاء العالم، وهو شيء رائع.

لقد تراوحت أعداد المصابين بالسارس بين 8 و10 آلاف خلال بضعة أشهر، أما المصابون بفيروس كورونا فتتضاعف أعدادهم خلال الشهر الواحد، وهو ينتشر بشكل سريع جدا جدا.

ويتابع الدكتور “لونغ”: إنها عدوى فيروسية غير مألوفة، وهذا ما نسميه بالالتهاب الرئوي غير النمطي من النوع (ب)، حيث يأتي المصاب وهو يشكو من حمى وصداع وسعال وألم في العضلات، كما في الزكام العادي، لكن الطبيب يدرك فورا أن الأمور ليست على ما يرام بعد مراجعة صور الأشعة السينية، فالكثير من اختبارات العينات لا تدل على زكام موسمي أو أي فيروسات أخرى، وتأتي مجموعات من الناس وهي تشكو من المرض نفسه وبالسمات نفسها.

عزا العلماء انتقال الفيروس في الصين إلى الإنسان من داخل سوق الحيوانات البرية وخصوصا من الخفافيش

 

أقل فتكا وأشد عدوى.. هدية الحيوان إلى الإنسان

لقد شخصت الجهات الصحية الصينية أول من ظهرت عليهم تلك الأعراض في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2019، ومن إصابة واحدة إلى عشرات الحالات، وكان اثنان من المرضى يعملان في سوق للمأكولات البحرية في “ووهان”، ثم حدثت طفرة في الإصابات، ووصل الأمر نقطة تحول حاسمة، عندما أودى الفيروس بضحيته الأولى. لقد توفي رجل في التاسعة والستين من عمره في 9 يناير/كانون الثاني الماضي بعد إصابته بالفيروس الغامض، وكان هذا الرجل يرتاد السوق بانتظام.

كشفت التحقيقات الأولية أن أغلبية الحالات تقود إلى جزء من السوق، تباع فيه وتشترى حيوانات برية غريبة، وبدا أن هذه الفيروسات تقفز من هذه الحيوانات المحبوسة في أقفاص إلى أنواع أخرى من الحيوانات، قبل أن تصيب البشر.

كانت الصين أخطرت منظمة الصحة العالمية بتفشي فيروس غامض في 31 ديسمبر/كانون الأول. وبعد ذلك بشهر أعلنت المنظمة حالة طوارئ صحية عالمية، وفي ذلك التاريخ كان الفيروس تمدد في المقاطعات الصينية الـ31، ووصل إلى أكثر من 20 بلدا في أوروبا وآسيا وشمال أميركا.

يقول الدكتور “لونغ هو نام”: توحي التطورات بأننا شهدنا مثل هذا الأمر من قبل، فعندما ظهر سارس في 2003 تزايدت الحالات ثم أصبحت أضعافا مضاعفة، إن إصابات فيروس كورونا تشبه إلى حد كبير وباء سارس في 2003، فإذا تأكد وجود ستة آلاف مصاب فمن المحتمل وجود ما لا يقل عن 20 ألفا آخرين.

متلازمة سارس دهمت المنطقة فأصابت ما بين 8 إلى 10 آلاف شخص قتلت منهم 774، وكانت الصين أنكرت في 2002 أن يكون السارس هو سبب هذا المرض. وتكشف التحريات أن المرض الحالي سببه فيروس تاجي ومادته الوراثية تشبه نظيرتها في السارس بنسبة 76%، بيد أن الفرق الوحيد بينهما هو أن كورونا بدا أقل فتكا لكنه أشد عدوى.

صور الأشعة السينية أظهرت بأن المرض ليس موسميا خصوصا وأن الناس جاءوا يشكون من المرض نفسه وبالسمات نفسها

 

انتقال النار في الهشيم

يوضح الدكتور “لونغ هو نام” أن فيروس كورونا المستجد ينتشر بسهولة بين الأفراد “فالتقارب الجسدي وحتى التحدث قد ينشران العدوى، على خلاف الالتهاب الرئوي الحاد سارس”. وتشير الدراسات الأولية إلى أن فترة حضانة الفيروس تتراوح ما بين خمسة وسبعة أيام، والحضانة هي الفترة التي بين التعرض للفيروس وظهور أعراضه على المريض، لكن حاملي الفيروس الذين لا تظهر عليهم الأعراض قد ينقلون العدوى لغيرهم، وهذه مشكلة كبرى.

