قصة القهوة.. العجوز المعمِّرة والأحفاد البررة

القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة في سلام مبتكر مع النفس والأشياء”.. هكذا تحدث محمود درويش عن القهوة.

ماذا عنك؟ هل فكرت يوما وأنت جالس ترتشف قهوتك في الصباح كي تتمكن من بدء يومك بنشاط، بأنه من الممكن أن معجزة ما تحوّل زهرة البن الناصعة البياض إلى ثمرة حمراء تستخرج نواتها لتطحن وتصبح مشروبا أسود؟ قد يكون التفسير أسطوريا لكن فيه جانب من القص الواقعي.

قد لا يدرك كثيرون ممن أصبح فنجان القهوة جزءا من مسارهم اليومي أو رفيقهم الذي يحدثونه ويسامرونه ويدفنون أسرارهم برفقته، أن طريقا حالكا يرافق عملية إنتاج البن منذ أكثر من قرنين، وأن وجوه ملاين العبيد قد ذابت في سواد القهوة وصنعت طعمها المر.

كان للمشروب الأسود العجيب المسمى القهوة تأثير كبير في ثقافات بعض الشعوب حتى إن بعض تجار الذهب تخلوا عن تجارتهم ليتوجهوا نحو تجارة البن، ورافقتها طقوس وأعراف، وتغنى بها كثيرون رغم تاريخ شهرتها المحزن أحيانا.

يُنتج أكثر من 70 بلدا البن الذي يستخرج منه مشروب القهوة، وتعتبر نواة البن الأخضر ثاني منتوج يصدّر بعد النفط الخام، وأشهر أنواع البن وأكثرها استهلاكا هي “كافي أرابيكا” و”كافي روبوستا”.

تعتبر فنلندا أكثر الدول استهلاكا للقهوة بـ12 كيلوغراما للفرد في السنة، تليها النرويج بقرابة 10 كيلوغرامات ثم إيسلندا بـ9 كيلوغرامات. والمثير في هذه المعادلة أن الدول التي تنتج ملايين الكيلوغرامات من البن مثل أثيوبيا -البلد الأصلي للقهوة- واليمن لا تتصدران قائمة الدولة التي تستهلك كميات كبيرة من البن.

وعلى الرغم من أن شعوبا عربية وإسلامية عرفت القهوة منذ القرن العاشر ميلادي، فإنها تستورد الآن بضخامة أنواعا من البن من شعوب عرفت القهوة بعدنا.

لعنة الثمرة السمراء

من الغريب أن تكون قهوة البوربون أغلى أنواع القهوة التي يصل فيها سعر الكيلوغرام الواحد قرابة 450 يورو، وهو نوع اشتق اسمه من التسمية القديمة لجزر اللاريونيون الفرنسية الواقعة جنوب غرب المحيط الهندي، حيث كانت هناك مزارع كبرى للبن تشبعت بعرق العبيد.

بدأ مسار انتشار القهوة خارج تربة الأم التي احتضنتها وهي أثيوبيا، ثم اليمن الذي وضع أسس بناء “إمبراطورية القهوة” فوق ظهور العبيد؛ بواسطة زوار من الغرب للشرق الأوسط تذوقوا ذلك المشروب العجيب.

كتب ليونارد راوولف -وهو طبيب ألماني- في عام 1583 واصفا القهوة بعد عودته من رحلة استمرت قرابة عقد من الزمان في منطقة الشرق الأوسط: هي مشروب أسود سواد الحبر، وهو صالح ضد آلام كثيرة خاصة آلام المعدة، يشربه مستهلكوه صباحا في كأس من خزف، ويمررها الجالسون إلى بعضهم حيث يرتشف كل شخص رشفة رنّانة، وهي متكونة من ماء ومن ثمرة تسمى البن.

صورة لمزارعي القهوة في اليمن
صورة لمزارعي القهوة في اليمن

كان راوولف من أوائل الغربيين الذين وصفوا محاسن القهوة، وهو ما قد يكون قد أغرى تجار التوابل بالمتاجرة بهذه الثمرة العجيبة التي حملت منذ اكتشافها تناقضات كثيرة.

تطور نسق التجارة في هذه الثمار التي شحنت ملايين الأطنان منها على ظهور العبيد منذ بداية انتشارها في العالم الغربي، لترصف في السفن من المستعمرات الأفريقية أو الآسيوية وتباع في الدول الغربية، ولم يكن للمزارعين أو منتجي البن نصيب يذكر من “الذهب البني”.