عند هذه النقطة تتحول الكاميرا إلى الدكتور “آسوك كوروب” عضو أكاديمية الأمراض المعدية بسنغافورة، الذي يصر على أن مواجهة هذه الفيروسات تبدأ من تخلي البشر عن أكل الحيوانات البرية والاحتكاك بها، قائلا: كل مصاب يعرّض ثلاثة أو أربعة آخرين للمرض على ما يبدو، 6 آلاف حالة قد تتحول إلى 20 أو 30 ألفا، وهذه تقديرات جاءت بتحفظ حذر، لأن الأعداد هي أضعاف ذلك على الأرجح، ثم إن الالتهابات التي لا تصاحبها أعراض ليست غريبة عنا، والآن أصبحنا نسمع عن أفراد ينقلون العدوى لغيرهم خلال فترة الحضانة.

وينقل “لونغ هو نام” عن وزير الصحة الصيني أن الأفراد الذين لا تظهر عليهم الأعراض هم من ينشرون العدوى، وليس علينا انتظار سبعة أيام فالمرض يتفشى حتى قبل بروز الأعراض وهذا ما يسمح بسرعة الانتشار في مناطق واسعة مأهولة، والعدد غير المسبوق من الإصابات مصداق لهذه الحقيقة.

سوق المأكولات البحرية في ووهان هو مصدر كورونا حيث كانت تباع فيه وتشترى أنواع من الحيوانات البرية

 

سوق المأكولات البحرية.. مهد الفيروس

إن الفيروسات التاجية موجودة في الكثير من الحيوانات كالإبل والبقر وسنورية الزباد والوطاويط، ويحدث أن تتعرض سلالات الفيروس لطفرات وتنتقل من الحيوان إلى الإنسان. تلك الطفرة هي ما حدث خلال وباء سارس 2002 وفي الالتهاب الرئوي “ميرس” الذي ظهر في الشرق الأوسط عام 2012، وأخيرا فيروس كورونا المستجد.

لقد اتضح لاحقا أن مصدر كورونا المستجد هو سوق المأكولات البحرية في ووهان الذي كانت تباع فيه وتشترى أنواع من الحيوانات البرية بطرق قانونية وغير قانونية. ويوضح “لونغ هو نام” أن الطفرة تحدث عندما يتوغل الفيروس في الجسم عبر مستقبلات الخلايا، وهذا ما يمهد الطريق للعدوى بين الأفراد.

وحول الحيوان الذي كان بالضبط مصدرا لفيروس كورونا المستجد، يقول “آسوك كوروب”: معرفة الإجابة تتطلب عشرة أشهر على ما أعتقد فقد استغرقنا السارس وقتا طويلا.

“لورونس وونغ” وزير التنمية الوطنية بسنغافورة تحدث أيضا في الفيلم قائلا: لقد اشتدت ضراوة الفيروس ويُرجح أن يرتفع عدد الإصابات، علينا توطين النفس على أن هذا الفيروس قد يكون أخطر من السارس.

في ظل حالة الطوارئ ألغى الطاقم الطبي إجازاته لرأس السنة الصينية ليداوموا يوميا أكثر من 12 ساعة

 

إيقاف عطلات الأطباء.. كبح جماح الوباء

مع تزايد الإصابات بوتيرة مخيفة، فإن ما يسمى الحلم الصيني يتحول تدريجيا إلى كابوس يؤرق الحكومة التي تجتهد لكبح انتشار الفيروس، فبعد “ووهان” وجد فيروس كورونا طريقه إلى مدن صينية أخرى من بكين في الشمال إلى “شن تشن” في الجنوب.

ينتقل الفيلم إلى مستشفى بمدينة “شن تشن” للحديث عن تدفق الأعداد الهائلة من المشتبه في إصابتهم بالفيروس، مما راكم ضغطا هائلا على الأطباء والممرضين. وهنا لا بد من معرفة: كيف يتعامل عامة الناس مع المرض وكيف تتصدى له الطواقم الطبية في الخطوط الأمامية؟

تقول “تشو تسوي تشيونغ” وهي ممرضة في مستشفى “شن تشن” بجنوب الصين: لم يأكل الممرضون والممرضات لقمة واحدة خلال ذلك اليوم، كنت أشعر بالقلق وعندما استيقظت واستمعت لأخبار الحجر الصحي في ووهان اتصلت بأمي، وما إن بدأت الكلام حتى انخرطت في بكاء لا يتوقف.

في منتصف يناير/كانون الثاني 2020 بدأت أعداد المصابين تتزايد في الصين، ووجدت المستشفيات نفسها تتخبط وهي تحاول لجم الوباء، وفي الأيام الأولى حدثت فوضى عارمة، إذ تزامن تفشي الوباء مع عطلة رأس السنة الصينية، وتردد كثيرون على المستشفيات دون أن تكون لديهم أعراض مقلقة، لكنهم يخشون من أن تكون العدوى انتقلت إليهم من ركاب الحافلات.

تقول “تشو تسوي تشيونغ”: لقد استُنزفت إمكانيات المستشفيات مع تضاعف أعداد من يشتكون من الحمى والمشاكل التنفسية يوما بعد يوم، وأمام هذا الوضع ليس بمقدور الممرض أن ينكص على عقبيه هربا من الواجب، لم نأكل لقمة ولم نشرب جرعة ماء في ذلك اليوم.

أما رئيس قسم الأمراض المعدية بالمستشفى الدكتور “يو تج جيان”، فقال: ألغى طاقمنا الطبي عطلات رأس السنة الصينية وظل يعمل كل يوم، أنا أعمل 12 ساعة يوميا، وهذا ليس أمرا جللا لأن الأطباء متعودون على الدوام الطويل.

ويلاحظ “لونغ هو نام” أن تفشي الوباء استنزف إمكانيات المستشفيات “وتداول الناس العديد من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي حول ما يحدث في الصين ومستشفياتها”.

الحجر الصحي يُعلن على مدينة ووهان بعد تأكيد الدكتور “تشونغ نانشان” أن الفيروس ينتقل بين البشر

 

قنبلة على الهواء.. حصار دُبر بليل

كان يوم 20 من يناير/كانون الثاني الماضي تاريخا حاسما في تعامل الصين مع الفيروس، حيث فجر الدكتور “تشونغ نانشان” قنبلته في مقابلة تلفزيونية أكد فيها انتقال الفيروس بين البشر، بعد أن أصرت السلطات الصينية لأسابيع بأن الفيروس ينتقل للبشر من الحيوانات فقط ولا ينتقل من إنسان لآخر.

هذه المقابلة قلبت استراتيجية الصين إزاء تفشي الفيروس فأقدمت على قرار غير مسبوق، وفرضت الحجر الصحي على مدينة ووهان التي يقطنها 11 مليون إنسان، فسُدت المنافذ المؤدية للمدينة وتوقفت وسائل النقل العام، ثم توسع الحجر الصحي ليشمل كل مقاطعة “هوبي” التي يسكنها نحو 60 مليون إنسان.

هذا الإجراء علق عليه “وقاص آدناوالا” الصحفي بمجلة “ذي إيكونومست” قائلا: يُذكر للسلطات الصينية أنها حاولت تقليل تدفق الناس على المحافظة وعلى السفر خارج البلاد، ومددت عطلة رأس السنة، وفي أوضاع كهذه يحدث الضرر من الفزع أكثر من أي شيء آخر، ولهذا كان من الأفضل تقاسم المعلومات في وقت أبكر.

ويعتبر “لونغ هو نام” أن هذه الاستراتيجية كانت فعالة “والصين وحدها هي القادرة على العمل بها، ولو لم تقم بذلك لكانت استسلمت لليأس، كأنهم قالوا للناس: فلتحترق مدينتكم، سنضحي بها من أجل إنقاذ الأمة والعالم أجمع”.

“ليو وو يوان” ذات الـ 22 ربيعا تقيم في العاصمة بكين منذ سنة كاملة، وكانت تتحرق شوقا لقضاء عطلة رأس السنة الصينية في مدينتها ووهان، لكن الرحلة تبخرت بعد تداول أخبار تؤكد انتقال عدوى كورونا بين البشر، وتفطر قلبها ألما عندما طلبت منها أمها في الهاتف عدم العودة إلى ووهان.