لم يتغير الحال في مزارع البن في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا بعد إلغاء العبودية، ورغم أن إنتاج ثمرة البن الأخضر يعتبر ضمن “التجارة العادلة” التي يجب أن تذهب مداخيلها للاحتياجات الاجتماعية في الدول المنتجة لها مثل الصحة والتعليم، فإن نصيب المنتجين انخفض من قرابة 44% إلى 16% من قيمة الإنتاج الكلي.

في المقابل يتمتع مديرو العلامات التجارية الكبرى للقهوة بملايين الدولارات، مثل المدير العام السابق لعلامة ستاربكس المعروفة الذي يتقاضى قرابة 30 مليون دولار سنويا، في حين يتقاضى مزارع في حقل البن 600 دولار في السنة، وهو مؤشر على أن العبودية لا تزال تسكن مزارع البن خاصة بعد فضيحة الشركة المذكورة في العام 2013، حيث تمت مداهمة مزرعة للبن في البرازيل -وهو أحد مزودي شركة ستاربكس- وتم إنقاذ 18 عاملا هناك قالوا إنهم يعملون في ظروف سيئة جدا يمكن وصفها بالعبودية. ورغم أن المزرعة المذكورة حصلت على شهادتين تقران باحترامهما لشروط التجارة العادلة، وإحدى تلك الشهادات مسلّمة من قبل شركة ستاربكس، وأخرى من منظمة مختصة في هولاندا، فإن تلك المزرعة كانت تعامل المزارعين على أساس أنهم عبيد، حيث روى بعضهم أنهم يضطرون إلى تصفية براميل الماء التي كانوا يشربون منها من جيف الخفافيش التي تسقط بها، وأنهم يصارعون حتى لا تسرق الجرذان طعامهم.

لكن لا تكترث الشركات الكبرى المصنِّعة للمسار اللاإنساني لإنتاج القهوة والذي يسبق عملية تعليب ثمرة البن. وقد سبق لمدير رابطة القهوة الوطنية التي تشمل علامات تجارية معروفة مثل نسكافيه وماكسويل هاوس وفولغرز أن قال “هذه الصناعة -أي صناعة القهوة- ليست مسؤولة عما يحدث في بلد أجنبي”، وفق ما نقله الكاتب الأمريكي جون روبنز.

القهوة بين السياسي والديني

تقول الأسطورة إن اكتشاف ثمرة البن الذي تستخرج منه القهوة كان عن طريق راعٍ في أثيوبيا يسمى خالدي، حيث لاحظ تأثيرا حسنا للبن في خِرفانه التي استهلكت تلك الثمرة.

وتقول أسطورة ثانية إن ذلك الراعي قد تذوق ثمرة البن صدفةً، واكتشف مذاقها الرائع حين سقطت بعض الثمار في مِقلاته.

ونقل الروايتين السابقتين الراهب الإيطالي المتخصص في اللغات الشرق أوسطية “أنطوان فروستيس نايرون” في كتاب عن القهوة عام 1671، غير أن رواية مختلفة تَنسب اكتشاف شجرة البن والقهوة إلى الشيخ الصوفي أبو الحسن الشاذلي الذي اعتكف في جبل وكان يقتات من ثمار البن، لكن الأمر المؤكد أن القهوة شهدت انتشارا في اليمن في القرن الثاني عشر تقريبا الذي عُرف بجودة القهوة هناك، حيث تنسب قهوة موكا الشهيرة إلى ميناء المخا في اليمن الذي كان ميناء أساسيا للسفن الأوروبية التي تقوم بتصدير البن.

أثارت القهوة جدلا سياسيا ودينيا منذ القرن العاشر للهجرة، حيث ذكر الشيخ عبد القادر الجزيري في كتابه “عمدة الصفوة في حل القهوة” مسألة تحريم القهوة وتحليلها، ونقل آراء متضاربة عنها، يقول: فمن قال بحلها يرى أنها الشراب الطهور المباركة على أربابها الموجبة للنشاط والإعانة على ذكر الله تعالى وفعل العبادة لطلبها، ومن قال بحرمتها مفرط في ذمها والتشنيع على شربها.

تنسب قهوة موكا الشهيرة إلى ميناء المخا في اليمن الذي كان ميناء أساسيا للسفن الأوروبية التي تقوم بتصدير البن

وأتى الجزيري على ما سماه بالفتن التي تسببت بها القهوة في مكة والحجاز ومصر، وذكر أن أحد الأمراء المسلمين كان قد أمر بإتلاف حبات البن وبهدم “المقاهي” كما عاقب كل من يشرب القهوة.