تقول الشابة “ليو”: بعد المقابلة الصحفية مع الدكتور “تشونغ نانشان”، اتصلت بي أمي وكانت المكالمة لحظة لا تنسى، فقد طلبت مني عدم العودة وشعرت بالحيرة والارتباك، ثم قررت البقاء في بكين، ولاحقا استيقظت الرابعة فجرا على خبر مفزع يقول إن السلطات فرضت إغلاقا كاملا على المدينة، فاتصلت بوالدتي على الفور وما إن بدأت الكلام حتى شرعت في النحيب، فلا بد أن الأمور ساءت، وإلا لما فرضوا خناقا على المدينة.

لقد كان معدل التفشي سريعا وغير مسبوق قبل فرض الطوق على المدينة، وكان الكثير من الناس يصابون بالمرض التنفسي، وكانت العدوى ستبلغ حدودا غير مسبوقة، لذا فإن ما أقدمت عليه الحكومة هو عين الصواب، وقد بدا موغلا في القسوة ولكنه سديد، وفق خبير الأمراض المعدية “لونغ هو نام”.

بعد اجتياح الفيروس للعالم، منظمة الصحية العالمية تعلن كورونا فيروس وباء عالميا

 

إغلاق الأبواب.. تعزيز دفاعات الدول أمام الزحف القاتل

في اليوم الأخير من عام 2019 وبعد أيام من تلقي منظمة الصحة العالمية إخطارا باحتمال تفشي فيروس غامض في ووهان، عززت الدول دفاعاتها أمام أي احتمال لانتقال العدوى إليها، فلجأت سنغافورة إلى تقنية الفحص الحراري للقادمين من “ووهان”، ولاحقا أوصدت الباب أمام الصينيين وكل من زار الصين، واتخذت دول أخرى تدابير احترازية فأغلقت منافذها الجوية أمام الرحلات القادمة من الصين، ثم تزايدت الإصابات خارج الصين، فرُصدت أكثر من 45 ألف حالة في أكثر من 25 بلدا، وسجلت وفيات خارج الصين أيضا.

لفت الدكتور “أسك كوروب” إلى أن “المشكلات كثيرة ومن بينها الأسفار الدولية، فالحجر على الصين ليس حلا لأن الكثير من الناس أصيبوا خارجها ويسافرون إلى كل مكان، وهذا يعني أن الأمور غير مطمئنة، خصوصا وأن الكثير من المصابين لا تظهر عليهم الأعراض، ومن الوارد أن ينقلوا العدوى للآخرين”.

لقد ترك وباء سارس ندوبا على سنغافورة وهونغ كونغ، ففيهما سجلت أعلى إصابة بالفيروس خارج البر الصيني، ففي هونغ كونغ قتل السارس 299 شخصا، وأودى بحياة 33 في سنغافورة، ولكن التجربة المريرة ساعدت المنطقة على التعامل مع فيروس كورونا المستجد بطريقة أكثر فاعلية.

يوضح “لونغ هو نام” أن هونغ كونغ تصرفت بمنتهى الفاعلية والدراية، فمن دون تردد أغلقت المدارس، وأعلنت حالة الطوارئ الصحية، وحجرت على المصابين. وفي سنغافورة التي خبرتها جيدا خضعنا على مدى 16 عاما للتدريبات على التصدي لفيروسات مثل سارس وها نحن مستعدون لفيروس كورونا المستجد، رفوف من الكتب وأكوام من المنشورات التي ترشد إلى ما يجب فعله، من مواقع الحجر الصحي إلى أماكن النقاهة.

هذه الاستعدادات تجيب على أسئلة من قبيل: ما الذي يحدث للمدرسة عندما تغلق أبوابها، وما الذي يجري إذا توقف الجميع عن العمالة، ومن أين نستقدم اليد العاملة الناقصة؟

“لقد كانت الإجابات كلها جاهزة قبل تفشي الفيروس بوقت طويل”.

خلال أسبوعين أنشأت الصين في ووهان مستشفيين لاحتواء الفيروس

 

بناء مستشفيين في أسبوعين.. حالة استنفار كبرى

عند هذه النقطة تعود الكاميرا للدكتور “يو تج جيان” رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى “شن تشن” ليتحدث عن اللحظة التي تلقى فيها خبر تفشي الوباء والإجراءات التي اتخذها لمواجهته، إذ يقول: كنت مع زملائي في المكتب وقرأنا خبر تفشي الفيروس على موقع التواصل الاجتماعي الصيني “وي تشات”، فوجئنا وشعرت بأنه مرض آخر معد لا غير، ولم نتوقع هذا الانتشار.

أنشأ “يو تج جيان” وحدة طوارئ واستقدم إليها متطوعين من أقسام أخرى، كما استحدث وحدة تشخيص عن بعد بهدف تخفيف العبء على الطواقم الطبية وتوفير المعلومات الدقيقة للذين لم يجزموا بإصابتهم بالمرض.

يقول الدكتور “يو تج جيان”: لقد وقع الأطباء تحت ضغط كبير لأن الكثير من المرضى يتدفقون على المستشفى منذ تفشي الفيروس، ولذا أنشانا المنصة الرقمية لتوفير المعلومات المجانية عن الوباء.

وتقول الممرضة “تشو” إنها تشعر بالرضا لأنها تمد يد العون بعد أن تلقت تدريبا على الطوارئ والتعامل مع مرضى فيروس كورونا المستجد.

تدابير الصين لاحتواء الفيروس شملت إنشاء مستشفيين في ووهان اكتملا خلال أسبوعين، وقطعت السلطات عطلات الآلاف من عمال البناء وضاعفت مرتباتهم، وقد عملوا على مدار الساعة لبناء مؤسستين تتسعان لـ2500 سرير، لكن الصعاب لم تذلل كلها، فاحتواء الفيروس ينجح عبر ما يسميه الأطباء “الهرم”.

هذا المصطلح شرحه الدكتور “أسك كوروب” بالقول: على رأس الهرم المرضى الذين تظهر عليهم الأعراض، ويليهم مصابون يظهر عليهم القليل من علامات المرض، أما قاعدة الهرم فتعني أعدادا غفيرة من المصابين الذين لا تظهر عليهم أي أعراض، واحتواء المرض يتطلب الانتباه إلى أكبر أجزاء هرم المرض.

ثم يتدخل “لونغ هو نام” قائلا: علمنا الطب أن الموارد الشحيحة تفرض علينا علاج أشد الناس مرضا، وهؤلاء هم قمة الهرم ويمثلون 10 إلى 20% من مجموع المرضى الذين ننتبه إليهم، أما الـ 80% فلا نحجر عليهم، وإنما نتركهم طلقاء ومن الوارد أن ينقلوا المرض إلى من حولهم.

السلطات الصينية تدرس منع التماسّ بين الناس والحيوانات البرية

 

إجلاء الرعايا من الصين.. على من يقع اللوم؟

عندما اعتبرت منظمة الصحة الوباء مدعاة لإعلان حالة الطوارئ، جاء رد العالم سريعا، فمنعت رحلات الطيران من وإلى ووهان ومقاطعة هوبي عموما، وتسابقت عشرات الدول لإجلاء رعاياها من هناك، ويومها كانت الصين غارقة إلى أذنيها في جهود محاولة الاحتواء الفيروس، فهل تلام على تمدد الوباء في العالم؟

في 2003، تلكأت الصين نحو 4 شهور قبل أن تعترف للعالم بخطر السارس، واتهمت بالتستر وحجب المعلومات، وفي هذا الوباء تلكأت شهرا واحدا ثم أعلنت الأمر.

بحلول الثاني عشر من يناير/كانون الثاني عرّف العلماء الصينيون الوباء بأنه فيروس مستجد يشبه سارس، وسارعت بكين لاحتواء الوباء والتحكم فيه.

مرة أخرى يقول الصحفي “وقاص”: يذكر للحكومة الصينية أنها لجمت تدفق المسافرين من وإلى مقاطعة هوباي وداخل البلاد كلها، ومددت عطلة رأس الصينية الجديدة، وهذه نقاط مضيئة في عمل الحكومة.

لكن مسارعة الصين إلى التحرك والشفافية النسبية لا تكفي لوقف الخوف، ففي نظر الدكتور “أسك كوروب”: لا بد من التعرف على أصل الوباء، فعلينا البحث عن أصل البلاء، ومهما كانت العدوى فعلينا بحث آليات انتقالها من عالم الحيوان إلى البشر، وأين زلت أقدامنا، ولماذا سمحنا بالتماس بين الناس والحيوانات البرية، علينا التخلي عن هذا النهج.