وأصبحت القهوة طقسا من طقوس المجالس الفكرية والعلمية في القرن السادس عشر، خاصة خلال فترة حكم السلطان العثماني سليم الأول، وتطورت تلك المجالس في عهد السلطان سليمان القانوني خاصة مع بناء أول مقهيين سُميا بشمس وحكمة عن طريق شخصين من سوريا، وذلك بين 1554 و1555 ميلادي، وأصبح هذان الفضاءان مفتوحان للعلماء والقضاة والدراويش.

ويبدو أن التجمع على القهوة وطقوسها كان مُخيفا للحكام في تلك الفترة، حيث لم تكن طقوس شرب القهوة أو مجالسها مجرد حلقة لهو أو سمر، بل إن الحكام سلطوا سيف الفقهاء في كل مرة من أجل تحريم شرب القهوة وبالتالي منع هذه المجالس.

فُتحت المقاهي بداية القرن السادس عشر في القاهرة ومكة، وكانت مركزا للعب الشطرنج ولإلقاء الشعر، لكن ذلك لم يرق لحاكم مكة الذي استدعى الفقهاء للنظر في حكم شرب القهوة بالرجوع إلى النص القرآني، وأقر الفقهاء والأطباء بتأثير القهوة السلبي وساووها بالخمر، ومُنع شرب القهوة بعد حكم الأطباء بالضرر الذي تحدثه، وأُقرت العقوبات تلو العقوبات في حق كل من يخالف هذا الأمر ويشرب القهوة.

لم يوافق حاكم مصر على هذا التحريم، حيث قال إن أطباءه أقروا بأن القهوة مفيدة للصحة وأنها بالتالي محببة لله.

وبالرغم من هذا المد والجزر الذي شهده حضور القهوة في الثقافة الإسلامية خاصة في القرون الوسطى، فإنها حملت اسما يدل على تجذرها في المنطقة العربية وهي قهوة “أرابيكا” التي تعتبر من أجود أنواع القهوة.

فن القهوة وقهوة الفن

في قهوة عالمفرق في موقدة وفي نار

نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار

جيت لقيت فيها عشاق اثنين صغار

قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار

يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر

طرقات البيوت عم تكبر عم تكبر

تِخلص الدني وما في غيرك يا وطني

يا وطني بتظلك طفل صغيّر

حين يتغنّون بالقهوة

انتقلت القهوة من مجرد مشروب إلى حالة نفسية وفنية معقدة مع أغنية فيروز، أصبحت للقهوة ذكريات وحبا ووطنا وعمرا بحاله.

لم تكن فيروز الوحيدة التي تغنت بالقهوة، أسمهان قبلها وسميرة توفيق وكذلك ومحمد الجموسي وصباح وغيرهم من الذين وجدوا أن القهوة تعبير مباشر عن حلاوة الحياة ومرارتها، عن ألوان العمر المتدرجة كالقهوة من الأبيض إلى السواد الحالك.

عِشقُ العرب للقهوة لم يكن وليد البارحة، بل نظم فيها العرب الأوائل الشعر منذ فجر الإسلام، إذ قال فيها أبو نواس:

يا خاطِبَ القَهوَةِ الصَهباءِ يَمهُرُها
بِالرَّطلِ يَأخُذُ مِنها مِلأَهُ ذَهَبا

قَصَّرتَ بِالراحِ فَاحذَر أَن تُسَمِّعَها
فَيَحلِفَ الكَرمُ أَن لا يَحمِلَ العِنَبا

إِنّي بَذَلتُ لَها لَمّا بَصُرتُ بِها
صاعاً مِنَ الدُرِّ وَالياقوتِ ما ثُقِبا

أما أبو تمام فقال:

وقهوة كوكبها يزهر
يسطع منها المسك والعنبر

وردية يحثها شادن
كأنها من خده تعصر

القهوة والسينما

أما السينما، فقد كرمت القهوة بمئات الأفلام وجعلت من هذا المشروب محركا للأحداث وعنوانا مغريا في أفيشات العديد من الأفلام العالمية مثل فيلم “القهوة الصينية” (Chinese Coffee) من بطولة آل باتشينو، وفيلم “مقهى” (Coffee Shop) من إخراج دايف آلان جونسون، كما لا ننسى الفيلم المميز “قهوة وسجائر” (Coffee and Cigarettes) من إخراج جيم جارموش.

بين أغنية فيروز وليالي العبيد الطويلة في مزارع القهوة وشعر أبي نواس وكل متناقضات الدنيا في تلك الحبة الصغيرة؛ لا يسعنا إلى أن نشكر فنجان القهوة في صباحاتنا الممطرة الوحيدة، وأن نقول كما قال نزار قباني: القهوة هي عجوز مُعمّرة، لها أحفاد بررة يقبّلونها كل صباح ومساء، وأنا أكثرهم برّاً بها.