تطوير لقاح ضد كورونا سيتطلب شهورا، إذ يجب أن يمر بسلسلة من التجارب العادية قبل تجهيزه للاستخدام

 

لقاح الفيروس.. “إننا نلعب بالنار”

مع تعاظم الخوف سكنت شوارع الصين عن الحركة، حتى أن المدن البعيدة عن ووهان تحولت إلى ما يشبه المقابر بعد أن كانت تضح بالحياة، فقد هجر الناس الحدائق ومرافق الترفيه ولزموا بيوتهم، وأما في ووهان مركز البلاء فقد أطبق الرعب على الجميع مع تضخم سجل الوفيات يوما بعد يوم.

وفي المختبرات كان العلماء يسابقون الزمن بحثا عن لقاح أو علاج يلجم هذا المرض، فما هي فرص نجاحهم؟

على هذا السؤال يُجيب “لونغ هو نام” قائلا: من الأخبار السارة توظيف معلوماتنا عن لقاح سارس وتطبيقها على فيروس كورونا المستجد. عليهم تصميم اللقاح وهو أمر يسير نسبيا، واستنبات الفيروس في الوسط المناسب والبرهنة على أن المضاد يفعل ما يفترض به أن يفعل، ثم يتعين تصنيع الجرعات بكميات ضخمة. لكن هناك خبر غير سار وهو أن تطوير اللقاح يتطلب شهورا، إذ يجب أن يمر بسلسلة من التجارب العادية قبل تجهيزه للاستخدام، و”سيستغرق تصنيعه من 9 إلى 12 شهرا حتى لو كان متوفرا الآن.

أما الدكتور “أسك كوروب” فلا يتوقف كثيرا عند معضلة اللقاح بقدر ما يتمسك بضرورة ابتعاد الإنسان عن الحيوانات البرية، ويرى أن لو اتُخذت إجراءات ضد المتاجرة بهذه الحيوانات بعد ظهور سارس لما وصلنا إلى هنا، ويضيف: لن يفيدنا التحسر على الماضي، ولكن البشر لم يُخلقوا للعيش مع هذه الحيوانات جنبا إلى جنب.. إننا نلعب بالنار.

هذه الفكرة يؤيدها “لونغ هو نام” أيضا إذ يقول: لدينا ميول لاستهلاك كل طائر وزاحف وسابح، إن وضعها على طاولة الطعام يعني توجيه الدعوة للفيروسات، قد يذهب الطبخ بأضرار الفيروس لكن الطباخ ومن يتعامل مع تلك الحيوانات في السوق معرضون للإصابة في كل الأحوال، لعلنا نعيد النظر فيما ندخله إلى بطوننا.

في غياب لقاح ناجع لهذا المرض الغريب، سيظل المرضى يتساقطون أمام أعين الأطباء بدون القدرة على فعل شيء حيال ذلك

 

“سنحرز النصر”.. تفاؤل في معمعان الوباء

رغم تعاظم أعداد الإصابات والوفيات، فإن الصينيين لا يساورهم شك في قدرتهم على تجاوز هذه المحنة والانتصار على الفيروس القاتل.  تقول الممرضة “تشو” إن مصدر هذه الثقة هو أن التدابير الاحترازية تُنفذ بالأسلوب الأمثل.

أما الشابة “ليو: فتعلق: بصفتي من أبناء ووهان أرى أننا أحسنّا صنعا وبرهنا على عزمنا في عزل المدينة، فتحركت مدن أخرى للتحكم بالفيروس، وما فعلته الحكومة محمود الأثر، وأنا واثقة من أننا سنحرز النصر.

وبينما طغى التشاؤم على نهاية حديث الدكتور “أسك كوروب”، تمسك “لونغ هو نام” بالتفاؤل قائلا: سنركب السهل والصعب وسنُفجع في أصدقاء وأقرباء، ولكن العالم سيخرج من المحنة أقوى وأفضل حالا، وسنذكر من رحلوا لنمنع هذا الفصل من أن يكرر نفسه في المستقبل.